حاطِبُ الليل
سعيدٌ هو ذلك الذي يجد في عتمة الليل سراجًا يُضيء له الطريق كالمنارة تُرسل أضواءَها، لتنفذ في سماء البحر والسماء كلاهما قد التفَّ في سواد الليل والسحاب، فتقع السفينة في حيرة ربَّانها، حتى تتلقَّى من منارة الشاطئ أضواءَها الهادية، فتهتدي إلى طريقها نحو المرفأ الآمن.
وما أكثر ما وقعت الأمم، عبر تاريخها، في حيرةٍ شبيهة بحيرة تلك السفينة التائهة وربَّانها، قبل أن تهديَها المنارة بأضوائها، وقد تختلف مواقع الحيرة في حياة الأمم، لكن أبرزها ظهورًا، موقع تجد الأمة نفسها فيه، وقد تنازعتْها أقسام الزمن الثلاثة: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، يريد كلُّ قسمٍ منها أن يحتكرها لنفسه، وكان الأصل في الحياة السليمة، أن تتناسق تلك الأقسام الثلاثة جميعًا، بحيث يأخذ كلُّ قسم منها موضعه الصحيح، كما تتناسق طفولة الإنسان القوي وشبابه، مع مرحلة الرجولة الناضجة، إن أحدًا لا يطالب الرجل المعافى أن يظلَّ على طفولته اللاهية، برغم ما يكون في لهو الطفولة من نعمةٍ وبراءة، ولا أن يطالبه بأن يقف عند شبابه الحالم، برغم ما تحمله أحلام الشباب من لذة الأمل، ومع ذلك، فالرجل الناضج القوي المعافى، لا بد له من لحظاتٍ يغفو فيها عن حاضره المليء بالنشاط والعمل، ليرتدَّ بذاكرته إلى أيام طفولته، ليرى براءَتها اللاهية فيبتسم، كما يحدث أن يعود كاتب بلغ ذروة الأدب، إلى كراسة الإنشاء عندما كان تلميذًا صغيرًا في أوائل مرحلته الأولى من مدراج التعليم، فيقرأ ليضحك ضحك المشفق العاطف على الطفل الذي كان، والذي خرجت من جلده عبقريةٌ أدبية فيما بعد، ولقد صدق القول الذي يقول: «إن الطفل هو أبو الرجل» بمعنى أنه من البذور التي كانت في حياة الطفل، نشأت جذور، ومن هذه تكون الساق، فالفروع، فالأوراق، فالأزهار والثمار، وعند هذه المرحلة من اكتمال النماء والنضج، تتكون في حياة الإنسان مرحلة اكتماله ونضجه، ليتلوها انحدار إلى ذبولٍ فموت.
وكما يرتدُّ الإنسان من ذروة اكتماله ونضجه، آنًا بعد آنٍ، إلى طفولته وذكرياتها، يرجع إلى عهد شبابه، وهنا لن يجد شيئًا كبراءة الطفولة ولهوها، بل يجد حيرةً بين ممكناتٍ عدة، لا يدري في أيٍّ منها يشقُّ طريقه إلى مستقبله؟ وكلُّنا يعلم من تاريخ حياته كيف وجد نفسه، وهو في مطلع شبابه، أمام بدائل كثيرة، يظن أنه قادرٌ عليها جميعًا، ولا يبقى عليه سوى أن يختار منها أحدها، إنه أشبه بمَن يجد نفسه في مفترق طرق كثيرة ومتفرعة، كلٌّ منها يؤدي — بالطبع — إلى نهايةٍ غير التي تؤدي إليه البدائل الأخرى، وإنه لقادرٌ على السير في هذا الطريق، قدرته على السير في ذاك، ولكن عليه أن يختار لنفسه طريقًا؛ لأنه لا يستطيع السير فيها كلها معًا في وقتٍ واحد، نعم كلُّنا يذكر كيف خُيِّل إليه في مطلع شبابه، أنه يستطيع أن يمشيَ في طريق الشعر ليكون واحدًا من فحول الشعراء، أو أن يمشيَ في طريق العلم ليكون من كبار العلماء، أو أن يمشيَ في طريق المال، أو في طريق القوة العسكرية، أو في طريق السياسة، لكن الحيرة هي: أيُّ الطرق يختار، وقلما تكون الحيرة منصبةً على «القدرة»؛ لأن الشباب يفترض في نفسه القدرة، وكثيرًا ما يُسرف في افتراضه هذا، حتى ليتحول معه الموقف إلى شطحات الخيال الجامح، إلى أن يصدمَه «الواقع» العنيد، فيردَّه إلى صوابه، وكل ذلك لا ينفي أن يكون شباب المرء بما فيه من ثراء الممكنات، هو الينبوع الذي انبثق منه نضج الرجولة، عندما تتبلور الممكنات الكثيرة في طريقٍ «واقعيٍّ» واحد.
هكذا تختلف المراحل في حياة الفرد الواحد، اختلاف التناسق، وليس اختلاف تناقض هدَّام: طفولة تنبثق منها مراهقة وشباب، ومن الطفولة والشباب تنبثق مرحلة النضج، ثم يبدأ الذبول فالرحيل، لتتعاقب الأجيال، لكن هذا التناسق الحيوي البنَّاء، لا يتحقق في صورته المقبولة إلا في حالة الصحة وسلامة التكوين، أما إذا اضطربت خطوات السير بالمرض أو ضعف النشأة وسوء التنمية البشرية، فهنا قد تجد طفولة تمتدُّ مع صاحبها من مهده إلى لحده، أو تجد مراهقة قد حلَّت محل النضج، وبهذا الاضطراب تمرُّ الأعوام على غير مألوفها، فكأنها لم تَعُد أعوامًا تمضي بصاحبها في مدارج الصعود نحو اكتمال النضج والإبداع، بل انقلبت مراحل الزمن لتصبح وكأنها يومٌ واحدٌ مكرر، أو ليصبح الزمن وكأنه وعاء بلا قاع يُمسك خيرات الحياة ليراكمها فتزداد قوةً وهداية.
ومثل هذه الاستقامة أو العوج في تتابع المراحل من حياة الفرد الواحد، قد يتسع ليُصيب أمةً بأسْرها؛ فالأمة السليمة المعافاة، تحيا حياتها كما يحيا الفرد السليم المعافى حياته، فتبدأ مرحلة البساطة، لتنتقل منها آخر الأمر إلى نضج حضاري يوازي نضج الرجولة في قوته، وفي مغامرته نحو أن يقهر الصعاب ليُخضعَها لسلطانه قبل أن تُخضعه، فتتركه بين أيدي الأقوياء هزيلًا ذليلًا، وإذا شئت مقارنةً بين الحالتين، فقارنْ أربعة قرون في حياة الأمة العربية امتدت بين القرن السابع الميلادي والقرن الحادي عشر، بأربعة قرون أخرى في حياة الأمة ذاتها، امتدت بين القرنَين السادس عشر والعشرين، ولا أظنك إلا واجدًا في الحالة الأولى إنسانًا يصعد درجاتٍ أربعًا في قوةٍ تتزايد، وفي علمٍ يتزايد، وفي إبداعٍ حضاريٍّ يتزايد، كما أنِّي لا أظنك إلا واجدًا في الحالة الثانية إنسانًا يهبط درجاتٍ أربعًا، في قوةٍ تتناقص، وفي إبداعٍ علميٍّ يتناقص، وفي قدرةٍ على البناء الحضاري تتناقص، وإنِّي — على قول المتنبي:
فالمعول في الصعود أو في الهبوط هو «الإبداع»؛ فالصاعد «يبدع» لنفسه ما يصعد به، وأمَّا الهابط فتضيع منه القدرةُ على الإبداع فيهوي إلى الحضيض، على أن الحضيض هنا نوعان: فحضيض منهما يكون فيه الضعف والجهل والفقر، وما إليها من ظواهر الانحلال والتدهور، وحضيضٌ آخر فيه العلم مأخوذًا من الآخرين، وفيه الصحة مأخوذة من طبِّ الآخرين، وفيه قوة القتال معتمدة على سلاح صنعه آخرون، وفيه — على الجملة — جوانب حضارية قائمة، لكنها جوانب مشتولة من بساتين الآخرين، وبهذا يكون هذا النوع الثاني من الحضيض، حضيضًا ظاهرُه ثراء وعلم وسلطان، وباطنُه عود من الحطب الجاف، علقت عليه الثياب الزاهية.
على هذا النحو كنت بالأمس أتأمل حالة «القلق» التي تجتازها الأمة العربية اليوم، بكل شعوبها ولا نستثني شعبًا منها، حتى لقد بادرني زائرٌ لسؤاله: فيمَ تُفكر؟ فلما أجبتُه قائلًا في صدق: كنت أفكر في حالة القلق التي تملأ صدورنا، أسرع من ناحيته إلى اعتراضي فقال: «القلق» يا أخي حالة «طبيعية» في فطرة الإنسان، وإذا سكن القلق في إنسان، كان معناه أن ذلك الإنسان قد مات، وحالة القلق عامةً لا تقتصر على فردٍ دون فرد، ولا على أمةٍ دون أمةٍ أخرى، ففيمَ حملك للهموم في غير عائدٍ ولا طائل؟ فقلت معلقًا: أحسبك يا صديقي قد خلطت بين قلقٍ وقلق؛ فالقلق الفطري الذي هو في صميم الحياة البشرية شيءٌ، والقلق الذي تُحدثه الأحداث الطارئة شيءٌ آخر، وأشرح لك الفرق كما أراه، شرحًا مختصرًا فأقول: إن القلق الحيوي الذي لا يشكو منه أحد، ومصدره تداخل اللحظات الثلاث: الماضية، والحاضرة، والمستقبلة، في كل نبضةٍ من نبضات الوعي؛ وذلك أن الإنسان وهو في لحظته الحاضرة، يرى فيها ما يراه، ويسمع ما يسمعه، تكون اللحظة السابقة لا تزال تُجرجر أذيالها لتمضي، أي أن لها بقية من حضورٍ، وكذلك تكون اللحظة القادمة قد أخذت تُرسل إلى بؤرة الوعي بشائرها ومقدماتها، فيكون الإنسان عندئذٍ مشدودًا بجزءٍ آخر من وعيه نحو ما مضى، ومشدودًا بجزءٍ آخر من وعيه نحو ما هو على وشك الظهور، وأما بقية الانتباه الواعي فتتركز فيما هو ماثلٌ بين يدَيه، فيَنتج نوعٌ من الشد والجذب، هو الذي يُحدث الشعور الدائم بالقلق، بل إن الحياة العضوية نفسها ليعتريَها قلقٌ دائم من هذا القبيل، وهو سرُّ قيام الحياة في الكائن الحي، وانظر إلى حركة التنفس شهيقًا وزفيرًا، وفي نبضات القلب إذ هي تنبض ثم تستريح لتعود فتنقبض، وفي حالتَي الجوع والظمأ، يزولان بالطعام والشراب، ليعودَا بعد حينٍ بنداءٍ جديد، ففي جميع هذه الحالات وأشباهها، تستبد بالكائن الحي حالةٌ معينة فيأخذه قلق، فيُشبع صاحب تلك الحالة ما قد اعتراه من نقص، فيزول القلق، ثم لا يلبث أن يعود، وهكذا دواليك وتلك هي «الحياة» في صميم صميمها.
لكن هذه الحالات القلقة، وإشباعها، ثم عودتها، وكذلك حالات الوعي المشدود بين «حاضر» مخلوط ببقايا لحظة فاتت — من جهةٍ وبمقدمات لحظة آتية — من جهةٍ أخرى، وما يتولد عن تلك الحالة الطبيعية من قلق، أمرٌ يختلف عن القلق الطارئ علينا بفعل الحوادث والظروف، وهذا النوع الثاني هو ما نشكو منه، ونريد أن نتعقبه إلى بذوره وجذوره، لعلنا نُزيل أسبابه فيزول وعندئذٍ نستردُّ أنفاسَنا، ونسير مع السائرين في ركب الحضارة القائمة، ومشاركين في البناء فلا نكتفي بالأخذ عما يُنتجه الآخرون، وإذا ما تحقق لنا ذلك، عُدْنا إلى سابق عهدنا من ريادةٍ وإبداع.
ولم يكَدْ يذهب عنِّي ذلك الصديق الزائر، حتى سعدت بزيارةٍ أخرى من ضيفٍ عربيٍّ كريم، يحمل إليَّ نسخةً من كتاب «حاطب ليل ضجر» للأديب الفاضل الشيخ عبد العزيز عبد المحسن التويجري، كنت قرأته مخطوطًا بغير عنوانٍ، فأيقنت أنِّي ظافرٌ بقراءة ثانية تمتع النفس وتعلو بها، شأن كلِّ أدبٍ رفيع، فقد كنت قرأت قبل ذلك ما نشره مؤلف هذا الكتاب الجديد، من أدبٍ يدخل معظمُه في «أدب الرسائل»، وأرى أن ليس في أدبِنا الحديث كلِّه، مَن ينافس الأديب الكبير الشيخ عبد العزيز التويجري في هذا الضرب من الأدب، وأخصُّ ما تتميز به رسائله — أيًّا كان من يفترض أنها موجهة إليه — أنه يتخذ من تلك الرسائل وسيلة للكشف عن خفايا نفسه، وما تحمله من ذكريات الماضي — ماضي حياته بصفةٍ خاصة — فيقارن بين ما كان من ناحية، وما هو كائنٌ من ناحيةٍ أخرى، فلا يجد أمامه بدًّا من إيثار ما كان على ما هو كائن.
نظرت إلى الغلاف الجميل الذي يُغلف كتابه الجديد «حاطب ليل ضجر»، ووقفتُ بضع دقائق عند العنوان، واسترعت انتباهي كلمةُ «ضجر»؛ لأن الضجر لا ينمُّ عن القلق، ولقد كنت منذ قليل أتحدث مع زائري السابق، عما أحسه من «قلق» يَسرِي في الأمة العربية كلها، وكان ذلك «القلق» هو الذي أخذتُ أحاول ردَّه إلى منابته في حياتنا، وتساءلت سرًّا: ترى هل أراد القدر أن يسوق إليَّ هذا الكتاب الآن، وكاتبه صاحب القلم البليغ، هو مَن هو في رهافة حسِّه، ليكون معي شاهدًا على الأمة العربية في يومها هذا؟ لقد جعل من نفسه «حاطب ليل»، ولم أدهش لذلك؛ لأنني أعلم مسبقًا أنه كُلِّف باستبطان ذاته، كمَن يغوص إلى أجواف البحر ليخرج منها بما عساه مصادفة، لا فرق عنده بين درَّةٍ وحصاها، إذا هو ينشد الحق، لا يبالي أن تكون الحقيقة الواقعة مما يسرُّ أو مما يُثير الشجن، ولم أشكَّ وأنا بعدُ عند عنوان الكتاب، في أن المؤلف قد جعل من نفسه «حاطب ليل»، بمعنى أنه قد صنع ما يصنعه محتطبٌ ذهب ليجمع أعوادًا للوقود، فالشبه قريبٌ بين ذلك الحاطب يجمع الفروع الجافة ليوقد بها النار، وهذا الحاطب (وأعني مؤلف الكتاب) الذي جاب في حنايا نفسه وثناياها، ليعود بما عساه واجده من خلجاتٍ ونبضات وذكريات، ولماذا هو «ليل»؟ إنه كذلك لأن النفس — كل نفس — تضنُّ بسرِّها فتُخفيه حتى على صاحبها، وإذن فهي في ذلك أشبه بليلٍ أرخَى سدوله على الأشياء ليُخفيَها، ولكن بقيت لي من العنوان كلمة «ضجر». وما إن خلوت إلى نفسي، واستعنتُ بالعدسات المكبرة، حتى أدرت غلاف الكتاب لأرى كيف بدَا وكيف سار، فطالعت أول ما طالعت قول المؤلف إن: «ما في هذه الرسائل قوافل من سوارح النفس، ملَّت المقام وضجرت، ثم تداعت في غير انتظامٍ على فم القلم»، ثم قوله عن صاحب ذلك القلم، إنه راح: «يحتطب من أوديته النفسية وقودًا يُضيء لقلمه، في عتمة الليل، الطريقَ الذي يمشي عليه.»
إذن فقد وجدت في هذا الكتاب، وفي كاتبه الأديب، ما يشدُّ أزري في مسعاي، حتى وإن اختلفنا في النتائج، فكلانا لا تكفيه الأسطح ويريد الغوص وراءها إلى جذورها، إلا أن الفارق بيننا في ذلك هو أنه — لكونه أديبًا مبدعًا — يتجه نحو دخيلة ذاته باحثًا وفاضحًا، وفي حين أني أُدير البصر فيما حولي، لأقيم الأحكام على المشاهد، وكلانا قد أخذه القلق مما رأى من أوجه حياتنا، فطفق يبني على ذلك القلق ما يبنيه، لولا أن محور القلق عنده كان في ذات نفسه وما يكمن فيها من ذكريات الماضي، فنراه يحفر في ذكرياته حتى يصل إلى الكبد والحشَى، ويصبح كأنه قد عاد إلى ماضيه، في أدقِّ ما كانت تنطبع به حواسُّه الظاهرة والباطنة على السواء من مؤثرات محيطة، وإن أدب الأستاذ التويجري في هذه العودة إلى الماضي، لهو أقرب ما يكون شبهًا بما فعله الأديب الفرنسي العظيم «مارسل بروست» (١٨٧١–١٩٢٢م) في كتابه الخالد: «البحث عن الزمن المفقود»، فكلا الرجلين منجذبٌ إلى أيامه السوالف، يركب إليها قطار الذكريات، متعقبًا تلك الذكريات واحدةً وراء الأخرى، حتى يصل إلى حيث يظن أنه هو ما كان قد سمعه ورآه في طفولته وشبابه، ذلك هو «القلق» الضجر عند الأستاذ التويجري، وأما القلق عندي فهو يجاوز حدود ذاتي إلى قلقٍ عامٍّ، أراه ساريًا في أصلاب الأمة العربية اليوم، وأحاول التعليل، وبعد هذا وذاك فقد نختلف في مغزى الحنين الذي نحسُّه معًا إلى ماضينا، قريبه أو بعيده على حدٍّ سواء، فربما كان الكاتب الكبير الشيخ عبد العزيز التويجري يودُّ لو أن ذلك الماضي قد عاد إليه ليعيش في بساطته وبراءته، وأما الحنين عندي إلى الماضي، فهو حنينٌ إلى ما يصلح أن يكون ملهمًا بوثبةٍ عربيةٍ قوية، نحو مستقبل يُبنَى على حضارة العصر بعلومها وفنونها وطموحها.
إذن فالسؤال الكبير الذي طرحتُه، وأطرحه على نفسي، هو: أين في حياة الأمة العربية ذلك الجذر العميق، الذي أنبت لها شجرة القلق بكل فروعها وأوراقها، وهي هي الشجرة الملعونة التي أكلنا من ثمارها المحرمة، فتمزقنا شعوبًا، ثم تمزق كلُّ شعب أفرادًا لا يكاد يحس أحدهم بوجود الآخر إلى جواره، إننا جميعًا في حالةٍ تقرب مما يسميه علماء النفس «بالعصاب»، يملؤنا الشعور بالإحباط، والخوف، وسرعة الانفعال وشدته، والريبة في الآخرين، وغير ذلك من ظواهر الحياة العصابية القلقة الضجرة، فما الذي أحدث فينا هذا كله؟ إن علاج الداء مرهونٌ بمعرفة طبيعته وأسباب حدوثه، ومهما يكن في الحياة الفردية أو الاجتماعية من عللٍ نفسية، فهي آخر الأمر محصلة ظروف — داخلية وخارجية — ومن بين تلك الظروف، الحياة الثقافية التي تحياها الأمة العليلة أو الفرد العليل، وإذا كان هذا هكذا، كان سبيل العلاج هو تبديل ظروف بظروفٍ، وزرع ثقافةٍ في العقول وفي النفوس، لتحلَّ محلَّ ثقافة أدَّت إلى ما أدت إليه من أوجه الضعف.
واقرأ ما شئت لكبار العلماء في أطراف الدنيا، ممن حاولوا بكل قدراتهم العلمية، أن يُحلِّلوا النفس الإنسانية في قوتها وفي ضعفها، وحاول أنت ما استطعت المحاولة، أن تُقيم على مشاهداتك وخبراتك تحليلًا وتعليلًا للنفس الإنسانية — أو قُل للشخصية الإنسانية، ليكون المعنى أوضح ظهورًا — يؤدي بك إلى تفسيرٍ مقبول لقوة الشخصية أو ضعفها، فأنت في آخر الشوط واصلٌ إلى نتيجة، تقترب من اليقين في صوابها، وهي أن الأمر في ذلك كله مردُّه إلى عاملَين هما: الأمن وجودًا وعدمًا، ثم إشباع الحاجات الطبيعية والنفسية وجودًا وعدمًا كذلك، فالقوة — إذن — مرهونة بالطمأنينة ليسعى الإنسان في مسالك حياته وهو آمن، ومع الطمأنينة تقوم الدعامة الثانية، وهي أن يُتاح للإنسان — فردًا أو جماعة — ألَّا يتعرض لدواعي الإحباط بشتى صوره وأشكاله، ولقد حدث في مناسبةٍ سابقة أن وجهتُ انتباهَ القارئ إلى قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ففي هذه الآيات الكريمة بيانٌ بالعاملَين الأساسيَّين اللذَين يؤديان بالإنسان إلى قوةٍ وارتقاء وازدهار، وهما: أن يكون آمنًا من الخوف، وأن يُشبع حاجتَه الطبيعية إلى غذاء، وأذكر أنِّي في تلك المناسبة السابقة التي تناولت فيها هذا الجانب من الموضوع، قد رأيت في العامل الأول — عامل الأمن من الخوف — ما يُنتج ازدهارًا في الجانب الثقافي من حياة الإنسان، وفي العامل الثاني ما يشير إلى الجانب الاقتصادي من تلك الحياة، وعلى هذين الجانبين: الثقافي والاقتصادي، تعتمد الحضارة بكل أبعادها.
والأمة العربية اليوم ينقصها الجانبان بدرجةٍ ملحوظة، ومن ثَم جاء «القلق» الذي أشرنا إليه؛ فأما جانب «الأمن» من الخوف فلا أظنُّ أن مواطنًا عربيًّا واحدًا، يشك في أن الطمأنينة لا تجد طريقها إلى صدورنا، ويكفيك أن تنظر لترى كم هم الأعداء الأقوياء الذين يُحيطون بالأمة العربية، ويُضمرون لها من الشر والغدر ما يضمرون، حتى لنسمعها قولةً مترددةً على الألسنة والأقلام بيننا، تقول إن الحروب الصليبية ما زالت قائمةً، حتى وإن اختلفت الأهداف الفرعية لتلك الحروب، فالهدف الأساسي عند الأعداء قائمٌ، وهو إيقاع الهزيمة بالأمة العربية، وأما الجانب الثاني، وهو جانب الإحباط، المتولد عن امتناع القدرة على إشباع حاجاتنا الطبيعية والنفسية، فواضحٌ مما يملأ الوطن العربي من فقرٍ ومرض وجهل، ولا يُستثنى الأقطار البترولية بثرائها؛ لأنها إن تكن قد أشبعت الحاجة إلى الضروريات المادية من طعامٍ وكساء ومأوًى ورفاهية، فلا أظنها قد أشبعت شيئًا من حاجاتٍ أخرى لها الضرورة نفسها، ومن أهمها حسن القبول عند الآخرين، والآخرون المقصودون هنا، هم الشعوب الأخرى التي صنعت حضارة العصر، وحققت لنفسها من جبروت السلطان ما حققت، فكلنا يعلم بأي ميزانٍ يزنُ أبناء الغرب المتقدم الإنسان العربي من أي شعبٍ عربي جاء، بتروليًّا كان أم غير بتروليٍّ على حدٍّ سواء، وبالله لا تقل لي: وما لنا وموازينهم، فنحن كذلك نَزِنهم بميزاننا فإذا هم الخاسرون لا، لا تَقُل ذلك؛ لأنك تعلم حقَّ العلم وأنت تقولها، أنك تكذب على نفسك، ولقد ذكرها ابن خلدون ذكرًا مستفيضًا، ليبيِّن كم يكون الرأي في الحضارة المعينة لصنَّاعها وأقويائها، لا لمن هم عيال عليهم، مفتقرون إليهم علمًا وعملًا، فالمعول في تقدير الأمم والشعوب إنما يرتكز أساسًا على مقدار المشاركة الإيجابية في الحضارة القائمة، والإضافة إليها بما هو جديدٌ مبتكر، حتى ولو جاءت تلك الإضافة على طريق النقد البنَّاء، ولا عجب إذا رأينا كفة الشعوب الصفراء آخذة في الصعود نحو اتجاه العصر وحضارته.
إننا الآن نبحث عن الجذور، جذور القلق الذي نزعم بأنه حالة تسود الأمة العربية في حياتها الراهنة: سياسةً، وفكرًا، وشعورًا، فإذا تحدثنا في هذا السياق بلغةٍ يستخدمها علماء النفس، قلنا إن موطن العلة إنما يكمن في بُعْد المسافة الفارقة بين «الأنا» و«الأنا الأعلى» في المواطن العربي، وشرح ذلك هو أن هذا المواطن العربي، إذ يُقارن بين حياته كما هي واقعةٌ بالفعل، من حيث منزلته بالنسبة إلى مَن تقدموا في مضمار العلوم والصناعات وفنون القتال، بل وفي أخص خصائص الإنسان، من فنٍّ وأدب، وتعاون على مساعدة المريض والفقير والمكروث بكارثةٍ من كوارث الطبيعة وغير ذلك، أقول إن المواطن العربي حين يقيس حياته الفعلية في هذا كله، بحياة غيره ممن تقدموا في مضمار الحضارة التي أفرزها عصرُنا ليعيش في ظلها وفي نورها، أو حين يعيش حياته تلك بما يرويه له تاريخ أمته عن أسلافه وهم في مواقع الريادة للعالم أجمع، وجد مسافة الفرق بين ما هو عليه، وما كان «ينبغي» أن يكون عليه، سواء أكان مدار القياس حياة أسلافه وهم في مجدهم، أم كان حياة معاصريه الذين طاروا في سماء التقدم بأجنحة النسور، وجدها مسافةً لا تقاس بالشبر ولا بالمتر، بل تقاس بالفراسخ أو بالأميال، وإني لأرجو أن تقرأ هذا وأمامك اعتباران: أولهما أن مدار الحكم على موقع المواطن العربي، إمَّا بالنسبة إلى الآخرين من معاصريه، وإمَّا بالنسبة إلى الآخرين من أسلافه، إنما هو مقدار ما يُضيفه إلى الدنيا كشفًا وابتكارًا، فكم هو بحاجةٍ إلى الآخرين، وكم هم في حاجةٍ إليه؟ أمَّا الاعتبار الثاني، فهو أن كاتب هذه السطور، لا يُباهي بما يكتبه؛ إذ هو لا يستثني نفسه من أي حكم يُلقيه على المواطن العربي؛ لأنه هو نفسه مواطنٌ عربيٌّ من قمة رأسه إلى أخمص قدمَيه، ينقصه ما ينقص سائر مواطنيه، فهذا الفارق البعيد بين «الأنا» العربية كما هي قائمة بالفعل، و«الأنا الأعلى» الذي يتمناه، هو أعمق الجذور التي أنبتت فينا حياة القلق الممرض، المضعف المميت.