الدول الكلبية
حكم الرومان البلاد السورية بمساعدة العرب سبعمائة سنة، ولم تدُم دولة من الدول العربية الإسلامية أو الوثنية أكثر من مائتي سنة، فما السبب في ثبات الأعاجم، وفي تزعزع السيادة الوطنية واضمحلالها؟ إني أرى — والرأي يظهر غريبًا — أن السبب الأول والأهم في طول حكم الرومان، وقِصر مدات الأحكام العربية هو واحد؛ هو الظلم.
فالظلم في العهد غير العربي، الظلم المنظَّم، تنفِّذ أحكامه القوة القاهرة، وتساعد في التنفيذ، لمالٍ أو جاه أو نكاية، عربُ غسان وتنوخ، هم السبب في دوام السيادة الأجنبية. أجل، قد استولى الرومان على البلاد بواسطة أمرائها والمتنفذين من أبنائها.
والظلم هو السبب الأول والأهم في زوال الدول العربية. وإليك البرهان، كان حكم الخلفاء حكمًا فرديًّا أوتوقراطيًّا، يرتكز على عصبية من العصبيات المتعددة، لا على الجنسية العربية الشاملة لكل العصبيات؛ لذلك لم يتمكَّن الخلفاء الأمويون من إخماد الفتن الناشئة عن العصبيات المعادية لها في العراق؛ ولذلك لم يتمكَّن الخلفاء العباسيون من التغلُّب على العصبيات التي استعرت نيرانها بعد سقوط الأمويين في بلاد الشام.
إنه في الإجمال لَحكمٌ ظالم، لا عدل فيه لغير العصبية المرتكِز عليها. ومثل هذا العدل هو نوعٌ آخر من الظلم، إلا أن الحكومة الظالمة التي تفتقر إلى قوةٍ إدارية وجندية منظمة، والتي ينخر في أصولها سوس العصبيات، تظل متزعزعة، ولا تلبث أن تسقط وتضمحل.
يقول المؤرخ إن ابن طولون (مثلًا) كان على جانبٍ من العدل وحسن السيرة، وإنه فكَّر كثيرًا في عمران مملكته «حتى زاد خراجها».
زاد خراجها؟! وهل في ذلك دليل على العمران؟ أمَا حان لنا أن ننظر إلى حوادث التاريخ من وجهةٍ حديثةٍ عاليةٍ عامةٍ؟ إني أسألك: كيف كان يُصرَف الخراج؟ وإذا كنت في عمل يشغلك عن بحث مثل هذه المسائل فأنا أجيب عنك: كان الخليفة، إذا كان من الصالحين، يصرف قسمًا كبيرًا من الخراج في بناء المساجد والمدارس المسجدية. وإذا كان كالوليد بن يزيد أو كهَارون الرشيد، فمعظم الخراج إنما هو لنفسه ولأهله ولمحظياته وعبيده المقربين منه. وإذا كان كبيرًا كمعاوية أو ظالمًا كعبد الملك بن مروان، فبيت المال في نظره إنما هو لشراء الأنصار وتسكين الأعداء.
أما الناس — العدد الأكبر من الأمة — أولئك الذين يدفعون الخراج، ويأكلون الكرباج، ثم يحملون السلاح للجهاد؛ فدعهم يعيشون في جهلهم وأوساخهم وأمراضهم وشقائهم المستمر.
وأرسل الله القرامطة على هذه الممالك تأديبًا وتطهيرًا، فقام الحكَّام يسوقون إلى القتال أولئك الذين يدفعون الخراج ويأكلون الكرباج. إلى الجهاد! إلى الجحيم! حملوا السلاح ليردوا القرامطة عن أمرائهم وحكَّامهم، وما كان القرامطة بأشرَّ من أولئك الظالمين.
أَتعجَبُ بعد ذلك إذا قيل في الإخشيد الأول إن في زوال ملكه فرحًا للعالم؟!
وهذا سيف الدولة علي بن حمدان عدو الروم وخصم الإخشيد، سيف الدولة الذي حكم وحارب من سنة ٣٣٣ إلى سنة ٣٥٦ (٩٤٥–٩٦٧م)، فكان مظفَّرًا سعيدًا في حروبه كلها، وجائرًا كل الجور على رعيته. سيف الدولة الذي «اشتدَّ بكاء الناس عليه ومنه» كما يقول الأزدي. وقال صاحب الخطط، الذي يعود إلى النزاهة التاريخية، بعد أن يكون قد تعب بها وأركبها مطية الغرض، إن سيف الدولة «كان يخرِّب قرية ليجيز شاعرًا مدحه بقصيدة.»
وكان قاضيه أبو الحصين يقول: «كل من هلك، فلِسيف الدولة ما ترك!» وأدرك القدرُ القاضي أبا الحصين، فقُتل في إحدى المعارك، فداسه سيف الدولة بحصانه قائلًا: «لا رضي الله عنك؛ فإنك كنت تفتح لي أبواب الظلم.»
ولا رضي الله عمَّن ولج بابًا من تلك الأبواب.
كان بنو حمدان وبنو إخشيد من عمَّال خلفاء بغداد — من عمالهم العاملين في سبيل أنفسهم وشهواتهم. ويا لها من مهزلة! مهزلة ذاك الملك. اسمع الإخشيديين والحمدانيين يخاطبون بني العباس الخلفاء: سنضرب السكة باسمكم: على الرأس والعين. وسندعو لكم في الخطبة: حبًّا وكرامة. ولا نكلِّفكم بعد ذلك شيئًا.
يضربون الدينار باسم خليفة بغداد، ويتصرَّفون به كيفما شاءوا، ويخطبون لذاك الخليفة في الجوامع، ثم يهملونه كل الإهمال خارجها … والظلم من شيم النفوس … اخسأ يا أبا الطيب!
ومن مظالم سيف الدولة ما فعله ببني حمدان أبناءُ عمه؛ «أكبَّ عليهم بصنوف الجور» — الكلام لابن حوقل — «حتى خرجوا بذراريهم في اثني عشر ألف فارس إلى الروم وتنصَّروا بأجمعهم.»
وكان يقف على مائدة هذا الأمير أربعة وعشرون طبيبًا — قُلْ خمسة أطباء تجنُّبًا للمبالغة — لينصحوا له بتناول ما ينفع مزاجه، بينما الرعية تبكي من جوره وتشكو إلى الله … قبَّح الله وجهك أيها المتنبي!
أما الآفة السياسية الكبرى في الدول العربية كلها، فهي هذه: عندما حمل الفاطميون على الحمدانيين، استنجد هؤلاء بصاحب الروم عدوهم الأول على عدوهم الجديد! الأجنبي، ولا الخصم العربي!
وقد استنجد بالروم أيضًا ذاك الذي خرج على الفاطميين، المسمَّى منجوكتين، فلم ينجدوه، فكسره أبو تميم الفاطمي.
«وركب أبو تميم المستنصر بالله إلى المسجد الجامع يوم الجمعة، بزيِّ أهل الوقار (وهو من أهل الدعارة)، وبين يديه القراء وقوم يفرِّقون الدراهم على أهل المسكنة.» ولكن ذلك لم يغنِهِ شيئًا؛ فقد هجم الناس عليه في قصره، وهو غائصٌ في ملذاته، ففرَّ من دمشق هاربًا.
واشتعلت في المدينة نار الفتنة التي نفخ فيها رجل يُعرف بالدُّهَيْقِن، فجاء محمد بن الصمصامة يخمد نارها، فأخمد أنفاس ألوف من العباد.
وكان أهل صور قد نفخوا في بوق العصيان (٣٨٨ﻫ/٩٩٩م)، وأمَّروا عليهم رجلًا ملَّاحًا يدعى العلَّاقة، ضرب السكة باسمه وكتب عليها: «عزٌّ بعد فاقة، لأمير علاقة»، فأرسل الفاطمي عليه أسطولًا، فاستجار العلاقة بملك الروم، كما استجار قبله الحمدانيون.
وقام صاحب الروم دوقس أنطاكية يبغي الاستيلاء على أفامية، فزحف ابن الصمصامة عليه فقتله وشتَّت شمل رجاله.
وكان المفرِّج بن دغفل بن الجراح قد نزل على الرملة وعاث فيها، فجاء جيش الصمصامة يؤدِّبه. والويل من المؤدِّبين.
أما الصمصامة هذا، الذي تولَّى نيابة دمشق للفاطميين، فقد كان مثل سيف الدولة ظافرًا سعيدًا في حروبه، وكان كذلك ظالمًا عتيًّا، سفَّاكًا للدماء. قال المؤرخ: «وعمَّ الناسَ في ولايته البلاءُ من القتل وأخذ المال، حتى لم يبقَ بيتٌ في دمشق ولا بظاهرها إلا امتلأ من جوره، خلا مَن كان ظالمًا يُعينه على ظلمه … والظلم من شيم النفوس! … لا رضي الله عنكَ أيها المتنبي!»
وشُيدت دولة بني مرداس على مبدأ الدولة الحمدانية، وكذلك دولة بني جراح، ودولة بني سنان؛ أي دول بني كلب — دول الكلاب كلها!
فمنذ سنة ٢٥٤ﻫ إلى سنة ٤٦٣ﻫ/٨٦٧–١٠٦٧م، كان الحكم في هذه البلاد السورية حكم «أبحناها لكم»، ولا فرق إذا كانت الدولة طولونية أو إخشيدية أو حمدانية أو كلبية.
فيا لَتعس الناس الذين عاشوا في ذلك الزمان المظلم، وكل حاكم فيه يباري زميله، أو يباهي خصمه بالمظالم والمذابح، وبالنهب والسلب والسبي والتدمير.
أبحناها لكم ثلاثة أيام!
يا للهول ويا للويل! رحم الله من عاشوا في زمن الإباحات، ولا رحم الله أربابها وجنودهم. أَبشرٌ خُلقوا على صورة الله ومثاله، يتحوَّلون في ساعةٍ واحدة إلى وحوشٍ ضارية؟!
وهل يستحق أولئك البرابرة خمسين صفحة في التاريخ؟ إنهم لا يستحقون والله أكثر من سطر، فيه كل أمرهم؛ فقد تحاربوا وتكالبوا، وذَبحوا ونَهبوا، وفسقوا ودمَّروا. وبكلمةٍ أخرى: قد استباحوا كل حلال من عِرض ودم ومال.
وهم أيضًا أجدادنا!