إدارة الدورة في ظل ظروف شديدة الاختلاف
في عام ١٩٨٥، عندما بدأت العمل كخريج متدرب في شركة جرينويلز آند كو، وهي شركة سمسرة في الأوراق المالية في حي السيتي بلندن، قضيت فترة قصيرة في قاعة بورصة لندن، جنبًا إلى جنب مع الخريجين الجدد الآخرين. في ذلك الوقت، لم تكن العديد من الممارسات قد حظيت بأي تغيير منذ عقود عديدة. كان سماسرة السندات الحكومية لا يزالون يرتدون قبعات عالية، ولم يكن قد مر سوى ١٢ عامًا فقط منذ انتخاب أول امرأة كعضو في البورصة. تعرَّض أحد زملائي للسخرية لارتدائه حذاءً بني اللون وأُرسل إلى المنزل لتغييره. كان الموظفون الصغار أو الكتبة — الذين يُطلَق عليهم اسم «أصحاب الأزرار الزرقاء» — يتجولون حول أكشاك «المضاربين» (صناع القرار بالسوق) المختلفة، ويطلبون عروض الأسعار الخاصة بالأسهم، ويُسجلون الأسعار على أوراق، ثم يأخذونها إلى المكتب الخلفي خلف قاعة التداول، حيث تُكتب على لوحة كبيرة. وعندما يتلقى مندوب المبيعات في مكتب السمسرة طلبًا، سيتمكن «أصحاب الأزرار الزرقاء» الموجودون في القاعة من تقديم تقدير محدَّث إلى حد ما لسعر الشراء أو البيع.
بعد التدريب التأهيلي، انضممتُ إلى فريق الاقتصاد في قسم الأبحاث في جرينويلز. كانت إحدى مهام الموظفين المبتدئين هي جمع أحدث إصدارات البيانات بعد نشرها. وكان ذلك يتضمن الذهاب شخصيًّا إلى البنك المركزي البريطاني في شارع ثريدنيدل، على بعد بضعة مربعات سكنية من مكتبنا. وبمجرد استلام البيان من البنك، يُهرع المحللون إلى الهواتف العمومية خارج البورصة (الموجودة في المربع السكني المجاور) لنقل التفاصيل إلى خبراء الاقتصاد، الذين يفسرونها ويدونون الملاحظات، التي تُنسخ وتُوزع على فريق المبيعات.
ولكن لم يكن هذا سوى مجرد ابتكار صغير في بيئة أكبر تتسم بالتغير والاضطراب السريع الذي يوشك على إحداث ثورة في الأسواق المالية. وكان حي السيتي بلندن على شفا تنفيذ «رفع القيود الأعظم» لعام ١٩٨٦. ولأول مرة، حلت أجهزة الكمبيوتر والهواتف محل المعاملات المباشرة؛ مما أدى إلى حدوث زيادة كبيرة في حجم التداول. وأصبحت الطريقة القديمة لممارسة العمل مهددة. وتحطمت الحواجز وأفسحت المجال أمام موجة جديدة من الوافدين، الذين أتى العديد منهم من خارج البلاد.
في عام ١٩٨٦، قدمت شركة «آي بي إم» أول كمبيوتر محمول، وأطلقت شركة «إنتل» سلسلة المعالج الدقيق ٣٨٦. كان هذا أيضًا هو العام الذي طُوِّر فيه بروتوكول الوصول إلى الرسائل عبر الإنترنت، الذي أصبح أول بروتوكول قياسي يُستخدم لتمكين الأشخاص من استخراج البريد الإلكتروني من وحدة خدمة البريد الإلكتروني وإدارة صندوق البريد الإلكتروني.
شارَك في الحفل، بالطبع، فنانون عظماء من الماضي: عندما غنَّى بوب ديلان أغنية «في مهب الريح» (بلوينج إن ذا ويند) مع عضوَي فرقة «رولينج ستونز» كيث ريتشاردز وروني وود، كان الأمر يشبه مهرجان وودستوك الموسيقي الذي أُقيم قبل ١٦ عامًا من ذلك التاريخ، ولكن تدخُّل التكنولوجيا الحديثة في نقل هذا الحدث كان إيذانًا بالدخول في عهد جديد؛ ربما كانت أغنية ديلان «الزمن يتغير» (ذا تايمز ذاي آر إيه تشانجينج) ملائمةً أكثر لهذا الحدث.
كانت هذه التغييرات ملموسة في عالم السياسة أيضًا، حيث كانت هناك بوادر لإجراء إصلاحات كبرى من شأنها أن تُغير شكل النظام السياسي والاقتصادي العالمي في السنوات المقبلة. وكانت الإصلاحات في جانب العرض التي أقرَّتها رئيسة وزراء المملكة المتحدة مارجريت تاتشر والرئيس الأمريكي رونالد ريجان تجري على قدم وساق، وكان إضراب عمال المناجم المثير للانقسام في المملكة المتحدة قد انتهى للتو بإغلاق أغلب مناجم الفحم في البلاد. وأصدرت الولايات المتحدة قانون الإصلاح الضريبي في عام ١٩٨٦، الذي صُمِّم لتبسيط قانون ضريبة الدخل الفيدرالية وتوسيع القاعدة الضريبية. وفي الوقت نفسه، كانت الأحداث الدولية في حالة تغيُّر مستمر أيضًا. فقد أصبح ميخائيل جورباتشوف (في مارس ١٩٨٥) زعيمًا للاتحاد السوفيتي بعد وفاة الزعيم السابق قسطنطين تشيرنينكو. وأثناء خطاب ألقاه في لينينجراد في مايو ١٩٨٥، اعترف الرئيس جورباتشوف بالمشكلات الاقتصادية وتَدنِّي مستوى المعيشة؛ وكان أول زعيم سوفيتي يفعل ذلك. أعقبت ذلك سلسلة من المبادرات السياسية، شملت الجلاسنوست — وتعني السماح بمزيد من حرية الحصول على المعلومات — والبيريسترويكا — أي الإصلاح السياسي والاقتصادي — أثبتت هاتان المبادرتان أنهما جوهريَّتان وتتمتعان بتأثير أكبر مما بدا واضحًا في ذلك الوقت. وقد مهَّد التحول في النهج الذي اتبعه الاتحاد السوفيتي الطريق لاستئناف المحادثات مع الولايات المتحدة وتوقيع ثلاث معاهدات مهمة في الأعوام ١٩٨٧ و١٩٩٠ و١٩٩١، مما أدى إلى حدوث انخفاض كبير في الإنفاق العسكري، وفي نهاية المطاف، تخفيض كلا الطرفين للأسلحة النووية الاستراتيجية.
في الوقت نفسه، كانت الصين أيضًا بصدد البدء في الانفتاح اقتصاديًّا والمضي قدمًا في الإصلاحات. وفي أعقاب الإصلاحات الصينية البارزة عام ١٩٧٨ التي تسبَّبت في ظهور «نظام المسئولية الأسرية» في الريف، ومنحت بعض المزارعين ملكية منتجاتهم لأول مرة، شُكِّلَت أول «منطقة اقتصادية خاصة» في شينجن في عام ١٩٨٠. وسمح هذا المفهوم باستحداث وتجريب سياسات سوق أكثر مرونة. ورغم أن الإصلاحات كانت بطيئة ولم تخلُ من الجدل، فبحلول عام ١٩٨٤ أصبح من المسموح به تشكيل مؤسسات فردية تضم أقل من ثمانية أشخاص، وبحلول عام ١٩٩٠، بعد عام من سقوط جدار برلين، افتُتحت أول سوق للأوراق المالية في شينجن وشانغهاي. وبدا أن اتساع نطاق رأسمالية السوق أمرٌ مؤكد.
جلبت تغيرات العصر معها العديد من الفرص الاستثمارية وعالمًا أكثر ترابطًا؛ مما أثار شعورًا بالتفاؤل انتقل إلى أسواق الأوراق المالية. في عام ١٩٨٥، أثناء عامي الأول في العمل، ارتفع مؤشر داو جونز للأسهم في الولايات المتحدة بنسبة تزيد قليلًا عن ٢٧٪؛ وكان هذا أقوى عام منفرد منذ عام ١٩٧٥ (عام التعافي من الانهيار الذي أعقب أزمة النفط والركود الحاد عام ١٩٧٣ / ١٩٧٤). وقد عكس ارتفاع الأسعار تحسُّن الأساسيات وتراجع الشعور بعدم اليقين وهبوط للمخاطر الجيوسياسية. وأدى انخفاض معدلات التضخم وأسعار الفائدة إلى تزايد الاعتقاد بأن الأنظمة الاقتصادية الكبرى قادرة، بعد فترة من النمو القوي، على تحقيق «هبوط سلس»، يتميز بتجنب الركود ويتمتع بتوسع اقتصادي ممتد. فقد أدى سقوط الشيوعية وما أعقب ذلك من «مكاسب السلام»، جنبًا إلى جنب مع توسع الرأسمالية الليبرالية، إلى انخفاض علاوات المخاطرة.
استمر هذا التفاؤل واستمرت معه الارتفاعات القوية في السوق طوال عام ١٩٨٦، وفي الأشهر العشرة الأولى من عام ١٩٨٧، ارتفع مؤشر داو جونز بنسبة مذهلة بلغت ٤٤٪. ثم فجأة، في الثامن عشر من أكتوبر، تغيَّر كل شيء. وانهار مؤشر داو جونز بنسبة ٢٢٫٦٪ في يوم واحد. أصبح ذلك اليوم معروفًا باسم يوم الاثنين الأسود، في إشارة إلى أيام الاثنين والثلاثاء والخميس السوداء في عام ١٩٢٩، أي قبل ٥٨ عامًا تقريبًا، عندما انخفضت سوق الأسهم بنسبة ١٣٪ (وتبع ذلك انخفاضات أكثر حدة). وعلى الرغم من كل التغييرات التي حدثت، وعلى مدى فترة زمنية تُقارب ٦٠ عامًا، عمَّ الذعر، وكان هناك شعور بأننا قد مررنا بكل ذلك من قبل. وفجأة، ساد قلق مؤرق من أن التفاؤل الناجم عن انخفاض أسعار الفائدة وانخفاض معدلات التضخم لم يكن مُبرَّرًا.
وبالفعل كانت أوجه التشابه مع انهيار عام ١٩٢٩ واضحة أيضًا لواضعي السياسات. وفي محاولة لتجنب تكرار أخطاء الماضي، استجابوا بسرعة وحسم. وتحرَّك بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة على الفور لتوفير السيولة للنظام المالي، وأصدر رئيسه، آلان جرينسبان، بيانًا في اليوم التالي أكد فيه «استعداد البنك للعمل كمصدر للسيولة لدعم النظام الاقتصادي والمالي.» وفي اليوم التالي، خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال إلى نحو ٧٪، بعدما كانت أكثر من ٧٫٥٪ يوم الاثنين قبل الانهيار. ونجح الأمر. ورغم أن سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة استغرقت ما يقرب من ٢٥ عامًا للتعافي على نحو كامل من الخسائر الناجمة عن انهيار عام ١٩٢٩، فقد استغرق التعافي بعد انهيار عام ١٩٨٧ أقل من عامين.
لقد استُخدمَت قوة البنوك المركزية عدة مرات منذ ذلك الحين، لا سيما في الدورة الحالية، مع تطبيق التيسير الكمي، وفي بعض الأحيان، تطبيق توجيهات تتمتع بالقدر نفسه من القوة لغرس الثقة. وقد تجسَّد ذلك تجسدًا بارزًا في عام ٢٠١٢ في خضم أزمة الديون السيادية الأوروبية، عندما قال رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي: «البنك المركزي الأوروبي مستعد لفعل كل ما يلزم للحفاظ على اليورو. وصدقوني، سيكون هذا كافيًا.»
ومن ثَم، حدثت، منذ ثمانينيات القرن العشرين، العديد من الصدمات والأزمات التي أدت في أغلب الأحيان إلى خروج الأنظمة الاقتصادية عن مسارها وإشعال شرارة اتخاذ إجراءات تصحيحية صارمة في الأسواق. ولكن على الرغم من ذلك، هناك أنماط متكررة من الدورات في الأنظمة الاقتصادية والأسواق المالية.
وعلى الرغم من أن الدورات تتواجد في ظروف اقتصادية مختلفة جدًّا، فقد يكون من الصعب جدًّا التنبؤ بالعديد منها. وكما قال المستثمر الشهير وارن بافيت: «لقد شعرنا منذ فترة طويلة بأن القيمة الوحيدة للمتنبئين بأسعار الأسهم هي إظهار العرَّافين بمظهرٍ جيد. وحتى الآن، لا نزال أنا وتشارلي [مَنجر] نعتقد أن توقعات السوق القصيرة الأجل مؤذية ولا بد من الاحتفاظ بها في مكان آمن، بعيدًا عن متناول الأطفال، وكذلك البالغون الذين يتصرفون في السوق مثل الأطفال» (خطاب للمساهمين، ١٩٩٢).
وبطبيعة الحال، لا تعني صعوبة التنبؤ التقليل من قيمة محاولة فهم المخاطر المحتملة وتقييم الفرص المتاحة. ورغم أن التوقعات الدقيقة للنقاط قد لا تكون خالية من الأخطاء عندما يتعلق الأمر بالأسواق الاقتصادية والمالية، فمن الأسهل، والأهم من نواحٍ كثيرة، إدراك الدلائل التي تشير إلى زيادة احتمالية حدوث نقطة تحوُّل مهمة في الأسواق المالية. وتتَّسم نقاط التحول هذه بأهمية بالغة وذلك، كما سنرى في الفصول اللاحقة، لأن تجنُّب اتخاذ إجراءات تصحيحية صارمة والمشاركة في المراحل الأولى من انتعاش السوق أمران يُمثلان أوقاتًا حاسمة يمكن أن تُحدِث فارقًا كبيرًا في عوائد المستثمر. وفي كثير من الأحيان، غالبًا ما يُتغاضى عن سلوك المستثمرين وميولهم المتقلبة في نماذج التوقعات التقليدية، وهذا يُفسِّر جزئيًّا السبب وراء عدم توقع نقاط التحول في الدورات الاقتصادية والمالية على نحو جيد.
لا تقتصر صعوبة التنبؤ على العلوم الاجتماعية؛ فحتى التنبؤ بالطقس، استنادًا إلى العلوم الفيزيائية، قد يكون أمرًا صعبًا نظرًا لأن التأثيرات والمتغيرات التي تعتمد عليها النماذج يمكن أن تتغير بسرعة. وقد شكَّل هذا الأمر تحديًا كبيرًا قبل بدء استخدام أحدث النماذج المعتمدة على الكمبيوتر. ومن عجيب المفارقات أن أحد أبرز الأمثلة للإخفاق في التنبؤ بحدث مناخي كبير تزامَن مع انهيار مماثل غير متوقع في أسواق الأوراق المالية في عام ١٩٨٧، بعد عامين من تولي وظيفتي الأولى. ففي الليلة التي سبقت هذا الانهيار، ضربت عاصفة عنيفة إنجلترا؛ مما تسبَّب في حدوث أضرار جسيمة. ووفقًا للعديد من التقديرات، كانت هذه أقوى عاصفة تضرب المناطق الحضرية في المملكة المتحدة منذ عام ١٧٠٦. وسقط أكثر من ١٥ مليون شجرة في السابع عشر من أكتوبر، وفي ذلك ستة من أشجار البلوط السبعة القديمة الشهيرة في مدينة سفن أوكس في كينت، وهي منطقة تقع ضمن نطاق ضواحي لندن حيث كان يعيش العديد من كبار سماسرة البورصة في ذلك الوقت.
تعطلت حركة النقل على نطاق واسع لدرجة أن غالبية أولئك الذين تمكنوا من الوصول إلى المكاتب في وسط لندن كانوا من الموظفين المبتدئين، بمن فيهم أنا، الذين كانوا يقطنون في المناطق القريبة (قبل موجة التحسين واتجاه العائلات للعودة إلى المواقع الأكثر محورية في المدينة) الأقل تكلفة (آنذاك). ونظرًا لعدم وجود إنترنت في ذلك الوقت، أو حتى أجهزة كمبيوتر مزوَّدة بأنظمة تسعير فورية على كل مكتب، كانت المعلومات أبطأ في الوصول وأقل موثوقية مما هي عليه في الوقت الحاضر. وعندما بدأت التقارير عن انهيار سوق الأسهم الأمريكية بالظهور مع افتتاح سوق نيويورك، كنا في حيرة من أمرنا، ولم نكن متأكدين في البداية مما إذا كان هذا حقيقيًّا أم مجرد خطأ ناجم عن العاصفة التي أصابت نظام التسعير الإلكتروني الوحيد الذي كنا نستخدمه.
تتمثل المشكلة التي يواجهها المستثمرون في أن التنبؤ بالأسواق، والمتغيرات الاقتصادية التي تؤثر فيها، لا يُعتبر علمًا دقيقًا، ولم ترقَ العديد من الأساليب والنماذج التقليدية إلى المستوى المطلوب بسبب الاعتماد المفرط على النماذج وعدم توفُّر فهم كافٍ للمخاطر النظامية الأوسع نطاقًا وتأثير الجوانب النفسية للبشر على السلوك.
إن إدراك القصور الذي تعاني منه نماذج التنبؤات الاقتصادية فيما يتعلق بفهم المشاعر الإنسانية أو أخذها في الاعتبار، وخاصةً في فترات التفاؤل أو التشاؤم الشديد، ليس بالأمر الجديد. ففي كتابه الصادر عام ١٨٤١ بعنوان «أوهام شعبية استثنائية وجنون الجماهير»، يقول تشارلز ماكاي إن «الناس … يتبعون في تفكيرهم سلوك القطيع؛ وقد ثبت أنهم يصابون بالجنون على نحو جماعي، لكنهم يستعيدون رشدهم ببطء، واحدًا تلو الآخر.»
يقدم علم الاقتصاد العصبي، وهو مجال جديد نسبيًّا، أدلةً إضافية على هذه الأنواع من ردود الأفعال المتباينة. ويتناول هذا النهج كيفية صنع القرار داخل الدماغ، ويوفر أيضًا بعض المعرفة حول كيفية مواجهة الأفراد للخيارات التي تنطوي على مخاطر. ويرى الأكاديميون (مثل جورج لوينستين، وسكوت ريك، وجوناثان دي كوهين) أن الناس يتفاعلون مع المخاطر بطريقتين: طريقة خالية من الانفعالات وطريقة انفعالية. ويرى هذا النهج أننا نبالغ في رد فعلنا تجاه المخاطر الجديدة التي قد تكون احتمالية حدوثها منخفضة، ويقل رد فعلنا تجاه المخاطر المعروفة لنا، حتى لو كانت احتمالية حدوثها أكبر. وبهذه الطريقة، على سبيل المثال، قد يؤدي انهيار الأسهم إلى جعل الناس حذرين للغاية بشأن الاستثمار لأنهم واجهوا مخاطر جديدة، على الرغم من حقيقة أنه من غير المرجح حدوث هبوط آخر في السوق. وفي الوقت نفسه، قد يسعد المستثمرون بشراء أسهم تقترب قيمتها من أعلى سعر لها في السوق، على الرغم من التحذيرات المنتظمة بشأن ارتفاع التقييمات؛ وذلك لأنهم شهدوا مؤخرًا ارتفاعات في الأسعار ويشعرون بثقة أكبر للمخاطرة.
قد يتوافق هذا مع سلوك المستثمرين في الفترة التي سبقت الأزمة المالية الأخيرة وفي الفترة التي أعقبتها، فضلًا عن حالات الانتعاش والكساد الأخرى التي لا حصر لها على مر التاريخ. ويؤدي استمرار ارتفاع العوائد في الأسواق المالية إلى الشعور بالتفاؤل والاعتقاد بأن هذا الاتجاه يمكن أن يستمر. ومن ثَم تنخفض علاوة المخاطر المطلوبة وينجذب المستثمرون إلى الأسواق معتقدين أن المخاطر منخفضة، وأن العوائد المتوقعة ستظل قوية كما كانت في الماضي. على النقيض، يتسبب الاقتراب من مواجهة خسائر كبيرة في زيادة قيمة علاوة المخاطرة المطلوبة؛ أي العائد المستقبلي المتوقَّع الذي يحتاجه المستثمرون لخوض المخاطر. وتحديدًا، اختلفت الطريقة التي استجابت بها الشركات والأسواق للتخفيضات الحادة في أسعار الفائدة في الفترة التي أعقبت الأزمة المالية مقارنةً بالفترة التي سبقتها. وبعد مواجهة تجربة الأزمة المالية والركود الذي أعقبها، يبدو أن الناس جميعًا استجابوا بمزيد من الحذر مقارنةً بما كانت عليه الحال في السابق. إن هذه التقلبات في المشاعر والثقة، التي تتشكل جزئيًّا نتيجة التأثر بالأحداث الأخيرة، هي التي تُحرك أيضًا دورات الأسواق المالية.
يتزايد تركيز عالم السياسة كذلك على الحلقات المغلقة من ردود الأفعال وعلى الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها توقعات الأسواق المالية على الدورات الاقتصادية — وخاصةً «الأوضاع المالية» التي تقيس مدى تأثر الاقتصاد بالسياسة النقدية وتتسم بأنها أوسع نطاقًا من مجرد سعر الفائدة الذي يحدده البنك المركزي — سعيًا لمراعاة تأثير توقعات المستثمرين وثقتهم. وتشمل هذه الأوضاع عادةً فروق العوائد وأسعار الأسهم وسعر الصرف الحقيقي.
ولذلك تكمن مشكلة واضعي السياسات في صعوبة معرفة كيفية التعامل مع تحركات السوق المضطربة؛ نظرًا لأن هذه التحركات قد تعني، أو لا تعني بالضرورة، وجود تحوُّل جوهري دقيق في النشاط الاقتصادي. وكما كتب نائب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق روجر فيرجسون: «يبدو أن اكتشاف فقاعة يتطلب إصدار حكم استنادًا إلى أدلة واهية. وهو يستلزم معرفة مؤكدة بالقيمة الأساسية للأصول المعنية.
على الرغم من كل التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حدثت منذ ثمانينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من الأحداث المتطرفة وصعوبة التنبؤ بمشاعر الإنسان واستجاباته للظروف، فقد تكررت أنماط معينة في الأنظمة الاقتصادية والأسواق المالية. وعلى الرغم من صعوبة تحديد موقعنا في أي دورة أثناء حدوثها، ومدى تعقيد التنبؤ بالعوائد القريبة الأجل، فهناك معلومات مفيدة يمكن للمستثمرين الاطلاع عليها لمساعدتهم في تقييم المخاطر وفهم احتمالات النتائج. إن إدراك الدلائل التي تشير إلى وجود فائض (سواء من التشاؤم أو التفاؤل) وتحديد نقاط التحول المهمة المحتملة يمكن أن يساعد في تحقيق عوائد أكبر.