بابلُ العصبيَّات والأديان
حكم اليونان في هذه البلاد مائتين وتسعًا وستين سنة، فانتشرت الثقافة اليونانية في الطبقات الراقية من الأمة، وحلَّت الأساطير اليونانية محل الأساطير الآشورية والفينيقية، أو أنها اقتبست بعضها، فصارت عشتروت مثلًا أَفروديت، ودخل البعل في برلمان الأصنام.
أما لغة الأهالي فظلَّت كما كانت آرامية منذ بداية الدولة السلوقية وقبلها، إلا أن الطبقات العالية وأولياء الأمر والطامعين بالوظائف، كانوا يُحسِنون أيضًا لغةَ الفاتحين.
وجاء بعد اليونانِ الرومانُ، فحكموا في سورية سبعة قرون كاملة، وقد كان العهدُ الأول؛ أيْ منذ فتح الشام (٦٥ق.م) إلى حين سقوط الدولة النبطية (١٠٦م)، عهدًا شبيهًا بالانتداب أو بالحكم اللامركزي، وكان العهد الثاني؛ أيْ من أيام تراجان إلى أيام قسطنطين، عهدًا استعماريًّا استبداديًّا، فاشتد النير الروماني على البلاد، وكان الناس فوق ذلك يعيشون في خوفٍ دائم من الاضطهادات الدينية، التي كانت تبدأ في رومة أو في القسطنطينية، وتمتد بويلاتها إلى الولايات والمستعمرات الرومانية كلها.
أما العهد الثالث؛ أيْ من ولاية قسطنطين إلى ولاية هرقل، فقد عمَّ فيه الفساد الديني والمدني، وصارت القسطنطينية قطب المناقشات اللاهوتية التي أفسدت على الناس عيشَهم، وبلبلت عقائدهم، وبدَّلت حرية الضمير بالطاعة العمياء للبطاركة والأساقفة، الذين أصبحوا في نعيمٍ من الدنيا يرفلون بالأرجوان، ويبارون بالترف والأبهة أصحاب الصولجان.
وكان ملوك الفرس الساسانيون لا يزالون يتطلَّعون إلى هذه البلاد، بل إلى ملكهم القديم، ويطمعون باسترجاعه، فاغتنم كسرى أنوشروان فرصة سنحت من جرَّاء الفساد الذي عرا الدولة البيزنطية المسيحية، وزحف إلى سورية في طليعة القرن السابع (٦١١م)، فاحتل قسمًا منها، ثم استعادها الإمبراطور هرقل، ولكنها لم تدُم منذ ذاك الحين غير بضع سنين في حوزة الرومان؛ إذ كان قد ظهر في الحجاز نبيٌّ عربي، يحمل كلمة في التوحيد الإلهي، آمَن بها الناس وحملوا السيفَ في سبيلها.
وراح أولئك العرب بكتابهم الشريف، وبسيفهم البتَّار، يدوِّخون الممالك، ويَهْدُون الملوك أو يهدُّون عروشهم.
جاء عرب التوحيد من الحجاز — يومَ كانت الدولة الرومانية لا تزال مشغولة بالمناقشات اللاهوتية، بالثالوث وبالمشيئة الواحدة والمشيئتين — وهم يكبِّرون ويهلِّلون: الله أكبر! لا إله إلا الله! جاءوا باسم الله الواحد فاتحين، وهم يحملون الكتاب والرمح، ووصايا أبي بكر العشر في القتال.
لا تغدر، لا تمثِّل، لا تقتل هَرِمًا ولا امرأة ولا وليدًا، لا تعقرنَّ شاةً ولا بعيرًا إلا ما أكلتم، لا تحرقنَّ نخلًا، لا تخربنَّ عامرًا، لا تغلَّ (الغلول الخيانة في المغنم)، لا تجبن.
إن مثل هذه الوصايا لَجميل في كل زمان ومكان إذا عُمِل به، ولا شك أن العرب كانوا أرحم ممَّن سبقهم من الفاتحين وأعدل بالناس. ولا شك أن العصبيات، التي تَحُول دائمًا دون العدل والرحمة، كانت في تلك الأيام أشدَّ مما هي اليوم، فلم يتغلَّب الإسلام عليها كلها.
مما هو جدير بالذكر أن عسكر هرقل الذي حارب وانكسر في وقعة اليرموك في السنة الثانية عشرة للهجرة (٦٣٤م)، كان فيه ألوفٌ من العرب — من لخم وجذام وقضاعة وغسان ومرة وتنوخ — ومن الأرمن أيضًا!
سبحان المغيِّر ولا يتغيَّر، فها نحن في القرن العشرين وقد حارب الفرنجُ العربَ ببعض العرب وبالأجانب من غير أوروبة — بالأرمن والشركس وعبيد السنغال في سورية، وبالهنود في العراق — حاربوا العرب المسلمين بجنودٍ مسلمين من أمم إسلامية تحمل باطلًا اسم الإسلام.
وكان الفضل الأكبر في ذلك الفتح العربي الإسلامي، أن استعربت الشعوب السورية، وصارت العربية لسان أهل البلاد.
إنه لأسهل على الشعوب أن يغيِّروا لسانهم من أن يغيِّروا تقاليدهم وأخلاقهم، فقد تعاقبت على هذه البلاد اللغات الفينيقية والحِثية والعبرانية والسريانية والآرامية واليونانية واللاتينية، ثم جاءت العربية تحل محلها كلها.
وكان الفضل في نشر العربية في البلاد السورية راجعًا أولًا للوثنيين من العرب، ثم للمسيحيين قبل الفتح الإسلامي. ولا يزال المسيحي عاملًا في سبيل هذه اللغة في سورية ومصر والعراق، حتى وفي ما وراء البحار — في العالم الجديد.
ولكن اللغة وحدها لا توحِّد العناصر، ولا تتغلَّب على العصبيات. كان اللخمي والأزدي واحدًا في العربية، ولكن العصبية ظلَّت مستحوذة على الاثنين، وصارا فوق ذلك يتعصبان لأسيادهما الأجانب، الواحد للفرس والثاني للرومان.
ولا الدين، وإن كان دين التوحيد، يساعد في تحقيق الوحدة العنصرية والقومية. كان القيسي واليماني واحدًا في الإسلام، وظلَّا في العصبية المفكِّكة لأوصال الوطن قيسيًّا ويمانيًّا، ناهيك بالدول الإسلامية المتعدِّدة التي قامت بعضها على بعض، وشُيِّدت بعضها على أنقاض بعض، باسم العصبية؛ تلك العصبية التي كانت السبب الأول والأكبر في سقوطها كلها.
ولا تزال العصبيات الدينية والجنسية أو الإقليمية، متغلِّبة على عوامل اللغة والدين. لا يزال للفينيقي والآشوري والحِثي والكنعاني والنبطي واليوناني والرومي والآرامي، أثرٌ حي مفسد في حياة السوريين الاجتماعية والوطنية، ولا يزال للأوثان الغربية والشرقية — للبعل والزُّهرة واللاتِ وعشتروت — أثرٌ ظاهر في أديانهم.
أنتِ سورية بلادي، أنتِ بابل العصبيات، وأنتِ بابل الأديان.