الاستيلاء المصري والآشوري
يُثبِت ذلك ما اكتُشِف في تل العَمَرْنة على شاطئ النيل سنة ١٨٨٧ للمسيح، من الرسائل المكتوبة على قطعٍ من الآجُر، المرسلة من ملوك سورية وفلسطين إلى ملوك مصر: «إننا نقدِّم الخراج طائعين، وندعو لفرعون بالنصر المبين.»
وقد طالما تطوَّرت السيادة المصرية في هذه البلاد، فكانت تضعف وتقوى، وتتضاءل وتتجسَّم، تبعًا لما يكون من حال الدولة السائدة، أو من أحوال الدول المُسَوَّدة؛ ففي عهد رعمسيس الثاني مثلًا، كان الملوك الحِثيون والفينيقيون والكنعانيون والعبرانيون يدفعون الجزية ويقدِّمون الجنود صاغرين. وفي عهد سليمان الحكيم اضطرَّ فرعون أن يصاهر سيد أورشليم وملك يهوذا، ليظلَّ هذا مواليًا له.
وكان الفينيقيون أول مَن سلَّموا للآشوريين، ثم استعان الإسرائيليون بالفاتحين على أهل دمشق، الذين كانوا يشنُّون عليهم الغارات، فصاروا لقاء تلك المساعدة يدفعون الجزية لملك آشور.
ثم اتَّحد ملك إسرائيل وملك دمشق (٧٣٣ق.م) على آخر ملوك يهوذا، فاستعان هذا بالآشوريين عليهما فأعانوه، ووضعوا بعد ذلك على رقبته النير، فأمسى الملك أميرًا يدفع الجزية إلى سيد البلاد الأكبر ثغلات فلازر.
كذلك كان الفاتحون في ذلك الزمان ينصرون ملكًا على ملك، وأميرًا على أمير، ليتمَّ لهم النصر على الجميع. ليس في سياسة الفاتحين والمستعمرين شيء جديد.
وفي العَقد الأخير من القرن السابع (٦٠٧ق.م)، زحف الفرعون نخو غازيًا سورية، ليعيدها إلى حوزة مصر، فاستولى على القسم الجنوبي منها، ولكن نبوخذ نصر ملك بابل جاء بعد عشر سنوات يُخرِج المصريين من البلاد، فالتقى عندما وصل إلى قرقميش، عاصمة الحِثيين الأولى، بملك مصر، فالتحم الجيشان هناك (٥٩٧)، وكانت الغلبة للبابليين.
استمر بعد ذلك نبوخذ نصر في حملاته، فاستولى على سورية وعلى مملكة يهوذا، وظلَّت السيادة البابلية عزيزة في البلاد ستين سنة؛ أيْ منذ وقعة قرقميش إلى حين سقوط بابل (٥٣٨) بيد الفرس؛ فيكون الاستيلاء الآشوري البابلي قد دام في سورية نحوًا من ثلاثمائة سنة.
وقيل إن دولة الرعاة في مصر (١٩٠٠–١٥٢٥ق.م) كانت دولة عربية، ولكنها لم تكن على شيءٍ من الحضارة، وقد كان عهدها الطويل فظيعًا في شطره الأول، وعقيمًا في أطواره كلها. فلا عجب إذا كره المصريون الملوك الرعاة، وقام عليهم الفرعون آموسيس، مجدِّد النهضة الوطنية، فأخرجهم من البلاد (١٥٢٥)، وزحف بعد ذلك إلى سورية يؤدِّب السوريين لظنه أن الرعاة منهم، فكان فاتحًا مظفَّرًا.
ومن المؤرخين من يقول إن الملوك الرعاة سوريون، ولا فخر، فقد أقاموا في مصر نحوًا من أربعمائة سنة، وهم يأكلون من طيباتها، ويفسدون ويخرِّبون، وما أكلت سورية بسببهم غير النبوت وخبز العبودية.
وقد حارب شلمناصر هندبة ملكة الأنباط، عندما جاءت بألف هجَّان تنجد ملك دمشق عليه (٧٣٨)، وجاء في أنباء ثغلات فلازر ذِكْر زبيبة ملكة العرب التي خَلَفَتِ الملكة هندبة، والتي قدَّمت لثغلات بعدئذٍ الجزية.
وفي أنباء سرجون عن حملته سنة ٧١٥، ذُكِرت أسماء أربع قبائل عربية تغلَّب عليها، وجاء بالأسرى فأنزلهم في السامرة. ثم حمل سنحاريب (٦٨٨) على تلحونة، الملكة العربية، ملكة الأنباط، فلم تستطِع محاربته، فتركت خيامها ولاذت بقصرٍ في دومة الجندل.
وكان القُوَيطع ملك القِدار قد عصى ملك آشور، فحمل عليه إسرحدون فكسره وغنم أمواله، وسبى ربَّ أو صنم القبيلة المسمَّى «الطلسمين»، فعادت قِدار إلى الطاعة تقدِّم الجزية من ذهبٍ وفضة ولبان وحجارة كريمة لملوك آشور.
وجاء في أنباء آشور بنوبال في حملته التاسعة على سورية، ما يدل على أن القِدار والأنباط اتحدوا على الآشوريين ولم يقوَوْا عليهم، فقد شتَّت جيش آشور أولئك العرب، وساق أموالهم — أيْ أغنامهم وجمالهم — إلى دمشق، وسبى أمَّ القُويطع وأخته وامرأته، وسبى كذلك أصنام القبيلتَيْن؛ فأذلَّ العرب، فأمسَوْا بلا معين.
كل هذه الأخبار منقولة عن الأنصاب التي عثر الأثريون عليها في بابل، والتي قرأها وحلَّ رموزها الأثريون رولنسون وونكلار ودلتش وغيرهم Rawlinson, Winckler, Delitzsch من كتاب «البادية العربية»، صفحات ٤٧٧–٤٩٢.