الاستعمار الفارسي
كانت الدولة الحِثية الشمالية أكبر الدويلات السورية اقتدارًا، وأشدها بطشًا، فغلبت حتى المصريين مرةً، وأخرجتهم من فينيقية ومن أرض كنعان الجنوبية.
ثم تحطَّمت الدويلات الحِثية كلها تحت سنابك خيل الفاتحين من الشرق ومن الغرب؛ إذ احترب المصريون والآشوريون في قلب البلاد — وعليها — كما أسلفت القول، وعمَّ فيها الويل والبلاء.
وما خفَّ البلاء والويل في زوال الاستيلاء الآشوري البابلي، فعندما خلع قورش ملك الفرس نير البابليين، وأسَّس الدولة الأشمونية الفارسية الآرية، التي قامت على أنقاض الدولة الآشورية، شرع يبسط سيادته على البلدان التي كانت في حوزة ملوك بابل ونينوى، فتمَّ في عهده وعهد ابنه قمبيسس الاستيلاء الفارسي الآري على البلاد السورية كلها، سهلها وجبلها وساحلها، وتجاوزها إلى الجُزر كقبرص وغيرها، بل إلى بلاد الإغريق ومصر وأفريقية.
كان حُكم الفرس في هذه البلاد، بل في كل البلدان التي فتحوها، حكمًا استعماريًّا عسكريًّا، ولم يكُن للوطنيين يدٌ فيه البتة، فكان الملك يعيِّن حاكمًا من رجاله أو من آل بيته، ويمده بجيشٍ من أهل مادي وفارس لحفظ النظام والأمن والطاعة.
أما أهل سورية، فلم يجنِّد الفرس منهم إلا للغزوات والفتوحات في البلدان الأخرى، كما كان الأتراك مثلًا يجنِّدون السوريين لمحاربة أهل اليمن وعسير.
وكان لدولة الفرس أسطول عظيم يربو عدد مراكبه على الألف، كلها من صنع أهل فينيقية وقبرص واليونان. أما رجال الأسطول وجنوده، فمن أهل مادي وفارس، ولا غرو، فكيف تثق الدولة بالأهالي وحكْمُها فيهم حكْمُ المستعمر المستأثر المستبد؟ حكم طاغية يقول: ادفعوا الضرائب وقدِّموا الجنود طائعين صاغرين، وإلا فهذه كتائبي عندكم تعلِّمكم الطاعة أو تبيدكم!
استمر هذا الحكم الفارسي العسكري الاستعماري في البلاد السورية مائتين وثماني وعشرين سنة (٥٥٨–٣٣٠ق.م)، وبينما كانت الثورات تضطرم في البلدان الأخرى لخلع نير الأجنبي، فتحرَّرت اليونان سنة ٤٤٩، وتحرَّرت مصر سنة ٤٠٥، لم يحدث في سورية غير ثورة واحدة صغيرة غير ظافرة، وذلك في الجهة الفينيقية، وفي شرقي الأردن الذي كان يقطنه الأدوميون.
لم تكن سورية لملوك الفرس سوى طريقٍ إلى مصر وأفريقية وبلاد الإغريق، والطريق التي يسلكها الفاتحون يجب أن تكون آمنة، ويجب أن يكون فيها ما يكفي لتموين الجيوش. أما الأمن فقد أوجده ملوك الفرس — كما قلت — بما كان لهم من الحاميات الفارسية في البلاد. وأما التموين فأمره موكَّل بالخراج، والخراج ينمو نماءً عجيبًا في ظل الرماح: هاتوا الأموال، وهاتوا الأرزاق، وهاتوا رجالكم للحروب!
مائتان وثمانٍ وعشرون سنة من هذا الاستعمار الشرقي! وبعد ذلك؟ إنَّ مصرعَ الباغي وخيمٌ وإنْ تأخَّر مائتَي سنة؛ فقد أرسل الله الإسكندر — إسكندر بن فيليبوس المقدوني — ليؤدِّب الدولة الفارسية الأشمونية التي كان يسوسها في آخِر عهدها النساء والعبيد والخصيان.
وكان دارا الثالث — آخر ملوك الأشمونيين — قد همَّ باسترجاع بعض البلدان التي خسرها أسلافه السفهاء، فزحف بجيشه إلى سورية وقد اعتزم أن يغزو بلاد الإغريق.
ولكن الإسكندر كان قد عبر البحر إلى آسية (٣٣٤ق.م)، ومعه خمسة وثلاثون ألف مقاتل، فالتقى بقسمٍ من الجيش الفارسي في الأناضول، وكانت هناك وقعة «الغرانيق» التي كُتِب له فيها النصر الآسيوي الأول.
واستمر الفاتح الشاب زاحفًا على سورية، فوصل إلى خليج الإسكندرونة، حيث كان الملك دارا وهو متأهِّب للحرب، فالتحم الجيشان في وقعة إيسوس (٣٣٣) شمالي الخليج، وكانت الغلبة فيها للمقدونيين.
تقهقر الملك دارا بما تبقى من جنوده إلى الشرق، واستمر الإسكندر زاحفًا إلى الجنوب، فوقع الرعب بعد وقعة إيسوس في قلوب الفينيقيين والسوريين، فدَانَ أكثرهم له طائعين. «ولمَّا وصل إلى جبيل، تلقَّاه أهلها بالبشر والحفاوة.»
أما صور فأبت التسليم، ودافع أهلها دفاع المستبسلين في حصارٍ دام سبعة أشهر، ثم سلَّموا، وكان قد أرسل الإسكندر أحد قوَّاده إلى دمشق فاحتلها بجنوده، واستحوذ على خزائن دارا وما كان في المدينة لأعيان الفرس من المتاع والأموال.
وفي مدةٍ لا تتجاوز العشرين شهرًا أخرج الفاتح المقدوني الفرسَ من البلاد السورية كلها، كما أخرج الأحلافَ الترك في هذا الزمان.
أجنبي ينقذنا من أجنبي على الدوام!