سام وحام ويافث
الطريق الشارع، طريق الفاتحين.
ولكننا خططناها مرة واحدة بعلاماتٍ احترمتها الأمم، فكان ذلك الحُقب العربي المجيد، وكانت تلك الدولة العربية، العزيزة الجانب، التي استمرت نحو تسعين سنة، وبالتدقيق إحدى وتسعين سنة وعشرة أشهر.
وما سوى ذلك، فالخطط طُرُق شارعة تخضبت بدماء الأمم، والخطط علامات تجمَّدت دموعًا على وجه الزمان. والشاهد على ذلك هذا التاريخ المنقطع النظير في تواريخ الأمم. أجل، إن هذا التاريخ، الذي هو تاريخ الأمم، لَيشهد في كل صفحة من صفحاته على ما أقول.
وهو تاريخ طويل، مملٌّ مفجع، لا يُقدِم على مطالعته غيرُ القليل ممَّن يهمُّهم أخبار الأولين، وفظائع الحكام الغابرين.
إني إذن ملخِّصُه لك في هذه النبذة الواحدة، التي يمكنك أن تقرأها في جلسةٍ واحدة، ثم تُنشِد إذا شئت نشيد فخري البارودي، أو غيره من الأناشيد الوطنية الخيالية العديدة.
سأبدأ بالعلامات الأولى، علامات الحدود، وقد أعانتنا في خَطِّها الطبيعة. أي بلادي، إن الرمال والجبال والأنهر والبحار تحيط بك، فتتعاون في تعزيز حدودك. هو ذا البحر المتوسط يمدُّه البحر الأحمر عند العقبة، وهي ذي الجبال تقوم لحراستك في الشمال، وهناك الفرات وقد استلَّ سيفه في الشرق. ثم البادية، تلك الحليفة الصادقة المنيعة، وقد شُيِّدت في الجنوب حصونُها.
على أن ذلك كله لم يُغنِك شيئًا؛ فقد كنتِ، بلادي، الطريق الشارع، طريق الفاتحين، ومحجَّة الأمم. جاءوك صائلين بحرًا وبرًّا، ومن وراء الجبال، ومن وراء الصحراء، ومما دون الفرات ودجلة وبحر الروم. جاءك الآشوريون، والمصريون، والفرس، واليونان، والرومان، والعرب، والصليبيون.
وجاءكِ هولاكو عدو العمران، وتيمورلنك عدو الإنسان، وابن عثمان كابوس الزمان.
ثم جاءكِ من الغرب فاتحٌ كرسكي وهو ينشد ضالة الإسكندر، وجاءكِ من مصر ابنُ ألبانيٍّ عظيم ينشد ضالة الكرسكي الأعظم بونابرت.
وجاءكِ مع الفاتحين، وقبلهم وبعدهم، طائفةٌ من الآلهة، ورهطٌ من الرسل والأنبياء، لو وزِّع ثلثهم على العالم لبلبلوه، وقد بلبلوا نصفه، والعياذ بالله!
لنعُد إلى تعريف الخطط. فالخَط والخِطة أرض تنزلها، ولم ينزلها نازلٌ قبلك … إلخ.
لا يصحُّ هذا التعريف إذن في غير الشعوب التي سكنت هذه البلاد بعد الطوفان، ولكن المؤرخين مختلفون في ذلك. والأرجح أن أقدم الشعوب في هذه البلاد هم الحِثيون والعبرانيون والفينيقيون.
أما الحِثيون فكانوا يسكنون في الشمال، أو بالحري، في الأرض التي تمتد من جبال طوروس إلى دمشق، وكان مُلْكهم مقسَّمًا إلى خمس دويلات؛ أهمها اثنتان، تلك التي كانت قرقميش (جرابلس) عاصمتها، وتلك التي نشأت في دمشق وحولها.
وكان الفينيقيون يقطنون السواحل من طرطوس إلى صور، والعبرانيون يسرحون ويمرحون في المنطقة الجنوبية التي تُدعى فلسطين.
وهناك من يقول — والقول مثبوت في التوراة — إن الهجرة الكنعانية هي الهجرة الأولى إلى هذه البلاد، التي كانت تُدعَى بأرض كنعان، أحد أبناء حام؛ فالحاميون إذن هم أول مَن توطَّنوا هذه البلاد، بلاد كنعان، التي كانت تشمل لبنان وسورية وجميع أرض الحِثيين حتى النهر الكبير، نهر الفرات.
وقد كان فيها عندما دخلها بنو إسرائيل، بعد خروجهم من مصر، واحد وثلاثون ملكًا (في التوراة — يشوع ١٢: ٧–٢٤ — أسماؤهم وأسماء ممالكهم كلها).
وجاء موسى إلى أرض كنعان بإلهٍ اسمه يهوه، وكان الكنعانيون يعبدون إلهًا اسمه بعليم، فاحترب الإلهان وغلب اليهوه البعليم.
ثم أُسِّس لرب الأسباط مملكة كبيرة في الجنوب، هي مملكة يهوذا التي شيَّدها شاوول (١٠٣٠ قبل المسيح)، ووسَّع نطاقها داود، وضفر لها سليمان أكاليل المجد.
وبعد موت سليمان (٩٣٣ق.م)، انقسمت مملكة الجنوب إلى مملكتين: يهوذا وإسرائيل.
وكانت عاصمة إسرائيل شكيم (نابلس)، وكان بين إسرائيل ويهوذا من الحروب ما هو مدوَّن في التوراة. أما ملوك دمشق فكانوا يشنُّون الغارات على إسرائيل في أثناء تلك الحروب، وأَبَوْا بعد موت سليمان أن يدفعوا الجزية إلى أورشليم. بيد أنهم على ما يظهر كانوا موالين للفينيقيين، وقد أشركوا مع ربهم «رمَّان» في العبادة ربَّةَ فينيقيَّةَ عشتروت.
أما الفينيقيون، فقد كانوا بعيدين أكثر من سواهم عن الحروب، ومنصرفين كل الانصراف إلى التجارة.
هذي هي الدويلات التي كانت مؤسَّسة قبل الاستيلاء المصري، وأثناءه في سورية. وبعد انقراضها — كما سيجيء في الفصل الثاني — عمَّ اسم آرام هذه الديار، فأصبحت تُسمَّى آرامًا، وسكانها آراميين.
وآرام هو الابن الخامس لسام بن نوح، كان يسكن وبنيه بعد الطوفان في الجزيرة ما بين النهرين، قبل أن ينزح إلى هذه البلاد.
كلهم إذن — الآراميون والعرب والفينيقيون والعبرانيون — ساميُّون، إلا الحِثيين والكنعانيين، فهم من نسل حام.
سام وحام ويافث، رضي الله عن الثلاثة الأجداد.
ومما لا ريب فيه أن في بلادنا، أو بالحري في شخصية أهل البلاد ودمهم، ما لا يزال متوارَثًا من آثار الشعور الغابرة كلها — الكنعانية والإسرائيلية والمصرية والآشورية والحِثية والفينيقية والآرامية والكلدانية والفارسية واليونانية والرومانية والتترية والعربية!
فهل يا تُرى في العالم أجمع بلادٌ أخرى مثل هذه البلاد السورية؟
بلادي موطن العصبيات أنتِ ومدفن الوطنية.