الاستقلال النبطي
وأين كان العرب في كل هذه الأزمنة، أزمنة الاستعمار الفارسي واليوناني؟
ومَن هم الأنباط؟ يقول العرب إنهم سوريون، وكان الرومان واليونان يقولون إنهم عرب، أما أنهم ساميون ومن نسل إسماعيل، فممَّا تشهد عليه التوراة (تكوين ٢٨: ٩): «فذهب عيسو إلى إسماعيل وأخذ محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت (جد الأنباط).»
ولكننا لا نعود بالقارئ إلى ذاك الزمن الأقدم، وعندنا ما هو واضح ومؤكَّد في الزمن القريب من العهد المسيحي؛ أيْ في عهد المكابيين والسلاقسة اليونان.
جاء ذِكر الأنباط لأول مرة في سِفر المكابيين، وقد غزا أحدُ الملوك السلاقسة سنة ١٣٢ق.م المملكةَ النبطية وعاد خاسرًا. ففي هذين التاريخين ما يدل على أن الأنباط احتلوا البلاد التي هي عبر الأردن في بداية القرن الرابع قبل المسيح، وأن مملكتهم بعد مائة وسبعين سنة، كانت عزيزة الجانب، فلم يتمكَّن السلاقسة من الاستيلاء عليها.
وكانت تمتد هذه المملكة بين فلسطين وخليج العقبة ووادي الحجر وبحر الروم، أما عاصمتها فالبتراء، وتُدعى أيضًا سلع، بوادي موسى.
قال مومسون: إن البدو واليهود والنبطيين كانوا على عهد بُمبيوس الروماني أصحابَ السلطان في الشام.
والظاهر أن مَلِك البتراء الحارث الثالث دخل دمشق سنة ٨٥ قبل المسيح، قبل أن يستنجد أهلها بالملك الأرمني تغران بسنتين. قد يكون جاءهم الحارث فزعًا، أو ليُصلِح بينهم وبين السلاقسة؛ لأنه كان مشهورًا بحبه لليونان، فلم يفلح على ما يظهر في مسعاه السلمي أو الحربي، فاستنجد الدمشقيون بعدئذٍ بتغران.
ولكن الأنباط عادوا إلى دمشق في عهد الحارث الرابع؛ أيْ بعد استيلاء الرومانيين عليها، وظلُّوا أصحاب السيادة الوطنية فيها أكثر من مائة سنة. هي سيادة وطنية مقيَّدة بسياسة رومة الخارجية.
جاء في الإنجيل (رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنتيوس ١١: ٣٢): «في دمشق والي الحارث الملك، كان يحرس مدينة الدمشقيين، يريد أن يمسكني، فتدلَّيت من طاقة في زنبيل من السور، ونجوت من يديه.»
ممَّا يدل على أن ملوك الأنباط لم يسرعوا إلى التنصُّر، ولا غيَّروا عاصمتهم البتراء، فعندما استولوا على دمشق عمَّلوا عليها أحد رجالهم.
ومما أجمع عليه المؤرخون أنهم كانوا يدارون الرومان ويمالئونهم، فيقدِّمون لرومة الجنود لقاء تلك السيادة، ويدفعون شيئًا من الخراج.
قال المؤرِّخ: «إن بُمبيوس لمَّا فتح الشام واستولى على دمشق وما جاورها، أبقى لدمشق استقلالها، وكذلك لبصرى وجرش وعمان.»
نولِّي عليكم واحدًا منكم على شريطة أن تعترفوا بسيادتنا، فتدفعوا الخراج وتقدِّموا عند اللزوم الجنود.
هو الحكم اللامركزي — الحكم الروماني العربي، أو بالحري النبطي — الذي دام أكثر من مائة سنة في حالٍ من الخلل والفساد تغاضت عنه رومة؛ لأنها كانت في مثلها، بل في حالٍ أشد منها.
لكن الإمبراطور تراجان (٩٨–١١٧م) لم يرضَ بتلك الأحوال المخجلة، فنهض لإصلاحها ولسانُ حاله يقول: لِننسحب من البلاد السورية أو لنحكمها حكمًا رومانيًّا. ومَن هم الأنباط لنقيم منهم ملوكًا؟ ومَن هم السوريون ليكون لهم من الامتيازات أكثر مما لسِواهم من الشعوب والأمم الخاضعة لسلطان رومة؟
ضرب تراجان على أيدي المفسدين في العاصمة، وجدَّد في الأمة روح الاستعمار، فأعاد إلى الدولة الرومانية شيئًا من العز والقوة، وقد جرَّد على سورية جيشًا كان مظفَّرًا، فأبطل امتيازاتها، وأدخلها في صفِّ المستعمرات، ثم حمل على الأنباط فبدَّد شملهم وقضى على دولتهم (١٠٦م)، فصارت البتراء وما يليها مستعمرة رومانية.
وكانت دولة تدمر — النبطية أيضًا — قد دخلت في حوزة الرومانيين سنة ٣٦ قبل المسيح، واستمرَّت طائعة تؤدِّي الخراج وتقدِّم الجنود لرومة نحوًا من مائتي سنة.
وكان قد نزح من شرقي الأردن وبلاد الشام الأنباطُ النافرون من الرومان، الناقمون عليهم بعد استيلائهم الاستيلاءَ التام على بلادهم، فشرعوا يدسُّون الدسائس في تدمر ليُخرِجوا إخوانهم هناك من ربقة الأجانب.
فقام أُذَينَة السَّمَيْذعي يدَّعي الملك (٢٥٠م)، فحارب الرومان وحاصرهم في مدينة حمص، فسلَّموا له، ولكنه تُوفي بُعَيد ذلك، ثم قامت زينب — الزباء — أرملته تُعلن استقلال بلادها، وتُخرِج الرومان منها، فجرَّد الإمبراطور ديمتيوس أوريليوس حملةً عليها، وتولَّى قيادتها بنفسه. وكانت زينب تقود جيشها، فتلاحم الجيشان في جوار حمص، فانكسر جيش الأنباط وتقهقر إلى تدمر، فحاصر أوريليوس المدينة (٢٧٣م) فسلَّمت، ووقعت المملكة العربية أسيرة بيد الإمبراطور الروماني، ثم حلَّ بتدمر ما حلَّ بالبتراء قبلها.
وكان بنو السميذع القاطنون بادية الشام في أوائل النصرانية، إلا قليلًا منهم، أنصار أُذينة وزوجه الزبَّاء، يمالئون الرومان، ويساعدون في تحقيق مقاصدهم الاستعمارية. بل كان الكثيرون من العرب يحاربون في صفوف الأجانب لمالٍ أو لوظيفةٍ أو لحزازات في الصدور …
سأخنقكِ، لا بيدي، بل بيد أبنائكِ.
أنتِ سورية بلادي، واليد التي على عنقك اليوم هي يد أبنائكِ — «الأبرار» — لا يد الأجانب.