الفصل الحادي عشر

تأثير التكنولوجيا على الدورة

ناقشتُ في الفصل التاسع التغييرات التي طرأت على الدورة منذ الركود العظيم في عام ٢٠٠٨ والأزمة المالية التي أعقبت ذلك. ورغم أن هذه الدورة الاقتصادية كانت ضعيفة، فقد كانت أطول من المعتاد. وفي الوقت نفسه، كانت دورة سوق الأسهم أقوى.

ساهم تباطؤ نمو إجمالي الناتج المحلي الاسمي مقارنةً بالدورات السابقة، إلى جانب انخفاض التضخم، في تقدم أرباح الشركات تقدمًا ضعيفًا. ولكن لم تشهد جميع مجالات قطاع الشركات نموًّا بطيئًا في الأرباح. لقد كان مجال التكنولوجيا هو الاستثناء. فقد اكتسب تأثير التكنولوجيا على سوق الأسهم ودورتها اهتمامًا على مدى العقد الماضي نظرًا لزيادة حجم شركات التكنولوجيا ونفوذها، خاصة في الولايات المتحدة. وكما ناقشنا في الفصل التاسع، كانت التكنولوجيا القطاع الذي حقق أقوى نمو في الأرباح منذ الأزمة المالية.

تتسم التغيرات السريعة في التكنولوجيا في الثورة الرقمية، التي يُشار إليها أحيانًا باسم الثورة الصناعية الثالثة، بأنها جذرية. وقد كان لها تأثير كبير على كيفية تطور دورة الأسهم منذ الأزمة المالية، كما ساهمت في توسيع الفجوة بين الفائزين والخاسرين النسبيين في سوق الأسهم.

fig71
شكل ١١-١: ضعف أداء القطاعات الكثيفة رأس المال منذ الأزمة المالية (الإجمالي العالمي).

ملحوظة: القطاعات الكثيفة رأس المال: التشجير والورق، المعادن الصناعية والتعدين، السيارات وقطع الغيار، السلع الترفيهية، البناء ومواد البناء، معدات النفط وخدماته، شركات الاتصالات للخطوط الثابتة والمتنقلة، الكهرباء والغاز والمياه والمرافق المتعددة؛ والقطاعات غير كثيفة رأس المال: شركات إنتاج الأغذية والمشروبات، السلع المنزلية وبناء المنازل، السلع الشخصية، التبغ، متاجر التجزئة العامة، معدات وخدمات الرعاية الصحية، الأدوية والتكنولوجيا الحيوية، البرمجيات وخدمات الكمبيوتر، الأجهزة والمعدات التكنولوجية.

المصدر: قسم أبحاث الاستثمارات العالمية بجولدمان ساكس.

لقد كان لقدرة شركات التكنولوجيا على الاستفادة من منتجاتها مع استخدام رأس مال أقل في أعمالها تأثير كبير على الأداء النسبي للقطاعات والشركات في هذه الدورة. على سبيل المثال، بإجراء مقارنة بسيطة بين الصناعات الكثيفة رأس المال والصناعات ذات رأس المال الأقل كثافة، يتضح مدى تمتع القطاعات «القليلة» رأس المال بعوائد أقوى منذ الأزمة المالية (انظر شكل ١١-١).

ظهور التكنولوجيا وأوجه الشبه التاريخية

نظرًا لنجاح قطاع التكنولوجيا وهيمنته، تبدو ثورة التكنولوجيا اليوم حدثًا غير مسبوق. وفقًا للعديد من التقديرات (راجع سين تف ٢٠١٣)، أُنتجَ ٩٠٪ من البيانات العالمية على مدى العامين الماضيين.1 ويتمتع أكثر من نصف سكان العالم الآن بإمكانية الوصول إلى الإنترنت، وقد تطورت هذه القفزة التي بدأت من لا شيء في أقل من ٣٠ عامًا. إن الطفرة التي حدثت في البيانات والتخزين السحابي لا تؤثر في الشركات التي تعزز التكنولوجيا فحسب، بل أيضًا تلك التي تستخدمها لتعطيل الشركات التي تتبع الطرق التقليدية في إنجاز أعمالها.

ومع ذلك، تتشابه العديد من خصائص الثورة التكنولوجية الرقمية الحالية مع فترات أخرى من الابتكار التكنولوجي السريع في الماضي؛ مما يساعد في وضع الاتجاهات التي نشهدها في الدورة الحالية في سياقها الصحيح.

آلة الطباعة وثورة البيانات الكبرى الأولى

نتج عن اختراع آلة الطباعة في عام ١٤٥٤ حدوث أحد أقدم وأهم موجات التكنولوجيا التي أحدثت ثورة في الطريقة التي تعمل بها اقتصادات العالم، والطريقة التي يعمل بها الناس ويتواصلون فيما بينهم. وقد أدت هذه التكنولوجيا إلى حدوث طفرة في المعلومات (على غرار طفرة البيانات التي حدثت في السنوات الأخيرة)؛ الأمر الذي نتج عنه تمهيد الطريق أمام عصر التنوير والعديد من التقنيات الأخرى التي غيَّرت حياة الإنسان (أو «التطبيقات الرائدة» كما يُشار عادةً إليها اليوم). فقبل اختراع آلة الطباعة، كانت المعلومات تُكتَب بخط اليد (في مخطوطات)، وكان تدوينها والوصول إليها يخضعان لسيطرة الكنيسة المشددة. ومع ظهور آلة الطباعة، نما حجم البيانات المتاحة بقدر كبير، ومعه انهارت تكلفة المعلومات (هل يبدو ذلك مألوفًا؟). وفقًا لبحث أجراه بورينج وفان زاندن (٢٠٠٩)،2 فقد ارتفع عدد الكتب المنشورة من لا شيء إلى نحو ثلاثة ملايين كتاب سنويًّا بحلول عام ١٥٥٠ في أوروبا، وهو ما يفوق العدد الإجمالي للمخطوطات (الكتب السابقة للطباعة) التي دُوِّنت في القرن الرابع عشر بأكمله (انظر شكل ١١-٢). وبحلول عام ١٨٠٠، كان قد نُشر ٦٠٠ مليون كتاب. وكما حدث مع كل الابتكارات التكنولوجية، انهارت أسعار الكتب مع انخفاض تكاليف الإنتاج. وتبع ذلك تغيرات اجتماعية ومجتمعية هائلة.
fig72
شكل ١١-٢: ثورة البيانات العظيمة؛ طفرة إنتاج الكتب (أدى اختراع الكتب المطبوعة إلى نمو هائل في البيانات وظهور تقنيات أخرى). (المصدر: ماكس روزر (٢٠١٧)، «الكتب». منشور على الإنترنت على OurWorldInData.org.)

على غرار الإنترنت اليوم، عملت آلة الطباعة كنقطة انطلاق لتطوير العديد من التقنيات المهمة الأخرى، التي بدورها حفزت ظهور مشاريع تجارية وصناعية جديدة، وفي الوقت نفسه عطلت الصناعات التقليدية وأجبرت كثيرًا منها على التغيير والتطور.

ثورة السكك الحديدية والبنية التحتية المتكاملة

يمكن العثور على أوجه تشابه أخرى مع الموجة الحالية من الابتكارات في الثورة الصناعية، عندما كانت التكنولوجيا مرة أخرى المحرك الرئيسي للنمو. فقد تطوَّر العديد من هذه التقنيات بعضها من بعض، واعتمد بعضها على بعض، تمامًا كما تعتمد الهواتف الذكية اليوم على الإنترنت، والعكس صحيح. وقد ثبت أن تأثير الشبكة للابتكار محوري بعد اختراع آلة الطباعة وأثناء ثورة السكك الحديدية. وخلال الثورة الصناعية، حفز النجاح الاستثنائي ونمو السكك الحديدية ظهور كثير من الفرص. وفي عام ١٨٣٠، كان لدى إنجلترا ٩٨ ميلًا من خطوط السكك الحديدية؛ وبحلول عام ١٨٤٠، زاد هذا الرقم إلى نحو ١٥٠٠ ميل، وبحلول عام ١٨٤٩، أصبح نحو ٦٠٠٠ ميل من السكك الحديدية التي تربط بين جميع مدنها الرئيسية.3

نتج عن القروض الميسرة والتكنولوجيا (الثورية) الجديدة حدوث طفرة في الاستثمار، التي بدورها كانت لها آثار متتابعة على زيادة عدد المصانع والتحضر وظهور أسواق تجزئة جديدة، ولم يكن السبب الحقيقي وراء حدوث كل هذه الأمور واضحًا في ذلك الوقت. وقد ساعد مد خطوط القطارات في نمو البنية التحتية للتلغراف في أربعينيات القرن التاسع عشر. وفي غضون ١٠ سنوات، أصبح إرسال البرقيات (الذي لم يكن ممكنًا في السابق) جزءًا من الحياة اليومية (وهو ما يشبه قليلًا تنامي الإنترنت بين تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين). وبحلول منتصف ستينيات القرن التاسع عشر، كانت لندن متصلة بنيويورك، وبعد ١٠ سنوات كان من الممكن إرسال الرسائل بين لندن وبومباي في غضون دقائق. وأصبحت شركات البرق والتلغراف قوية جدًّا؛ وأُنشئت شركة إيه تي آند تي (١٨٨٥).

أسفرت تقنيات أخرى عن زيادة هائلة في الطلب وجذب عدد كبير من الوافدين الجدد. فمع انطلاق البث الإذاعي، زاد بسرعةٍ الطلب على أجهزة الراديو. وبين عامَي ١٩٢٣ و١٩٣٠، اشترى ٦٠٪ من الأُسر الأمريكية أجهزة راديو؛ مما أدى إلى حدوث طفرة في محطات الراديو. وفي عام ١٩٢٠، هيمنت شركة كيه دي كيه إيه على البث الإذاعي الأمريكي، ولكن بحلول عام ١٩٢٢، افتُتحَت ٦٠٠ محطة إذاعية في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

شهدنا أنماطًا مماثلة في طفرة التكنولوجيا في تسعينيات القرن العشرين، حيث أدى الاعتقاد بأن من شأن التكنولوجيا أن تعزز استخدام البيانات إلى حدوث زيادة كبيرة في قيمة شركات الاتصالات والإعلام، فضلًا عن شركات التكنولوجيا الجديدة. وكما اتضح في النهاية، لم ينجح في مجالات التكنولوجيا الناشئة الشركات التي توقع الناس نجاحها، أو حتى تلك التي كانت موجودة، في الموجة الأولى. وعلاوةً على ذلك، تعرضت شركات اتصالات وإعلام كثيرة للاضطراب بسبب الابتكارات التكنولوجية نفسها التي كان من المتوقع قبل ٢٠ عامًا أن تكون سببًا في حدوث تغيرات جذرية. فخلال طفرة السكك الحديدية، تمخض اختراع المحرك البخاري عن إنشاء السكك الحديدية، ثم أتاح تأثير الشبكة والتواصل تطوير تقنيات أخرى. وكان هذا النمط واضحًا أيضًا على مدى العقدين الماضيين. فقد مهَّد تطور الإنترنت وانتشاره السريع الطريق أمام تطور الهواتف الذكية وانتشارها السريع. وقد أدى هذا في حد ذاته إلى ظهور قطاع من الشركات القائمة على التطبيقات المستخدمة على هذه الهواتف (على سبيل المثال، الثورة التي حدثت في خدمات سيارات الأجرة وتوصيل الطعام)، ومن هنا ظهر مصطلح «إنترنت كل شيء» (أي عالم الأجهزة المتصلة).

الكهرباء والنفط، وقود القرن العشرين

من الأمثلة الأخرى على موجات الابتكار غير العادية النمو السريع في توليد الكهرباء في أوائل القرن العشرين. ففي الولايات المتحدة في عام ١٩٠٠، لم تتعدَّ نسبة الطاقة الميكانيكية المولدة بالكهرباء مقارنةً بالبخار أو الماء ٥٪ (بعد أن ارتفعت من ١٪ فقط في عام ١٨٩٠). وبحلول عشرينيات القرن العشرين، وصلت الكهرباء إلى نصف الشركات وما يقرب من نصف المنازل. وكما حدث مع موجات التكنولوجيا الأخرى التي سبقتها، انهارت الأسعار. وانخفض السعر الحقيقي للكهرباء بنحو ٨٠٪ بين عامَي ١٩٠٠ و١٩٢٠؛4 مما أتاح نمو العديد من المنتجات الأخرى ذات الصلة (على سبيل المثال، الراديو).

التكنولوجيا: الاضطراب والتكيف

ثَمة اعتبار آخر للابتكار التكنولوجي وتأثيره على الصناعة، هو أن المستثمرين غالبًا ما ينظرون إلى التأثير الهدام للتكنولوجيا، مفترضين أنها ستحل محل الصناعة القائمة، ولكنهم غالبًا ما يجدون أن تأثيرها تكميلي وليس هدامًا. على سبيل المثال، عندما هيمنت السكك الحديدية على التكنولوجيا في القرن التاسع عشر، كانت هناك مخاوف من أن الخيول لن تكون مطلوبة بعد ذلك. ولكن في واقع الأمر، تسببت السكك الحديدية في تزايد الطلب على الخيول؛ لأنه ظلت هناك حاجة إلى النقل إلى الوجهة النهائية أو إلى وجهة البداية لمحطة السكك الحديدية.5 إن «مشكلة الميل الأول» هذه لها أوجه تشابه مثيرة للاهتمام مع مشكلات اليوم، حيث أصبحت حلول التنقل والتوصيل مطلوبة مع انتقال الطلب إلى الإنترنت. على سبيل المثال، يمكن شراء الطعام على نحو متزايد عبر الإنترنت، ولكن التوصيل إلى المنزل يتم غالبًا عن طريق الدراجات النارية والدراجات والسيارات؛ ويصح الأمر نفسه فيما يتعلق بعمليات شراء المنتجات عبر الإنترنت. وهذا بدوره يخلق شركات جديدة يمكنها استخدام منصات التكنولوجيا لحل هذه المشكلات اللوجستية بكفاءة أكبر. وقد ظهر اتجاه مماثل في الحلول الجديدة في المدن لمشاركة الدراجات والدراجات النارية الصغيرة. لذا يبدو أن حل المشكلات التي تخلقها التقنيات الجديدة يوفر أيضًا الأساس لظهور فرص جديدة.
بالإضافة إلى توفير فرص جديدة، غالبًا ما تحل التكنولوجيا الجديدة محل بعض أشكال التكيف داخل الصناعات التقليدية. على سبيل المثال، عندما ظهرت الساعات الرقمية في سبعينيات القرن العشرين، كان من المتوقع على نطاق واسع أن تختفي الساعات الميكانيكية. كانت هذه المخاوف في غير محلها، حيث أجرت شركات صناعة الساعات التقليدية تحديثات في منتجاتها، واستفادت من الاتجاه نحو الجودة والحنين إلى الماضي. وحققت الصناعة في سويسرا وحدها إيرادات بلغت ٢١٫٨ مليار فرنك سويسري في عام ٢٠١٨.6 ينطبق الأمر نفسه على السينما. فقد أدى ظهور تقنية الفيديو في ثمانينيات القرن العشرين، ثم أقراص الدي في دي في عام ١٩٩٧، إلى توقع إغلاق دور السينما نظرًا لسهولة مشاهدة الأفلام في المنزل. ومجددًا طوَّرت السينما من نفسها وأصبحت قطاعًا سريع النمو في مجال الترفيه، حيث حققت مبيعات التذاكر العالمية رقمًا قياسيًّا بلغ ٤١٫٧ مليار دولار في عام ٢٠١٨.7 حتى إن أسطوانات الفينيل بدأت تظهر مرة أخرى بين جيل الشباب الذين ينجذبون إلى الأشياء العتيقة المظهر، وبيع أكثر من ٤ ملايين ألبوم مطابق لشروط التصنيفات في المملكة المتحدة وحدها في عام ٢٠١٨.8

التكنولوجيا والنمو في الدورة

أحد جوانب طفرة التكنولوجيا الحالية التي هيمنت على دورة الأسهم في السنوات العشر الماضية أو نحو ذلك هو انخفاض النمو الاقتصادي ونمو الإنتاجية عمومًا. وقد زعم البعض أن هذا يشكل مفارقةً ويوضح التأثير المحدود لمثل هذه التقنيات، وأن أسعار الأسهم لا بد أنها قد بالغت في تقدير إمكاناتها. ولكن هناك أدلة قوية من التاريخ بأن موجات التكنولوجيا السابقة أسفرت أيضًا عن تباطؤ نمو الإنتاجية والنشاط الاقتصادي أكثر مما يُعتقد عمومًا. على سبيل المثال، رغم أن جيمس وات سوَّق محركًا فعالًا نسبيًّا في عام ١٧٧٤، لم تظهر أول قاطرة بخارية ناجحة تجاريًّا إلا في عام ١٨١٢، ولم يتسارع نصيب الفرد من الناتج في بريطانيا بوضوح إلا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

أظهرت دراسات أكاديمية عديدة أن التحسن في الإنتاجية في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر كان ضئيلًا.9 وكان نمو الإنتاجية بطيئًا خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ولم يتحسن إلا في عام ١٨٣٠. ومع ذلك، فإن هذا يُفضي إلى الرأي القائل بأن التغيرات التكنولوجية الأولية غالبًا ما تستغرق وقتًا طويلًا لتؤثر في الاقتصاد بأكمله.
يمكن ملاحظة نمط مماثل في عصر الكهرباء في ثمانينيات القرن التاسع عشر. ولم تُسفر هذه الابتكارات عن مكاسب إنتاجية كبيرة حتى عشرينيات القرن العشرين، عندما أُدركَت إمكانيات إعادة هيكلة المصانع.10 في الواقع، من المحتمل أن نشهد تأثيرًا مماثلًا بعد ثورة تكنولوجيا المعلومات (انظر ديفيد ورايت ٢٠٠١). ولذا من المنطقي أن الثورة الرقمية لم تنجح بعدُ في تعزيز الإنتاجية.11

غالبًا ما تتمتع التقنيات الجديدة بإمكانات هائلة لنمو الإنتاجية، ولكن قد يكون من الصعب اعتمادها بكفاءة إلى أن يتم إعادة هيكلة عملية التصنيع، وفي كثير من الحالات، يقتضي الأمر وجود معيار عالمي للتقنية. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتسبب الحاجة إلى إنشاء قاعدة مستخدمين ضخمة من أجل تحقيق تأثيرات الشبكة في إعاقة انتشار التقنية في البداية وبالتبعية في إبطاء زيادة الإنتاجية. كان استخدام المحرك البخاري والفحم للصهر أيضًا عرضة لتأثيرات الشبكة هذه. وفي نهاية المطاف، كان نقل الفحم بمثابة دفعة كبيرة للنمو والإنتاجية، ولكن لم يكن من الممكن اعتماده بالكامل إلا بعد إنشاء شبكات النقل. وبالمثل، لم يكن يمكن تعويض التكاليف الثابتة الكبيرة للاستثمار إلا عندما بدأ عدد كافٍ من المستخدمين الجدد في الاعتماد على مصدر الطاقة الجديد. وفي الوقت نفسه، تطلب استخدام الطاقة البخارية بناء مصانع ثم بناء قنوات لتسهيل نقل المواد الخام والمنتجات النهائية. وعلى نحو مماثل، قد يكون الانتقال من محركات الاحتراق الداخلي إلى المحركات الكهربية أمرًا ممكنًا من الناحية الفنية، ولكنه يتطلب نظامًا متكاملًا لإمداد الطاقة ومحطات الشحن قبل اعتماده اعتمادًا كاملًا.

في ثمانينيات القرن العشرين، انتشرت على نطاق واسع مخاوف بشأن نقص نمو الإنتاجية، وبالتبعية سوء تقدير الشركات المرتبطة بالتكنولوجيا. وفي عام ١٩٨٧، صرَّح روبرت سولو، الحائز على جائزة نوبل، بأنه «يمكنك رؤية تأثير عصر الكمبيوتر في كل مكان باستثناء إحصاءات الإنتاجية.»12 وتلاشت هذه المخاوف عندما شهدت العديد من الاقتصادات تحسنًا كبيرًا في الإنتاجية في تسعينيات القرن العشرين. لكن ضعف نمو الإنتاجية في العديد من الاقتصادات منذ الركود العظيم والأزمة المالية أعاد إحياء هذا النقاش مجددًا.
على الرغم من أن البعض يرون أن الوقت الذي يقضيه الأشخاص في العمل لا يقدر تقديرًا سليمًا، بل يتم التقليل من قيمته الحقيقية؛ مما يشير إلى أن الإنتاجية الفعلية قد تكون أضعف، فإن هناك من يرى أنه ثَمة مشكلة في قياس الإنتاجية. على سبيل المثال، حلل خبراء الاقتصاد في جولدمان ساكس13 أسعار السوق لأجهزة آيفون غير مستعملة مبيعة على موقع إيباي، ووجدوا أن انخفاض الأسعار بنسبة ٢٠٪–٤٠٪ في الأشهر القريبة من طرح طرازات جديدة يعني وجود تحسينات كبيرة في الجودة. إن الفجوة التضخمية بين أسعار السوق الثانوية ومؤشر أسعار المستهلك لأجهزة الهاتف تعني تحسنًا سنويًّا في الجودة بنحو ٨٪. وبتطبيق هذه التعديلات في الجودة على فئات الاستهلاك ذات الصلة، قدَّر الباحثون أن نسبة التقليل في تقدير قيمة معدل نمو الاستهلاك السنوي تتراوح بين +٠٫٠٥ نقطة مئوية و+٠٫١٥ نقطة مئوية على مدى العقد الماضي. وبالاستناد إلى هذه النتائج مجتمعة، قدَّر الباحثون أن القياس الخاطئ المجمع لنمو إجمالي الناتج المحلي الأمريكي يتراوح حاليًّا بين ٣/٢ نقطة مئوية و٤/٣ نقطة مئوية سنويًّا، بعد أن كان نحو ٤/١ نقطة مئوية قبل عقدين من الزمن. ورغم أن هذه الأرقام كلها غير مؤكدة إلى حد كبير، فإن تحليلها والتطورات الأخيرة في الأبحاث والدراسات تشير إلى أن وتيرة نمو الإنتاجية الحالية أعلى كثيرًا مما تبدو عليه.

هذه نقطة مهمة لأنها تشير إلى أن النمو الاقتصادي الضعيف الذي شهدناه بعد الأزمة المالية ربما يكون راجعًا، على الأقل فيما يخص جزءًا ضئيلًا، إلى التقدير الخاطئ لتأثير التكنولوجيا على النمو والإنتاجية. وقد يفسر هذا أيضًا السبب في أن نمو أرباح التكنولوجيا كان أقوى كثيرًا من نمو إجمالي الناتج المحلي المقيس على مدى السنوات الأخيرة. وعلى أي حال، ربما تساهم مشكلة القياس إلى حد ما في تفسير سبب اختلاف الدورة الاقتصادية والاستثمارية إلى حد ما في فترة ما بعد الأزمة المالية (راجع الفصل التاسع).

لذلك، ورغم أن وتيرة الابتكار والفوائد الجانبية التي تنتج عن هذه التقنيات الجديدة قد تبدو أسرع من أي وقت مضى، فإن التاريخ يُظهِر أننا قد شهدنا أنماطًا مماثلة في الماضي. فالشركات المهيمنة التي قادت الموجات السابقة من التكنولوجيا ظلت مهيمنة لفترة طويلة للغاية. ولكن تأثير الشبكة الذي أحدثته هذه الشركات أدى إلى ظهور مزيد من الابتكارات والشركات الجديدة. وهنا تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات لها علاقة بفرص التكنولوجيا:

  • الشركات التي تخترع أو تبتكر (آلة الطباعة، والراديو، والتلفزيون)
    رغم أن الشركات المبتكِرة غالبًا ما تكون ناجحة، لا تنجح جميع هذه الشركات أو الشركات الرائدة في التكنولوجيا. والتاريخ مليء بأمثلة لشركات تدخل أحد المجالات الجديدة، لكن لا ينجح منها إلا عدد قليل. ففي عام ١٨٩٩، أنتجت ثلاثون شركة مُصنِّعة أمريكية ٢٥٠٠ مركبةً ذات محرك، ودخلت ٤٨٥ شركة في هذا المجال في العقد التالي.14 والآن تهيمن على السوق ثلاثة تكتلات. وبالمثل، بين عام ١٩٣٩ واليوم، صنعت أكثر من ٢٢٠ شركة مُصنِّعة لأجهزة التلفزيون أجهزة تلفزيون في السوق الأمريكية ومن أجل السوق الأمريكية. ومن بين هذه الشركات، يُقدَّر عدد الشركات التي ما زالت تصنع أجهزتها حتى اليوم بنحو ٢٣ شركة.15
  • الشركات التي تنشئ البنية التحتية لدعم الاختراعات الجديدة (السكك الحديدية أو النفط أو توليد الطاقة أو محركات البحث على الإنترنت)

    كما ورد سابقًا، يمكن أن تصبح الشركات الداعمة للشبكات مهيمنة للغاية، ولكن من الصعب أن نعرف على وجه اليقين في البداية أي الشركات من المرجَّح أن تستمر. على سبيل المثال، كانت شركة إيه أوه إل واحدة من أوائل مقدمي خدمات الإنترنت، ولكنها خسرت في النهاية أمام شركة جوجل. وكانت ماي سبيس واحدة من أوائل الشركات التي روجت لوسائل التواصل الاجتماعي والملفات الشخصية على الإنترنت واشترتها شركة نيوز كورب، ولكنها لم تستطِع الصمود أمام فيسبوك.

  • الشركات التي تستفيد من الابتكارات الجديدة لتعطيل أو استبدال الشركات القائمة في الصناعات التقليدية (مثال ذلك المنصات أو الأسواق الرقمية)
    في السنوات الأخيرة، غالبًا ما عكس هذا الأمر تأثير المنصات أو الأسواق الرقمية التي أصبحت ناجحة لأنها تستفيد مما يُسمى بتأثيرات الشبكة. وكما ذُكر في صحيفة «ذا إيكونوميست»: «الحجم يولد الحجم؛ فكلما زاد عدد البائعين الذين يمكن لأمازون، على سبيل المثال، جذبهم، زاد عدد المشترين الذين سيتسوقون من خلال الموقع؛ مما يجذب مزيدًا من البائعين، وهكذا.»16

لكن هذه الملاحظات البسيطة قد تبالغ في تبسيط الوضع إلى حد ما. في نهاية المطاف، يعتمد نجاح الشركات عمومًا على مجموعة من العوامل مثل التوقيت (متى يحظى المنتج بقبول عام في السوق)، والإدارة الجيدة، والتمويل.

إلى متى تستطيع الأسهم والقطاعات الحفاظ على الهيمنة؟

على الرغم من الأسس الأقوى التي يتمتع بها قطاع التكنولوجيا اليوم مقارنةً بما كان عليه الحال قبل عشرين عامًا، فإن الحجم الكبير لهذا القطاع، وخاصةً في بعض الأسواق، يثير مسألة الاستدامة. وهنا يظهر السؤالان الآتيان: ماذا يمكن للتاريخ أن يخبرنا عن طول مدة هيمنة القطاعات؟ وإلى أي مدًى يمكن أن يصل حجم قطاع أو سهم؟

بالاستناد إلى تاريخ تكوين القطاعات في مؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ باعتباره معيارًا مرجعيًّا، يتضح لنا أن هيمنة القطاعات ليست ظاهرة جديدة. وبمرور الوقت، أسفرت موجات التكنولوجيا المختلفة عن مراحل مختلفة من هيمنة القطاع؛ ومع تنوع أسواق الأسهم، أصبح القطاع الأكبر يشكل حصة أصغر من إجمالي السوق.

fig73
شكل ١١-٣: يشكل القطاع الأكبر حصة أصغر مع تنوع أسواق الأسهم (حصة القطاع الأكبر في الولايات المتحدة).
المصدر: قسم أبحاث الاستثمارات العالمية بجولدمان ساكس.

يمكن تقسيم ريادة القطاعات في سوق الأسهم الأمريكية إلى ثلاث فترات رئيسية، تعكس كلٌّ منها المحرك الرئيسي للاقتصاد في ذلك الوقت.

  • ١٨٠٠–خمسينيات القرن التاسع عشر: قطاع التمويل. خلال هذه الفترة، كانت البنوك هي القطاع الأكبر. في البداية، شكلت البنوك ما يقرب من ١٠٠٪ من سوق الأسهم، حتى تطورت سوق الأسهم وتوسعت. وبحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، انخفض حجم القطاع إلى أكثر من النصف.

  • خمسينيات القرن التاسع عشر–العقد الأول من القرن العشرين: قطاع النقل. مع بدء تمويل البنوك لنظام السكك الحديدية السريع التوسع في الولايات المتحدة (وفي أماكن أخرى)، استحوذت أسهم النقل على أكبر قطاع في المؤشر. في سنوات ازدهارها، شكَّلت ما يقرب من ٧٠٪ من المؤشر في الولايات المتحدة قبل أن تتراجع إلى نحو ثلث القيمة السوقية لمؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى.

  • عشرينيات القرن العشرين–سبعينيات القرن العشرين: قطاع الطاقة. مع النمو الهائل للصناعة، التي كانت تعتمد على النفط بدلًا من البخار والفحم، استحوذت أسهم الطاقة على القطاع الأكبر. وظلت الطاقة القطاع الرئيسي حتى تسعينيات القرن العشرين، ولكن كان يتخلل هذه المدة فترات قصيرة من ريادة قطاع التكنولوجيا الناشئ (في الموجة الأولى، قاد هذا القطاع أجهزة الكمبيوتر المركزية وبعد ذلك البرمجيات).

إلى أي مدًى يمكن أن ترتفع التقييمات؟

شهدت فترات أخرى في التاريخ وصول شركات النمو إلى تقييمات أعلى مما نشهده اليوم. فهناك فترتان سابقتان حيث هيمنت مجموعة من الأسهم على عوائد وتقييمات سوق الأسهم في ستينيات إلى أوائل سبعينيات القرن العشرين، أو ما يُسمى بعصر نيفتي فيفتي، وأواخر تسعينيات القرن العشرين، التي شهدت نهضة التكنولوجيا. شهدت فترة نيفتي فيفتي هيمنة مجموعة من ٥٠ شركة لم تركز على قطاع معين، على عكس ما حدث في وقت لاحق في تسعينيات القرن العشرين، بل على مفهوم. وكان هناك تفاؤل كبير بأن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية ستسمح لجيل جديد من الشركات الأمريكية بأن تصبح شركات متعددة الجنسيات ورائدة في السوق العالمية.

تمتَّع كثير من الشركات التي كانت مفضلة بعوائد مرتفعة للغاية (مختلفة إلى حد ما عن فقاعة التكنولوجيا في أواخر تسعينيات القرن العشرين، عندما كانت تهيمن على السوق شركات جديدة لا تحقق عوائد)، وكان هناك اعتقاد بأن هذه العوائد يمكن الحفاظ عليها في المستقبل البعيد. ولهذا السبب، كان يشار إليها غالبًا باسم أسهم «القرار الواحد». وعادةً ما كان المستثمرون يسعدون بشرائها والاحتفاظ بها بغضِّ النظر عن سعرها. وشاع في هذه الفترة الابتعاد عن الاستثمار القائم على القيمة والتوجه نحو استثمار النمو. ونتيجةً لذلك، ارتفعت التقييمات ارتفاعًا كبيرًا. وبحلول عام ١٩٧٢، عندما كانت نسبة السعر إلى الأرباح في مؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ تساوي ١٩ مرة، تجاوز متوسط نسبة سعر إلى أرباح شركات نيفتي فيفتي ضعف هذا الرقم. وجرى تداول أسهم بولارويد عند نسبة سعر إلى أرباح تتجاوز ٩٠ مرة، وجرى تداول أسهم والت ديزني وماكدونالدز عند نسبة سعر إلى أرباح تتجاوز ٨٠ مرة من الأرباح المستقبلية المتوقعة. وعلى الرغم من هذه التقييمات المرتفعة، صرَّح البروفيسور جيريمي سيجل (١٩٩٨) بأن معظم الأسهم قد نمت بالفعل إلى تقييماتها وحققت عوائد قوية للغاية.

في وقت لاحق، دفع توجه مماثل التركيز على «الاقتصاد الجديد» في أواخر تسعينيات القرن العشرين. وحينها، خسرت أسهم القيمة (أو «الاقتصاد القديم») الاستحسان، كما حدث في ستينيات القرن العشرين. في واقع الأمر يختلف إلى حد كبير الارتفاع الحالي في شركات التكنولوجيا الذي أعقب الأزمة المالية عن الهوس الذي قاد الفقاعة في أواخر تسعينيات القرن العشرين. وفي السنوات التي سبقت الأزمة، هيمنت البنوك على نسبة كبيرة من القطاع في العديد من أسواق الأسهم (مستفيدةً من مجموعة من العوامل، وهي النمو القوي، والاستدانة العالية، والابتكار في المنتجات). ومع تراجع زعامة البنوك في الأسواق، سرعان ما أصبحت التكنولوجيا القائد الرئيسي لعوائد السوق وهيمنت على القطاع مرة أخرى. ومنذ عام ٢٠٠٨، زادت حصة قطاع التكنولوجيا في سوق الأسهم العالمية من ٧٪ إلى ١٢٪؛ وفي الوقت نفسه، زادت حصته في السوق الأمريكية إلى ما يقرب من الضعف، حيث زادت من ١٣٪ إلى ٢١٪ في مؤشر ستاندرد آند بورز. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، ارتفعت حصة التكنولوجيا في القيمة السوقية العالمية من ١٠٪ فقط من مؤشر ستاندرد آند بورز في عام ١٩٩٦ إلى ذروة بلغت ٣٣٪ في عام ٢٠٠٠.

جدول ١١-١: أكبر الشركات في مجال التكنولوجيا اليوم، شركات التكنولوجيا في تسعينيات القرن العشرين وشركات نيفتي فيفتي (بيانات إف إيه إيه إم جي اعتبارًا من ٣١ ديسمبر ٢٠١٩، وبيانات فقاعة التكنولوجيا اعتبارًا من ٢٤ / ٠٣ / ٢٠٠٠، وبيانات نيفتي فيفتي اعتبارًا من ٢ يناير ١٩٧٣، باستثناء البيانات الفعلية لنسبة السعر إلى الأرباح لعام ١٩٧٢).*
الحجم التقييم
النسبة في السوق القيمة السوقية (مليار دولار) نسبة السعر إلى الأرباح (السنة المالية القادمة)
إف إيه إيه إم جي
أبل ٤٫٦٪ ١٣٠٥ ١٨٫٧
مايكروسوفت ٤٫٥٪ ١٢٠٣ ٢٥٫٥
ألفابت ٣٫٠٪ ٩٩٣ ٢٥٫٠
أمازون ٢٫٩٪ ٩١٦ ٦٥٫٩
فيسبوك ١٫٨٪ ٥٨٥ ٢٢٫١
إجمالي إف إيه إيه إم جي ١٦٫٨٪ ٥٠٠٢ ٢٥٫١
فقاعة التكنولوجيا
مايكروسوفت ٤٫٥٪ ٥٨١ ٥٥٫١
سيسكو سيستمز ٤٫٢٪ ٥٤٣ ١١٦٫٨
إنتل ٣٫٦٪ ٤٦٥ ٣٩٫٣
أوراكل ١٫٩٪ ٢٤٥ ١٠٣٫٦
لوسنت ١٫٦٪ ٢٠٦ ٣٥٫٩
إجمالي فقاعة التكنولوجيا ١٥٫٨٪ ٢٠٤٠ ٥٥٫١
نيفتي ٥٠
آي بي إم ٨٫٣٪ ٤٨ ٣٥٫٥
إيستمان كوداك ٤٫٢٪ ٢٤ ٤٣٫٥
سيرس روبوك ٣٫٢٪ ١٨ ٢٩٫٢
جنرال إلكتريك ٢٫٣٪ ١٣ ٢٣٫٤
زيروكس ٢٫١٪ ١٢ ٤٥٫٨
إجمالي نيفتي فيفي ٢٠٫٠٪ ١١٦ ٣٥٫٥
المصدر: قسم أبحاث الاستثمارات العالمية بجولدمان ساكس.
الأمر الأهم أن تقييم الشركات في الفترات السابقة كان أعلى كثيرًا من تقييم أغلب شركات التكنولوجيا في وقتنا الحاضر. وكما يظهر في جدول ١١-١، فإن أكبر أسهم لشركات التكنولوجيا خلال فقاعة التكنولوجيا كانت تُتداوَل عند متوسط نسبة سعر إلى أرباح يتجاوز ٥٠ مرة (على الرغم من أن العديد من الأسهم كانت أغلى من ذلك بكثير). وتُدُووِلَت أكبر أسهم نيفتي فيفتي عند متوسط نسبة سعر إلى أرباح بلغ ٣٥ مرة. واليوم، تُتداوَل أكبر أسهم لشركات التكنولوجيا عند متوسط نسبة سعر إلى أرباح يبلغ نحو ٢٥ مرة من الأرباح المتوقعة، رغم الانخفاض الشديد لأسعار الفائدة (وخاصةً مقارنةً بأوائل سبعينيات القرن العشرين) (انظر جدول ١١-١).

إلى أي حد يمكن أن تنمو الشركات مقارنةً بحجم السوق؟

لقد زادت القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا الرائدة زيادةً كبيرة في الدورة الحالية، وهذا يعكس النمو الكبير في الإنفاق على التكنولوجيا وقدرته على أن يحل محل الإنفاق الرأسمالي التقليدي الآخر. وفي كثير من الأحيان تكاد المنصات الجديدة تستحوذ على السوق بأكملها.

ولكن مجددًا، هذه ليست ظاهرة جديدة. على سبيل المثال، سيطرت شركة ستاندرد أويل على أكثر من ٩٠٪ من إنتاج النفط و٨٥٪ من المبيعات في الولايات المتحدة بحلول عام ١٩٠٠. وفي الوقت نفسه، تمكنت شركة يو إس ستيل، وهي شركة رائدة أخرى في قطاع مهيمن، من تجنب الانهيار، وأصبحت أول شركة تبلغ قيمتها السوقية «مليار دولار».

أدت موجة أخرى من التكنولوجيا إلى هيمنة شركة إيه تي آند تي. واحتكرت شركة إيه تي آند تي سوق الاتصالات في الولايات المتحدة لعقود من الزمن، حتى تدخلت الحكومة الأمريكية في واحدة من أشهر حالات مكافحة الاحتكار. واحتفظت شركة إيه تي آند تي بأكثر من ٧٠٪ من المبيعات مقارنةً بشركات الاتصالات الأمريكية المدرجة في البورصة من عام ١٩٥٠ إلى عام ١٩٨٠. رفعت وزارة العدل دعوى قضائية ضد الشركة لأول مرة في عام ١٩٧٤، لكن الحكم ضد شركة إيه تي آند تي لم يصدر حتى عام ١٩٨٢، وفي النهاية صدر حكم بحل الشركة في الأول من يناير ١٩٨٤. أدى حل الشركة إلى زيادة عدد الشركات في قطاع الاتصالات حيث قُسِّمَت شركة إيه تي آند تي إلى ثماني شركات صغيرة. في عام ١٩٧٥، كانت شركة إيه تي آند تي واحدة من شركتين فقط تمتلكان أكثر من ٥٪ من المبيعات في قطاع الاتصالات في نظام معيار التصنيف الصناعي القياسي. وبحلول عام ١٩٩٦، كان هناك تسع شركات اتصالات أمريكية مدرجة في البورصة بأكثر من ٥٪ من مبيعات القطاع.17

مع تطور أجهزة الكمبيوتر المركزية في سبعينيات القرن العشرين، كان هناك أيضًا تركيز كبير لحصة السوق في الشركات الرائدة، وخاصة في شركة آي بي إم، التي أدت هيمنتها إلى رفع وزارة العدل الأمريكية لدعوى قضائية لمكافحة الاحتكار ضدها في عام ١٩٦٩. ووفقًا لتقارير إخبارية في ذلك الوقت، كانت حصة آي بي إم في سوق أجهزة الكمبيوتر المركزية خلال هذا الوقت تبلغ نحو ٧٠٪. وقد رفعت وزارة العدل دعواها القضائية في يناير ١٩٦٩، زاعمةً أن آي بي إم كانت تقمع المنافسة من خلال تكتيكات مختلفة، مثل العروض المجمعة. واستمرت الدعوى القضائية لمدة ١٣ عامًا، وأُسقطَت في النهاية في يناير ١٩٨٢.

وعلى الرغم من عدم صدور حكم ضد شركة آي بي إم، فإن المخاطر التنظيمية كانت سببًا في انحدار مطرد في نمو المبيعات والهوامش. وكان نمو مبيعات آي بي إم ربع السنوية متقلبًا إلى حد ما في الستينيات والسبعينيات، ولكنه تحوَّل إلى الانخفاض بوضوح في الثمانينيات مع انتقال الصناعة إلى منتجات جديدة، مع استمرار التدقيق التنظيمي.

ومع تولي البرمجيات دور المحرك الرئيسي للتكنولوجيا، حدث تحول آخر في الهيمنة. وفي عام ١٩٩٢، واجهت مايكروسوفت مجموعة من الدعاوى القضائية بشأن وضعها في الصناعة، مع التركيز المتزايد على قرار ربط المتصفح إنترنت إكسبلورر بنظام التشغيل ويندوز. ورفعت الولايات المتحدة دعوى قضائية ضد مايكروسوفت في مايو ١٩٩٨، وأمر القاضي بتقسيم الشركة إلى شركتين في يونيو ٢٠٠٠. ولكن عُدِّل الحكم في الاستئناف في يونيو ٢٠٠١؛ مما أدى إلى تسوية تضمنت مرسوم موافقة، غيرت مايكروسوفت بموجبه بعض ممارساتها التجارية، مثل الاتفاقيات الحصرية. كان نظام التشغيل الخاص بشركة مايكروسوفت يعمل على أكثر من ٩٠٪ من أجهزة المستهلكين في عام ٢٠٠٠ (راجع وزارة العدل الأمريكية ٢٠١٥). ومع ذلك، قيدت الأحكام الواردة في تسوية عام ٢٠٠١ كيفية السماح لشركة مايكروسوفت بتطوير البرامج وترخيصها. وانخفض متوسط نمو مبيعات مايكروسوفت ربع السنوية من ٤٠٪ (١٩٨٨–٢٠٠٠) إلى ١٠٪ (٢٠٠١–٢٠١٨)، على الرغم من أن جزءًا من هذا التباطؤ يمكن أن يُعزى على الأرجح إلى المشهد المتغير للتكنولوجيا (على سبيل المثال، ظهور الهواتف الذكية والتحول إلى «السحابة»).

في الآونة الأخيرة، ومع هيمنة الحوسبة المحمولة وتطبيقات الإنترنت، تحول اتجاه تركيز السوق مرة أخرى. ففي مجال البحث على الإنترنت، على سبيل المثال، تمتلك جوجل حصة سوقية تزيد عن ٩٠٪، وتبلغ حصة منافسها الأكبر الذي يليها — بينج — ٣٫٢٪ (حصة سوق المتصفحات على مستوى العالم، بدون تاريخ). ولذلك أصبحت العديد من شركات التكنولوجيا كبيرة للغاية ومهيمنة في الدورة الحالية أيضًا، وتثار تساؤلات حول المنافسة والتشريعات والتنظيمات المحتملة. ومجددًا، هذا لا يقتصر على الدورة الحالية. ومثلما حدث مع القطاعات، ظلت الشركات الكبيرة في الصدارة، وغالبًا ما كانت تتمتع بمكانة مهيمنة في السوق، لفترات طويلة تعكس الأوضاع الاقتصادية. وكانت أكبر الشركات في مؤشر ستاندرد آند بورز على مر التاريخ على النحو الآتي:

  • ١٩٥٥–١٩٧٣: جنرال موتورز: خلال «العصر الذهبي للرأسمالية»، تجاوزت أرباح جنرال موتورز ١٠٪ من مؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠.
  • ١٩٧٤–١٩٨٨: آي بي إم: «عصر أجهزة الكمبيوتر المركزية» (بلغت ذروتها عند ٧٫٦٪ من القيمة السوقية).
  • ١٩٨٩–١٩٩٢: إكسون: شركة فرعية من ستاندرد أويل، التي كانت مهيمنة لفترة طويلة قبل قرن تقريبًا (بلغت ذروتها عند ٢٫٧٪ من القيمة السوقية).
  • ١٩٩٣–١٩٩٧: جنرال إلكتريك: (بلغت ذروتها عند ٣٫٥٪ من القيمة السوقية).
  • ١٩٩٨–٢٠٠٠: مايكروسوفت: «عصر البرمجيات» (بلغت ذروتها عند ٤٫٩٪ من القيمة السوقية).
  • ٢٠٠٠–٢٠٠٥: جنرال إلكتريك (مرة أخرى): (بلغت ذروتها عند ٣٫٥٪ من القيمة السوقية.)

  • ٢٠٠٦–٢٠١١: إكسون (مرة أخرى): (بلغت ذروتها عند ٥٫٢٪ من القيمة السوقية) على الرغم من أن بنك أوف أمريكا وسيتي جروب كانا لفترة وجيزة أكبر الأسهم بين عامَي ٢٠٠٦ و٢٠٠٧ قبل الأزمة المالية.

  • ٢٠١٢ حتى اليوم: أبل (وأحيانًا مايكروسوفت): (بلغت ذروتها عند ٥٫٠٪ من القيمة السوقية.)

كانت حصة الشركات المهيمنة في الفترات السابقة أكبر بكثير في السوق الأوسع مما هي عليه اليوم. ومع ذلك، فإن إحدى النقاط المثيرة للاهتمام هي أن أكبر الشركات، وخاصةً تلك التي كانت موجودةً منذ فترة طويلة، لم تكن كبيرة مثل الشركات الحالية من حيث حصتها في السوق أو قيمتها السوقية. على سبيل المثال، قبل حل شركة إيه تي آند تي، كانت قيمتها نحو ٤٧ مليار دولار، وهو ما يعادل ١٢٠ مليار دولار اليوم. إن نطاق الشركات المهيمنة الحالية وقوة أرباحها أكبر بكثير مما رأيناه في الماضي. والحجم الهائل لهذه الشركات المهيمنة يجعل من الصعب عليها أن تنمو، ولكن من غير المرجح أن يحد هذا من المساهمة المهيمنة لقطاع التكنولوجيا على نطاق أوسع مع تطور الشركات الأحدث.

التكنولوجيا واتساع الفجوات بين الرابحين والخاسرين

على الرغم من أنني أزعم أن هيمنة التكنولوجيا في دورة سوق الأسهم الحالية ليست ظاهرة جديدة، تتمثل إحدى الطرق التي أحدثت بها التكنولوجيا تغييرًا في هذه الدورة في كيفية تأثيرها في أنماط القيادة في أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم. وعلى مدى العقد الماضي، على وجه الخصوص، هناك طريقتان وسعت بهما التكنولوجيا الفجوات بين الرابحين والخاسرين.

الأولى من خلال الفارق المتزايد بين أجور العمال والأرباح التي تُحققها الشركات، أو حصة الناتج التي تُخصَّص للعمالة في مقابل الحصة المخصصة للشركات. وقد أكدت بعض الدراسات الأكاديمية على دور تراكم رأس المال والتطور التكنولوجي المعزز لرأس المال في التأثير على كيفية تقسيم الناتج بين العمال والشركات (على سبيل المثال، بنتوليلا وسانت بول ٢٠٠٣؛ هتشينسون وبيرسين ٢٠١٢).

ووفقًا لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (الإنتاجية المتعددة العوامل ٢٠١٢)، فإن نمو الإنتاجية الإجمالية لعوامل الإنتاج (TFP) وتكثيف رأس المال — المحركين الرئيسيين للنمو الاقتصادي — كانا مسئولين عن معظم الانخفاض المتوسط في حصة العمالة داخل الصناعة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بين عامَي ١٩٩٠ و٢٠٠٧. وهذا التحول جزء من عملية نشأت على مدى فترة طويلة من الزمن. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت حصة العمالة من إجمالي الناتج المحلي تتجه نحو الانخفاض منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنها شهدت انخفاضًا حادًّا بوجه خاص منذ الأزمة المالية.18

وبالطبع، ليست التكنولوجيا هي السبب الوحيد وراء هذا. فقد ساهم تأثير الإجراءات التقشفية، وكذلك تأثير التيسير الكمي. وقد ساعدت هذه العملية في خفض مستوى أسعار الفائدة وتعزيز أرباح الشركات (فضلًا عن الاتجاه نحو إعادة شراء الشركات لأسهمها في الولايات المتحدة). وبالمثل، على الرغم من أن العديد من شركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة تستخدم عمالة أرخص خارج الولايات المتحدة، تفعل الشركات المصنعة الأخرى الشيء نفسه، وقد سبقت هذه الاتجاهات الإنترنت والكمبيوتر والهاتف الذكي. واستفاد كذلك أصحاب الدخل المنخفض في كثير من الحالات من القدرة على الاتصال التي توفرها التكنولوجيا، وخاصةً فيما يتعلق بخفض المنصات الإلكترونية لأسعار الكتب والملابس والألعاب والسلع الكهربائية. ومن ثَم ربما تكون التكنولوجيا قد ساهمت في الطفرة في الاستهلاك.

حدث التحول الثاني من خلال مكافأة شركات النمو في هذه الدورة مقارنةً بشركات القيمة. وهذه طريقة أخرى لقول إن الشركات ذات النمو المرتفع (التي يوجد كثير منها في قطاع التكنولوجيا) تفوقت بقدر كبير على الشركات التي تبدو «رخيصة» (بنسب سعر إلى أرباح منخفضة أو توزيعات أرباح مرتفعة).

إن تفوق أسهم النمو مقارنةً بالقيمة ناتج عن عوامل عديدة وليس مجرد انعكاس لنجاح التكنولوجيا. ومن الأسباب التي أدت إلى ذلك الضعف المستمر الذي أصاب البنوك في أعقاب الأزمة المالية ومواجهة الأرباح لتحديات مستمرة نتيجةً لأسعار الفائدة المنخفضة للغاية، والسالبة القيمة في كثير من الحالات. وعلاوةً على ذلك، كان الانخفاض الطويل الأجل في عوائد السندات منذ الأزمة المالية، إلى جانب التضخم، عاملًا مساهمًا مهمًّا.

يُنظَر إلى شركات النمو على أنها «طويلة الأمد» مقارنةً بشركات القيمة. بعبارة أخرى، فإن حساسية صافي القيمة الحالية لشركات النمو (حيث من المتوقع أن تنمو الإيرادات في المستقبل البعيد) للتغيرات في مستوى أسعار الفائدة أعلى من شركات القيمة، التي تميل إلى أن تكون في الصناعات الأكثر نضجًا والأبطأ نموًّا. وهذا يعني أنه في فترة انخفاض أسعار الفائدة، يكون التأثير الإيجابي على صافي القيمة الحالية لشركات التكنولوجيا أعلى مما هو عليه لشركات القيمة، أو تلك التي تتسم بحساسية خاصةً للتطورات الاقتصادية القصيرة الأجل. وقد ناقشتُ في الفصل الخامس محركات الأنماط في السوق، والطرق التي تغيرت بها هذه المحركات منذ الأزمة المالية في الفصل التاسع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥