الفصل الأول

إدارة الدورة في ظل ظروف شديدة الاختلاف

في عام ١٩٨٥، عندما بدأت العمل كخريج متدرب في شركة جرينويلز آند كو، وهي شركة سمسرة في الأوراق المالية في حي السيتي بلندن، قضيت فترة قصيرة في قاعة بورصة لندن، جنبًا إلى جنب مع الخريجين الجدد الآخرين. في ذلك الوقت، لم تكن العديد من الممارسات قد حظيت بأي تغيير منذ عقود عديدة. كان سماسرة السندات الحكومية لا يزالون يرتدون قبعات عالية، ولم يكن قد مر سوى ١٢ عامًا فقط منذ انتخاب أول امرأة كعضو في البورصة. تعرَّض أحد زملائي للسخرية لارتدائه حذاءً بني اللون وأُرسل إلى المنزل لتغييره. كان الموظفون الصغار أو الكتبة — الذين يُطلَق عليهم اسم «أصحاب الأزرار الزرقاء» — يتجولون حول أكشاك «المضاربين» (صناع القرار بالسوق) المختلفة، ويطلبون عروض الأسعار الخاصة بالأسهم، ويُسجلون الأسعار على أوراق، ثم يأخذونها إلى المكتب الخلفي خلف قاعة التداول، حيث تُكتب على لوحة كبيرة. وعندما يتلقى مندوب المبيعات في مكتب السمسرة طلبًا، سيتمكن «أصحاب الأزرار الزرقاء» الموجودون في القاعة من تقديم تقدير محدَّث إلى حد ما لسعر الشراء أو البيع.

بعد التدريب التأهيلي، انضممتُ إلى فريق الاقتصاد في قسم الأبحاث في جرينويلز. كانت إحدى مهام الموظفين المبتدئين هي جمع أحدث إصدارات البيانات بعد نشرها. وكان ذلك يتضمن الذهاب شخصيًّا إلى البنك المركزي البريطاني في شارع ثريدنيدل، على بعد بضعة مربعات سكنية من مكتبنا. وبمجرد استلام البيان من البنك، يُهرع المحللون إلى الهواتف العمومية خارج البورصة (الموجودة في المربع السكني المجاور) لنقل التفاصيل إلى خبراء الاقتصاد، الذين يفسرونها ويدونون الملاحظات، التي تُنسخ وتُوزع على فريق المبيعات.

كان هذا النظام المعقَّد على وشْك التغيير. وقرَّر شريكنا وخبير الاقتصاد الرئيسي لدينا الاستثمار في تقنية جديدة لتوفير الوقت؛ كانت هذه التقنية هي استخدام هاتف محمول (وهو هاتف كبير إلى حد ما موجود في صندوق)؛ وقد مكَّن هذا الأمر موظفي الاقتصاد المبتدئين من نقل المعلومات للمكتب مباشرةً بمجرد إصدارها؛ مما وفَّر الوقت والجهد اللازمين لوضع العملات المعدنية في الهاتف العمومي. وحتى في ذلك الحين، كان من الممكن أن تنطوي التحسينات الطفيفة في الوقت على أهمية حاسمة في الحصول على صفقات مربحة (وبحلول الألفية الجديدة، حدثت تغييرات كبيرة في السرعات، حيث انتقل متوسط أوقات تنفيذ الصفقات من عدة ثوانٍ إلى أجزاء من المليون من الثانية).1

ولكن لم يكن هذا سوى مجرد ابتكار صغير في بيئة أكبر تتسم بالتغير والاضطراب السريع الذي يوشك على إحداث ثورة في الأسواق المالية. وكان حي السيتي بلندن على شفا تنفيذ «رفع القيود الأعظم» لعام ١٩٨٦. ولأول مرة، حلت أجهزة الكمبيوتر والهواتف محل المعاملات المباشرة؛ مما أدى إلى حدوث زيادة كبيرة في حجم التداول. وأصبحت الطريقة القديمة لممارسة العمل مهددة. وتحطمت الحواجز وأفسحت المجال أمام موجة جديدة من الوافدين، الذين أتى العديد منهم من خارج البلاد.

كان التقدم التكنولوجي يغير بسرعة مشهدَ الأعمال والمجتمع عمومًا. وشهدت الحاسبات الشخصية أيضًا ابتكارات كبيرة في هذا الوقت. ففي عام ١٩٨٥، أصدرت شركة مايكروسوفت نظام التشغيل ويندوز ١٫٠، وهو الإصدار الأول من نظام تشغيل الكمبيوتر الذي سيُهيمن بعد ذلك على سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصية. وفي عام ١٩٨٥ سجَّلت كذلك شركة سيمبوليكس أول اسم لنطاق الدوت كوم، symbolics.com، مما أضاف نطاقًا تجاريًّا لنطاق ‏edu‏‏. الذي كان مهيمنًا آنذاك ومستخدَمًا من قِبل المؤسسات التعليمية. وبالطبع لم يكن هذا الأمر معروفًا في ذلك الوقت، ولا الآثار والتغيرات البعيدة المدى التي ستنجم عن الاستخدام التجاري للإنترنت وفقاعة المضاربة التي ظهرت بسبب الشركات الموجودة على الإنترنت (شركات الدوت كوم) في أواخر التسعينيات.

في عام ١٩٨٦، قدمت شركة «آي بي إم» أول كمبيوتر محمول، وأطلقت شركة «إنتل» سلسلة المعالج الدقيق ٣٨٦. كان هذا أيضًا هو العام الذي طُوِّر فيه بروتوكول الوصول إلى الرسائل عبر الإنترنت، الذي أصبح أول بروتوكول قياسي يُستخدم لتمكين الأشخاص من استخراج البريد الإلكتروني من وحدة خدمة البريد الإلكتروني وإدارة صندوق البريد الإلكتروني.

بدأت تتكشف أيضًا ابتكارات أخرى واسعة الأثر، ربما بدت أقل أهمية في ذلك الوقت، ولكنها ستُمثل بداية لتغيرات كبيرة قادمة. ففي عام ١٩٨٦، على سبيل المثال، اكتشفت مجموعة من العلماء البريطانيين ثقبًا في طبقة الأوزون التي تحمي كوكب الأرض من أشعة الشمس الضارَّة، وبعد عامين فقط أدى هذا الاكتشاف إلى تطبيق بروتوكول مونتريال، وهو أول اتفاقية دولية لحماية طبقة الأوزون وأول معاهدة للأمم المتحدة تحظى بالتصديق العالمي. رفع هذا الاكتشاف مستوى الوعي بالمخاطر البيئية،2 وأصبح تغير المناخ مسألةً سياسية مهمة لأول مرة. ومنذ ذلك الحين اكتسبت هذه المسألة مكانة أكبر بكثير، وأصبحت محورية عند النظر في السياسات والأمور السياسية، خاصةً في أوروبا، حيث قد تعمل الالتزامات القانونية بتقليل الانبعاثات الكربونية على تغيير طبيعة أنظمتنا الاقتصادية وتغيير بنيتها جزئيًّا في السنوات المقبلة.
عند دخولي سوق العمل في منتصف الثمانينيات، سهَّلت موجة التقنيات الحديثة في هذه الفترة حدوث العديد من التغيرات الاجتماعية الأخرى. ففي يوليو ١٩٨٥، قبل أن أبدأ وظيفتي الأولى مباشرة، أُقيم الحفل الخيري «لايف إيد»، في استاد ويمبلي بلندن واستاد جيه إف كيه في فيلادلفيا. وساعدت تكنولوجيا الاتصالات الجديدة في بث الحفل الموسيقي لأول مرة حول العالم أثناء حدوثه. وباستخدام ١٣ قمرًا صناعيًّا، تمكَّن ما يزيد عن مليار شخص في ١١٠ دول من مشاهدة الحفل المباشر؛ لقد كان هذا انتصارًا لمجالَي التنظيم والتكنولوجيا.3

شارَك في الحفل، بالطبع، فنانون عظماء من الماضي: عندما غنَّى بوب ديلان أغنية «في مهب الريح» (بلوينج إن ذا ويند) مع عضوَي فرقة «رولينج ستونز» كيث ريتشاردز وروني وود، كان الأمر يشبه مهرجان وودستوك الموسيقي الذي أُقيم قبل ١٦ عامًا من ذلك التاريخ، ولكن تدخُّل التكنولوجيا الحديثة في نقل هذا الحدث كان إيذانًا بالدخول في عهد جديد؛ ربما كانت أغنية ديلان «الزمن يتغير» (ذا تايمز ذاي آر إيه تشانجينج) ملائمةً أكثر لهذا الحدث.

كانت هذه التغييرات ملموسة في عالم السياسة أيضًا، حيث كانت هناك بوادر لإجراء إصلاحات كبرى من شأنها أن تُغير شكل النظام السياسي والاقتصادي العالمي في السنوات المقبلة. وكانت الإصلاحات في جانب العرض التي أقرَّتها رئيسة وزراء المملكة المتحدة مارجريت تاتشر والرئيس الأمريكي رونالد ريجان تجري على قدم وساق، وكان إضراب عمال المناجم المثير للانقسام في المملكة المتحدة قد انتهى للتو بإغلاق أغلب مناجم الفحم في البلاد. وأصدرت الولايات المتحدة قانون الإصلاح الضريبي في عام ١٩٨٦، الذي صُمِّم لتبسيط قانون ضريبة الدخل الفيدرالية وتوسيع القاعدة الضريبية. وفي الوقت نفسه، كانت الأحداث الدولية في حالة تغيُّر مستمر أيضًا. فقد أصبح ميخائيل جورباتشوف (في مارس ١٩٨٥) زعيمًا للاتحاد السوفيتي بعد وفاة الزعيم السابق قسطنطين تشيرنينكو. وأثناء خطاب ألقاه في لينينجراد في مايو ١٩٨٥، اعترف الرئيس جورباتشوف بالمشكلات الاقتصادية وتَدنِّي مستوى المعيشة؛ وكان أول زعيم سوفيتي يفعل ذلك. أعقبت ذلك سلسلة من المبادرات السياسية، شملت الجلاسنوست — وتعني السماح بمزيد من حرية الحصول على المعلومات — والبيريسترويكا — أي الإصلاح السياسي والاقتصادي — أثبتت هاتان المبادرتان أنهما جوهريَّتان وتتمتعان بتأثير أكبر مما بدا واضحًا في ذلك الوقت. وقد مهَّد التحول في النهج الذي اتبعه الاتحاد السوفيتي الطريق لاستئناف المحادثات مع الولايات المتحدة وتوقيع ثلاث معاهدات مهمة في الأعوام ١٩٨٧ و١٩٩٠ و١٩٩١، مما أدى إلى حدوث انخفاض كبير في الإنفاق العسكري، وفي نهاية المطاف، تخفيض كلا الطرفين للأسلحة النووية الاستراتيجية.

على الرغم من أن هذه الإصلاحات كانت تهدف إلى عكس الهيكل البيروقراطي الذي كان قد أصبح عائقًا رئيسيًّا أمام التقدم الاقتصادي، فغالبًا ما يُنظر إليها الآن على أنها عوامل ساعدت بشدة في الانهيار النهائي للاتحاد السوفيتي في عام ١٩٨٩؛ ومن ثَم نهاية الحرب الباردة وبداية عصر العولمة الحديث. في صيف عام ١٩٨٩، قبل بضعة أشهر فقط من سقوط جدار برلين، ومع تصاعد الضغوط على الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية، كتب فرانسيس فوكوياما، وهو مسئول في وزارة الخارجية الأمريكية، ورقةً بحثية بعنوان «نهاية التاريخ»، حيث قال: «ما من المحتمل أننا نشهده الآن ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، بل نهاية التاريخ في حد ذاته: أي نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للحكم البشري.»4 بدا أن هذه الورقة البحثية كانت تجسيدًا لروح العصر.

في الوقت نفسه، كانت الصين أيضًا بصدد البدء في الانفتاح اقتصاديًّا والمضي قدمًا في الإصلاحات. وفي أعقاب الإصلاحات الصينية البارزة عام ١٩٧٨ التي تسبَّبت في ظهور «نظام المسئولية الأسرية» في الريف، ومنحت بعض المزارعين ملكية منتجاتهم لأول مرة، شُكِّلَت أول «منطقة اقتصادية خاصة» في شينجن في عام ١٩٨٠. وسمح هذا المفهوم باستحداث وتجريب سياسات سوق أكثر مرونة. ورغم أن الإصلاحات كانت بطيئة ولم تخلُ من الجدل، فبحلول عام ١٩٨٤ أصبح من المسموح به تشكيل مؤسسات فردية تضم أقل من ثمانية أشخاص، وبحلول عام ١٩٩٠، بعد عام من سقوط جدار برلين، افتُتحت أول سوق للأوراق المالية في شينجن وشانغهاي. وبدا أن اتساع نطاق رأسمالية السوق أمرٌ مؤكد.

جلبت تغيرات العصر معها العديد من الفرص الاستثمارية وعالمًا أكثر ترابطًا؛ مما أثار شعورًا بالتفاؤل انتقل إلى أسواق الأوراق المالية. في عام ١٩٨٥، أثناء عامي الأول في العمل، ارتفع مؤشر داو جونز للأسهم في الولايات المتحدة بنسبة تزيد قليلًا عن ٢٧٪؛ وكان هذا أقوى عام منفرد منذ عام ١٩٧٥ (عام التعافي من الانهيار الذي أعقب أزمة النفط والركود الحاد عام ١٩٧٣ / ١٩٧٤). وقد عكس ارتفاع الأسعار تحسُّن الأساسيات وتراجع الشعور بعدم اليقين وهبوط للمخاطر الجيوسياسية. وأدى انخفاض معدلات التضخم وأسعار الفائدة إلى تزايد الاعتقاد بأن الأنظمة الاقتصادية الكبرى قادرة، بعد فترة من النمو القوي، على تحقيق «هبوط سلس»، يتميز بتجنب الركود ويتمتع بتوسع اقتصادي ممتد. فقد أدى سقوط الشيوعية وما أعقب ذلك من «مكاسب السلام»، جنبًا إلى جنب مع توسع الرأسمالية الليبرالية، إلى انخفاض علاوات المخاطرة.

استمر هذا التفاؤل واستمرت معه الارتفاعات القوية في السوق طوال عام ١٩٨٦، وفي الأشهر العشرة الأولى من عام ١٩٨٧، ارتفع مؤشر داو جونز بنسبة مذهلة بلغت ٤٤٪. ثم فجأة، في الثامن عشر من أكتوبر، تغيَّر كل شيء. وانهار مؤشر داو جونز بنسبة ٢٢٫٦٪ في يوم واحد. أصبح ذلك اليوم معروفًا باسم يوم الاثنين الأسود، في إشارة إلى أيام الاثنين والثلاثاء والخميس السوداء في عام ١٩٢٩، أي قبل ٥٨ عامًا تقريبًا، عندما انخفضت سوق الأسهم بنسبة ١٣٪ (وتبع ذلك انخفاضات أكثر حدة). وعلى الرغم من كل التغييرات التي حدثت، وعلى مدى فترة زمنية تُقارب ٦٠ عامًا، عمَّ الذعر، وكان هناك شعور بأننا قد مررنا بكل ذلك من قبل. وفجأة، ساد قلق مؤرق من أن التفاؤل الناجم عن انخفاض أسعار الفائدة وانخفاض معدلات التضخم لم يكن مُبرَّرًا.

وبالفعل كانت أوجه التشابه مع انهيار عام ١٩٢٩ واضحة أيضًا لواضعي السياسات. وفي محاولة لتجنب تكرار أخطاء الماضي، استجابوا بسرعة وحسم. وتحرَّك بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة على الفور لتوفير السيولة للنظام المالي، وأصدر رئيسه، آلان جرينسبان، بيانًا في اليوم التالي أكد فيه «استعداد البنك للعمل كمصدر للسيولة لدعم النظام الاقتصادي والمالي.» وفي اليوم التالي، خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال إلى نحو ٧٪، بعدما كانت أكثر من ٧٫٥٪ يوم الاثنين قبل الانهيار. ونجح الأمر. ورغم أن سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة استغرقت ما يقرب من ٢٥ عامًا للتعافي على نحو كامل من الخسائر الناجمة عن انهيار عام ١٩٢٩، فقد استغرق التعافي بعد انهيار عام ١٩٨٧ أقل من عامين.

لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تحدث أزمة أخرى. ففي عام ١٩٩٢، توليتُ منصب خبير استراتيجي في الأسواق الأوروبية في قسم الشئون الاقتصادية في شركة جيمس كابل وشركاه، وهي شركة رائدة في مجال سمسرة الأوراق المالية في المملكة المتحدة. كان هذا هو عام ما يُسمى بالأربعاء الأسود، عندما انهار الجنيه الإسترليني خارج آلية سعر الصرف بعد إخفاقه في البقاء مستقرًّا ضمن الحدود الدنيا للنطاق الذي يفرضه النظام.5 كانت الضغوط على العملات الأضعف في النظام (حيث كانت كلٌّ من المملكة المتحدة وإيطاليا تعانيان من عجز كبير) تتزايد تدريجيًّا في أعقاب رفض معاهدة ماستريخت في الاستفتاء6 الذي أُجري في الدنمارك في ربيع عام ١٩٩٢ والإعلان عن اعتزام فرنسا أيضًا إجراء استفتاء. حدث انهيار الجنيه الإسترليني قبل ثلاثة أيام فقط من الاستفتاء الفرنسي، الذي أُقِرَّ بأغلبية ضئيلة بلغت ٥١٪. وأجبرت الأزمة البنك المركزي البريطاني على الاستمرار في رفع أسعار الفائدة من أجل حماية قيمة الجنيه الإسترليني. وفي السادس عشر من سبتمبر، رفع البنك أسعار الفائدة في البداية من ١٠٪ إلى ١٢٪، ثم مع استمرار هبوط الجنيه الإسترليني، إلى ١٥٪. كنتُ قد حصلت مؤخرًا، مثل العديد من أصدقائي، على رهن عقاري من أجل شقتي الأولى؛ وكنا مرتعبين نظرًا لأن معظم الرهون العقارية كانت ذات فائدة متغيرة في ذلك الوقت في المملكة المتحدة. وجاء القرار بالتخفيف السريع لهذه السياسة عن طريق خفض أسعار الفائدة مرة أخرى.

لقد استُخدمَت قوة البنوك المركزية عدة مرات منذ ذلك الحين، لا سيما في الدورة الحالية، مع تطبيق التيسير الكمي، وفي بعض الأحيان، تطبيق توجيهات تتمتع بالقدر نفسه من القوة لغرس الثقة. وقد تجسَّد ذلك تجسدًا بارزًا في عام ٢٠١٢ في خضم أزمة الديون السيادية الأوروبية، عندما قال رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي: «البنك المركزي الأوروبي مستعد لفعل كل ما يلزم للحفاظ على اليورو. وصدقوني، سيكون هذا كافيًا.»

ومن ثَم، حدثت، منذ ثمانينيات القرن العشرين، العديد من الصدمات والأزمات التي أدت في أغلب الأحيان إلى خروج الأنظمة الاقتصادية عن مسارها وإشعال شرارة اتخاذ إجراءات تصحيحية صارمة في الأسواق. ولكن على الرغم من ذلك، هناك أنماط متكررة من الدورات في الأنظمة الاقتصادية والأسواق المالية.

وعلى الرغم من أن الدورات تتواجد في ظروف اقتصادية مختلفة جدًّا، فقد يكون من الصعب جدًّا التنبؤ بالعديد منها. وكما قال المستثمر الشهير وارن بافيت: «لقد شعرنا منذ فترة طويلة بأن القيمة الوحيدة للمتنبئين بأسعار الأسهم هي إظهار العرَّافين بمظهرٍ جيد. وحتى الآن، لا نزال أنا وتشارلي [مَنجر] نعتقد أن توقعات السوق القصيرة الأجل مؤذية ولا بد من الاحتفاظ بها في مكان آمن، بعيدًا عن متناول الأطفال، وكذلك البالغون الذين يتصرفون في السوق مثل الأطفال» (خطاب للمساهمين، ١٩٩٢).

وبطبيعة الحال، لا تعني صعوبة التنبؤ التقليل من قيمة محاولة فهم المخاطر المحتملة وتقييم الفرص المتاحة. ورغم أن التوقعات الدقيقة للنقاط قد لا تكون خالية من الأخطاء عندما يتعلق الأمر بالأسواق الاقتصادية والمالية، فمن الأسهل، والأهم من نواحٍ كثيرة، إدراك الدلائل التي تشير إلى زيادة احتمالية حدوث نقطة تحوُّل مهمة في الأسواق المالية. وتتَّسم نقاط التحول هذه بأهمية بالغة وذلك، كما سنرى في الفصول اللاحقة، لأن تجنُّب اتخاذ إجراءات تصحيحية صارمة والمشاركة في المراحل الأولى من انتعاش السوق أمران يُمثلان أوقاتًا حاسمة يمكن أن تُحدِث فارقًا كبيرًا في عوائد المستثمر. وفي كثير من الأحيان، غالبًا ما يُتغاضى عن سلوك المستثمرين وميولهم المتقلبة في نماذج التوقعات التقليدية، وهذا يُفسِّر جزئيًّا السبب وراء عدم توقع نقاط التحول في الدورات الاقتصادية والمالية على نحو جيد.

لا تقتصر صعوبة التنبؤ على العلوم الاجتماعية؛ فحتى التنبؤ بالطقس، استنادًا إلى العلوم الفيزيائية، قد يكون أمرًا صعبًا نظرًا لأن التأثيرات والمتغيرات التي تعتمد عليها النماذج يمكن أن تتغير بسرعة. وقد شكَّل هذا الأمر تحديًا كبيرًا قبل بدء استخدام أحدث النماذج المعتمدة على الكمبيوتر. ومن عجيب المفارقات أن أحد أبرز الأمثلة للإخفاق في التنبؤ بحدث مناخي كبير تزامَن مع انهيار مماثل غير متوقع في أسواق الأوراق المالية في عام ١٩٨٧، بعد عامين من تولي وظيفتي الأولى. ففي الليلة التي سبقت هذا الانهيار، ضربت عاصفة عنيفة إنجلترا؛ مما تسبَّب في حدوث أضرار جسيمة. ووفقًا للعديد من التقديرات، كانت هذه أقوى عاصفة تضرب المناطق الحضرية في المملكة المتحدة منذ عام ١٧٠٦. وسقط أكثر من ١٥ مليون شجرة في السابع عشر من أكتوبر، وفي ذلك ستة من أشجار البلوط السبعة القديمة الشهيرة في مدينة سفن أوكس في كينت، وهي منطقة تقع ضمن نطاق ضواحي لندن حيث كان يعيش العديد من كبار سماسرة البورصة في ذلك الوقت.

تعطلت حركة النقل على نطاق واسع لدرجة أن غالبية أولئك الذين تمكنوا من الوصول إلى المكاتب في وسط لندن كانوا من الموظفين المبتدئين، بمن فيهم أنا، الذين كانوا يقطنون في المناطق القريبة (قبل موجة التحسين واتجاه العائلات للعودة إلى المواقع الأكثر محورية في المدينة) الأقل تكلفة (آنذاك). ونظرًا لعدم وجود إنترنت في ذلك الوقت، أو حتى أجهزة كمبيوتر مزوَّدة بأنظمة تسعير فورية على كل مكتب، كانت المعلومات أبطأ في الوصول وأقل موثوقية مما هي عليه في الوقت الحاضر. وعندما بدأت التقارير عن انهيار سوق الأسهم الأمريكية بالظهور مع افتتاح سوق نيويورك، كنا في حيرة من أمرنا، ولم نكن متأكدين في البداية مما إذا كان هذا حقيقيًّا أم مجرد خطأ ناجم عن العاصفة التي أصابت نظام التسعير الإلكتروني الوحيد الذي كنا نستخدمه.

لكن تركيز الناس انصب على التوقعات المتوفرة، أو غير المتوفرة. وفي الخامس عشر من أكتوبر ١٩٨٧، ذكر مايكل فيش، كبير خبراء الأرصاد الجوية في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، أنه «على ما يبدو أن هناك امرأة اتصلت بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في وقت سابق من اليوم وقالت إنها سمعت أن هناك إعصارًا في الطريق. حسنًا، إذا كنت تشاهدنا الآن، فلا داعي للقلق،7 فلا يوجد شيء من هذا القبيل.» يمكن القول إن جزءًا من صعوبة التنبؤ يرجع إلى عدم توفر البيانات والتقنيات المستخدمة لتحليلها. ومن المفترض أن تكون أجهزة الكمبيوتر الحديثة قادرة على التعامل مع المدخلات المتعددة للنموذج بطريقة أكثر فعالية مما كانت عليه في الماضي.
هذا صحيح فيما يبدو في حالة التنبؤ بالطقس، حيث تكون التنبؤات القصيرة الأجل التي تمتد خمسة أيام على القدر نفسه من الدقة التي كانت عليها التوقعات التي كانت تستمر يومين في عام ١٩٨٠.‏8 متوسط الخطأ في توقعات الأعاصير اليوم ١٦١ كيلومترًا (١٠٠ ميل)، بعدما كانت ٥٦٣ كيلومترًا (٣٥٠ ميلًا) قبل ٢٥ عامًا.9 ولكن لا يبدو أن الأمر نفسه ينطبق على التوقعات الاقتصادية أو توقعات السوق. أثناء حديثه أمام جمهور في معهد الحكومة في لندن، شبَّه كبير الاقتصاديين في البنك المركزي البريطاني، آندي هالدين، إخفاق الاقتصاديين في توقع حدوث أزمة مالية بزلة «مايكل فيش».10
أدت الأحداث التي أحاطت بالأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ والإخفاق في التنبؤ بها إلى تفكير واسع النطاق حول قدرة النماذج على توقع الأحداث الاقتصادية والمالية والتنبؤ بها. وفي اجتماع للأكاديميين في نوفمبر ٢٠٠٨ في كلية لندن للاقتصاد، طرحت الملكة سؤالها الشهير: لماذا لم يتوقع أحدٌ حدوث الأزمة؟ يا له من سؤال جيد! أظهرت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي حول أكثر من ٦٠ حالة ركود في مختلف أنحاء العالم بين ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ أن غالبية خبراء الاقتصاد المحترفين لم يتنبئوا بأيٍّ منها. علاوة على ذلك، من بين حالات الركود اﻟ ٨٨ التي حدثت بين ٢٠٠٨ و٢٠١٢، توقَّع خبراء الاقتصاد حدوث ١١ حالة فقط. دفع سؤال الملكة الأكاديميةَ البريطانية إلى تشكيل فريق من كبار الأكاديميين والسياسيين والصحفيين وموظفي الخدمة المدنية والعاملين بالاقتصاد لمناقشة هذا السؤال ومعالجته وتقديم رد مكتوب إلى الملكة. وأوضحت الرسالة، التي كتبها تيم بيزلي، الأستاذ بكلية لندن للاقتصاد وعضو لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي البريطاني، والأستاذ بيتر هينيسي، المؤرخ السياسي، أنه «… ينتج عن سيكولوجية القطيع وشعارات خبراء المالية والسياسة، وصفة خطيرة. ربما كان من الممكن اعتبار المخاطر الفردية صغيرة، لكن المخاطر التي تُهدد النظام ككلٍّ كانت هائلة. باختصار، جلالة الملكة، هناك أسباب عديدة للإخفاق في توقع توقيت الأزمة وحجمها وشدتها وفي تجنبها، لكن السبب الأساسي هو إخفاق مخيِّلة العديد من الأشخاص الأذكياء، سواء في هذا البلد أو على مستوى العالم، في استيعاب المخاطر التي يتعرض لها النظام كله.»11
غالبًا ما يصبح الإخفاق في توقع نقاط التحول في الدورات بارزًا، عندما تفوق المخاطر الأوسع نطاقًا في الاقتصاد وتقييمات الأسواق المالية الحد. ولكن حتى في ظل الظروف العادية، غالبًا ما تخفق النماذج في تقدير حجم التغيرات عند نقاط التحول. ففي دراسة فحصت دقة توقعات إجمالي الناتج المحلي التي تغطي ٦٣ دولة للفترة بين ١٩٩٢ و٢٠١٤، وُجد أنه «بينما يدرك المتوقعون عمومًا أن سنوات الركود ستكون مختلفة عن السنوات الأخرى، فإنهم يُخفقون في تقدير حجم الركود بفارق كبير حتى قرب انتهاء العام».12 وعلى حد تعبير الباحث في صندوق النقد الدولي، براكاش لونجاني، إن «لدى الاقتصاديين سجلًّا حافلًا بالإخفاق في التنبؤ بدقة بالركود.»

تتمثل المشكلة التي يواجهها المستثمرون في أن التنبؤ بالأسواق، والمتغيرات الاقتصادية التي تؤثر فيها، لا يُعتبر علمًا دقيقًا، ولم ترقَ العديد من الأساليب والنماذج التقليدية إلى المستوى المطلوب بسبب الاعتماد المفرط على النماذج وعدم توفُّر فهم كافٍ للمخاطر النظامية الأوسع نطاقًا وتأثير الجوانب النفسية للبشر على السلوك.

ومع ذلك، ينبغي لنا التأكيد على أنه كان هناك بعض الأشخاص الذين أدركوا المخاطر وحذروا منها، خاصةً فيما يتعلق بالإفراط في المخاطرة والمبالغة في التقييمات. وقد ركَّز هؤلاء الأشخاص على عواقب ارتفاع نسبة المخاطرة والتوقعات على النظام أكثر من تركيزهم على النماذج الاقتصادية القياسية.13

إن إدراك القصور الذي تعاني منه نماذج التنبؤات الاقتصادية فيما يتعلق بفهم المشاعر الإنسانية أو أخذها في الاعتبار، وخاصةً في فترات التفاؤل أو التشاؤم الشديد، ليس بالأمر الجديد. ففي كتابه الصادر عام ١٨٤١ بعنوان «أوهام شعبية استثنائية وجنون الجماهير»، يقول تشارلز ماكاي إن «الناس … يتبعون في تفكيرهم سلوك القطيع؛ وقد ثبت أنهم يصابون بالجنون على نحو جماعي، لكنهم يستعيدون رشدهم ببطء، واحدًا تلو الآخر.»

وحتى خارج فترات الفقاعات، أو في أعماق الأزمات، لا يتصرف الأفراد دائمًا، كما تشير النظريات الاقتصادية التقليدية، بطرق «عقلانية» قابلة للتوقع. وكما يشير الخبير الاقتصادي وعالم النفس البارز جورج لوينستين: «في حين يميل علماء النفس إلى النظر إلى البشر على أنهم غير معصومين من الخطأ، بل مدمرون للذات في بعض الأحيان، يميل خبراء الاقتصاد إلى النظر إلى الأشخاص على أنهم يبالغون بكفاءة في تحقيق المصلحة الذاتية، ولا يرتكبون الأخطاء إلا عندما لا يكونون على دراية كاملة بعواقب أفعالهم.» إن فهم كيفية معالجة البشر للمعلومات وتعاملهم مع المخاطر والفرص هو الذي يساعد جزئيًّا في تفسير وجود الدورات في الأسواق المالية.14
في الواقع، لم تكن الفكرة القائلة بأن الأفراد عقلانيون، ودائمًا ما يستخدمون المعلومات المتاحة بكفاءة، هي السائدة في الاقتصاد. وقد أكد كينيز أن عدم الاستقرار في الأسواق المالية ناجم عن القوى النفسية التي يمكن أن تصبح مهيمنة في أوقات الشك. ووفقًا لكينيز، تؤثر موجات التفاؤل والتشاؤم على الأسواق بينما يكمن الدافع وراء الرغبة في المجازفة في الغرائز الحيوانية.15 وقد حلل اقتصاديون آخرون، مثل مينسكي (١٩٧٥)، هذه التأثيرات.16
لقد ظهر أيضًا هذا التعقيد «البشري» في التنبؤ في عمل تشارلز بي كيندلبيرجر حول الدورات،17 الذي ناقش فيه أن ثَمة ميلًا إلى اتباع سلوك القطيع في الأسواق عندما يقرر المستثمرون جميعًا شراء الأصول حتى عندما لا يكون ذلك منطقيًّا، وينجم عن ذلك في النهاية خطر حدوث فقاعات مالية (وهو موضوع يتناوله الفصل الثامن). وقد طرح هو وغيره من خبراء الاقتصاد أفكارًا مفادها أن السلوك النفسي والاجتماعي يثيران مشاعر انفعالية ونشوةً يمكن أن تنتشر مثل العدوى بين الحشود أثناء فترات الانتعاش، وفي الوقت نفسه ينقلان التشاؤم والعزوف عن المخاطرة مما يتسبب في حدوث كساد ويزيد من تفاقمه.18
كان لاثنين من علماء النفس، وهما كانمان وتفيرسكي، تأثير كبير على فهم علم النفس في العلوم الاجتماعية؛ وقد «كانت شراكتهما غير عادية من حيث التأثير العلمي، فهما يعتبران لينون ومكارتني العلوم الاجتماعية» (مجلة «ذا نيويوركر»)؛19 بمعنى أنهما شكَّلا ثنائيًّا شهيرًا مؤثرًا في العلوم الاجتماعية. تصف أعمالهما حول نظرية الاحتمالات (التي عرضاها لأول مرة في عام ١٩٧٩ وطوَّراها في عام ١٩٩٢) كيف يتصرف المستثمرون عند مواجهة خيارات تنطوي على احتمالات. وهما يقولان إن الأفراد يتخذون قراراتهم استنادًا إلى توقعات المكسب أو الخسارة بناءً على وضعهم الحالي. لذا، إذا توافر خيار متساوي الاحتمالات، فإن أغلب المستثمرين سوف يختارون حماية ثرواتهم الحالية بدلًا من المخاطرة لزيادة ثرواتهم.20 ولكن يبدو أن هذا الميل لحماية ما لديك بدلًا من المخاطرة بكثير من أجل تحقيق مكاسب مستقبلية يختفي في الحالات القصوى عندما تشهد الأسواق ارتفاعات كبيرة في الأسعار، ويصبح الخوف من تفويت الفرصة هو المحرك المهيمن على السلوك.
منذ الأزمة المالية، زاد الاهتمام بالتفسيرات السلوكية وسيكولوجية الأسواق، وتساعد هذه المعلومات في تحقيق فهم أفضل لكيفية وأسباب تطور الدورات المالية، وكيف أنها في كثير من الأحيان يمكن أن تبالغ مبالغةً ملحوظةً في تقدير حجم تطورات المتغيرات الاقتصادية والمالية التي تعتمد عليها. وقد ذكر جورج إيه أكيرلوف وروبرت جيه شيلر، الحائزان على جائزة نوبل، أن «الأزمة لم تكن متوقعة، ولا تزال غير مفهومة بالكامل … نظرًا لعدم وجود مبادئ في النظريات الاقتصادية التقليدية تتعلق بالغرائز الحيوانية.»21 إن تأثير السلوك البشري والطريقة التي يعالج بها البشر المعلومات هي التي تجعل التنبؤ بالأسواق أكثر تعقيدًا بكثير من التنبؤ بأنظمة فيزيائية مثل الطقس.
ومن هذا المنطلق يتجلى اختلاف التنبؤ بالعلوم الفيزيائية، مثل توقعات الطقس، حيث إن هذه التوقعات لا تتأثر بالتغيير الذي تُحدثه المدخلات في سلوك الأشخاص. فالعاصفة التي تدفع الناس إلى البقاء في منازلهم، على سبيل المثال، لا تغير مسارها أو شدتها. وفي حالة الأنظمة الاقتصادية والأسواق المالية، هناك حلقات كبيرة من ردود الأفعال، أو ما يصفه جورج سوروس ﺑ «الانعكاسية»،22 وهو مفهوم تمتد جذوره إلى العلوم الاجتماعية، ولكن له تأثيرات قوية في الأسواق المالية. على سبيل المثال، فإن هبوط سوق الأوراق المالية تحسبًا للركود، قد يؤدي في حد ذاته إلى انهيار الثقة في الأعمال، الأمر الذي يؤثر على قرارات الشركات فيما يتعلق بالاستثمار؛ ومن ثَم يزيد من مخاطر حدوث ركود.
ومن التعقيدات الإضافية أن استجابة الأفراد لمدخلات معينة، مثل التغيرات في أسعار الفائدة، يمكن أن تختلف بمرور الوقت حتى في ظل ظروف مماثلة. وقد أشار مالمندير ونيجل في بحث أجرياه مؤخرًا (٢٠١٦)23 إلى أن المستثمرين يبالغون في تقدير تجاربهم الشخصية بمرور الوقت عندما يطلقون أحكامًا بشأن توقعاتهم. على سبيل المثال، قد تختلف وجهات النظر حول التضخم وفقًا للظروف التي اعتدت عليها، وقد يؤثر ذلك على قراراتك بشأن المستقبل أكثر مما قد يُقترح بالاعتماد على العلاقات التاريخية الطويلة الأجل. وقد يفسر هذا سبب وجود اختلافات في توقعات التضخم بين الأشخاص من مختلف الفئات العمرية؛ فبدلًا من أن يكونوا عقلانيين ويستجيبوا لسياسة معينة أو محفز معين بطريقة متسقة يمكن التنبؤ بها، قد يتصرف المستثمرون بطريقة مختلفة تمامًا استنادًا إلى خبرتهم ونفسيتهم.24

يقدم علم الاقتصاد العصبي، وهو مجال جديد نسبيًّا، أدلةً إضافية على هذه الأنواع من ردود الأفعال المتباينة. ويتناول هذا النهج كيفية صنع القرار داخل الدماغ، ويوفر أيضًا بعض المعرفة حول كيفية مواجهة الأفراد للخيارات التي تنطوي على مخاطر. ويرى الأكاديميون (مثل جورج لوينستين، وسكوت ريك، وجوناثان دي كوهين) أن الناس يتفاعلون مع المخاطر بطريقتين: طريقة خالية من الانفعالات وطريقة انفعالية. ويرى هذا النهج أننا نبالغ في رد فعلنا تجاه المخاطر الجديدة التي قد تكون احتمالية حدوثها منخفضة، ويقل رد فعلنا تجاه المخاطر المعروفة لنا، حتى لو كانت احتمالية حدوثها أكبر. وبهذه الطريقة، على سبيل المثال، قد يؤدي انهيار الأسهم إلى جعل الناس حذرين للغاية بشأن الاستثمار لأنهم واجهوا مخاطر جديدة، على الرغم من حقيقة أنه من غير المرجح حدوث هبوط آخر في السوق. وفي الوقت نفسه، قد يسعد المستثمرون بشراء أسهم تقترب قيمتها من أعلى سعر لها في السوق، على الرغم من التحذيرات المنتظمة بشأن ارتفاع التقييمات؛ وذلك لأنهم شهدوا مؤخرًا ارتفاعات في الأسعار ويشعرون بثقة أكبر للمخاطرة.

قد يتوافق هذا مع سلوك المستثمرين في الفترة التي سبقت الأزمة المالية الأخيرة وفي الفترة التي أعقبتها، فضلًا عن حالات الانتعاش والكساد الأخرى التي لا حصر لها على مر التاريخ. ويؤدي استمرار ارتفاع العوائد في الأسواق المالية إلى الشعور بالتفاؤل والاعتقاد بأن هذا الاتجاه يمكن أن يستمر. ومن ثَم تنخفض علاوة المخاطر المطلوبة وينجذب المستثمرون إلى الأسواق معتقدين أن المخاطر منخفضة، وأن العوائد المتوقعة ستظل قوية كما كانت في الماضي. على النقيض، يتسبب الاقتراب من مواجهة خسائر كبيرة في زيادة قيمة علاوة المخاطرة المطلوبة؛ أي العائد المستقبلي المتوقَّع الذي يحتاجه المستثمرون لخوض المخاطر. وتحديدًا، اختلفت الطريقة التي استجابت بها الشركات والأسواق للتخفيضات الحادة في أسعار الفائدة في الفترة التي أعقبت الأزمة المالية مقارنةً بالفترة التي سبقتها. وبعد مواجهة تجربة الأزمة المالية والركود الذي أعقبها، يبدو أن الناس جميعًا استجابوا بمزيد من الحذر مقارنةً بما كانت عليه الحال في السابق. إن هذه التقلبات في المشاعر والثقة، التي تتشكل جزئيًّا نتيجة التأثر بالأحداث الأخيرة، هي التي تُحرك أيضًا دورات الأسواق المالية.

يتزايد تركيز عالم السياسة كذلك على الحلقات المغلقة من ردود الأفعال وعلى الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها توقعات الأسواق المالية على الدورات الاقتصادية — وخاصةً «الأوضاع المالية» التي تقيس مدى تأثر الاقتصاد بالسياسة النقدية وتتسم بأنها أوسع نطاقًا من مجرد سعر الفائدة الذي يحدده البنك المركزي — سعيًا لمراعاة تأثير توقعات المستثمرين وثقتهم. وتشمل هذه الأوضاع عادةً فروق العوائد وأسعار الأسهم وسعر الصرف الحقيقي.

ولذلك تكمن مشكلة واضعي السياسات في صعوبة معرفة كيفية التعامل مع تحركات السوق المضطربة؛ نظرًا لأن هذه التحركات قد تعني، أو لا تعني بالضرورة، وجود تحوُّل جوهري دقيق في النشاط الاقتصادي. وكما كتب نائب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق روجر فيرجسون: «يبدو أن اكتشاف فقاعة يتطلب إصدار حكم استنادًا إلى أدلة واهية. وهو يستلزم معرفة مؤكدة بالقيمة الأساسية للأصول المعنية.

وكما هو متوقَّع يجد محافظو البنوك المركزية صعوبةً في اتخاذ مثل هذا القرار. وبكل تأكيد سيُطلَب من البنك المركزي الذي يزعم اكتشاف فقاعة توضيح الأسباب التي جعلته واثقًا من حكمه مقابل حكم المستثمرين الذين ربما تكون لديهم مليارات عديدة من الدولارات على المحك.»25
وبطبيعة الحال، يعتمد تأثير أي تغيير في السياسة على مدى توفر القروض ومدى سهولة الحصول عليها.26 ولكن يبدو أيضًا أن الأمر يعتمد على كيفية استقبال المشاركين في السوق المالية لهذا الإجراء (وهو ما يمكن أن يؤثر بدوره على نجاحه)؛ ومن ثَم يعود الأمر في نهاية المطاف إلى سيكولوجية الإنسان وسلوك الجماهير. وكما ذكرت إحدى الدراسات الحديثة: «تتزايد الأدلة حول الدور الكبير الذي يلعبه علم النفس في التطورات الاقتصادية. وتشير النتائج إلى أن العوامل النفسية البشرية تحرك الاقتصاد، وهي نتيجة تتوافق مع تنبؤات كينيز (١٩٣٠) وأكيرلوف وشيلر (٢٠١٠).»27 وفي السياسة العامة يتزايد استخدام التركيز المتجدد على علم النفس في فهم الاستجابات للقرارات. وفي عام ٢٠٠٨، نشر ريتشارد إتش ثيلر وكاس آر سانستين كتاب «التنبيه: تحسين القرارات بشأن الصحة والثروة والسعادة»، الذي ركَّز على الاقتصاد السلوكي. وقد أصبح الكتاب من أكثر الكتب مبيعًا، وكان له تأثير واسع النطاق على السياسة. وفاز السيد ثيلر بجائزة نوبل للاقتصاد في عام ٢٠١٧ عن أعماله في هذا المجال.

على الرغم من كل التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حدثت منذ ثمانينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من الأحداث المتطرفة وصعوبة التنبؤ بمشاعر الإنسان واستجاباته للظروف، فقد تكررت أنماط معينة في الأنظمة الاقتصادية والأسواق المالية. وعلى الرغم من صعوبة تحديد موقعنا في أي دورة أثناء حدوثها، ومدى تعقيد التنبؤ بالعوائد القريبة الأجل، فهناك معلومات مفيدة يمكن للمستثمرين الاطلاع عليها لمساعدتهم في تقييم المخاطر وفهم احتمالات النتائج. إن إدراك الدلائل التي تشير إلى وجود فائض (سواء من التشاؤم أو التفاؤل) وتحديد نقاط التحول المهمة المحتملة يمكن أن يساعد في تحقيق عوائد أكبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥