منطقة الإيمان
حينما كنتُ وكيلًا للنائب العام كنت أرى عجبًا في قاعات المحاكم وجلسات التحقيق، وكنت أفكر كثيرًا في أمر ذلك الشرير الذي طالعتُ صحيفة حياته؛ فإذا آثام ودماء تسيل منها، ومع ذلك يقف أمامي متطلعًا إلى السماء، ويأبى أن يُقسِم بالمصحف كذبًا!
هذا الآدمي قد انطلقت غرائزه الدنيا لا يقوم لها شيء، لكن — برغم هذا — في نفسه منطقة عذراء، لم يتطرق إليها فساد … إنها منطقة العقيدة! … أهناك إذَن حدٌّ فاصل بين العقيدة والغريزة؟
كذلك كان يدهشني أمر صديق من خيرة القضاة، كثير الورع، حريص على العبادة والصلاة، ومع ذلك كان عقله حرًّا من كل قيد.
ما يدور بيننا حديث في الخالق والخليقة حتى يذهب هو في التدليل والمنطق كل مذهب، إلى أن يقع في الإلحاد وإنكار الجنة والنار! … ويؤذِّن المؤذن بالصلاة؛ فإذا القاضي يسرع مُخلصًا إلى ذلك الدين الذي قال فيه منذ لحظة قولًا عظيمًا! … أهناك إذَن حدٌّ فاصل بين العقيدة والعقل؟
إذا قلنا مع القائلين: إن العقل والقلب والغريزة ملَكاتٌ ثلاث منفصلة إحداها عن الأخرى؛ فإن هذا القول يؤدي حتمًا إلى نتائج غريبة قد تُعدِّل من نظرتنا إلى الأشياء. ولعل أول ما يُفهم من هذا الاستقلال بين الملَكات، تباين ألوان الحقيقة لدى كلٍّ منها؛ فما يُصدَّق عند القلب قد لا يُصدَّق عند العقل، بل إن كل ملَكة من تلك الملَكات تسيطر على عالم مختلف جِد الاختلاف عن عالم الأخرى! … يقابل ذلك في المحسوسات تلك الحدود والحواجز بين الحواس؛ فعالم البصر منفصل عن عالم السمع، والحقيقة البصرية غير الحقيقة السمعية، ما يعتَبر موجودًا في منطقة العين لا يعتَبر موجودًا في منطقة الأذن … فهذا الحجر الساكن حقيقة تراها العين المُبصرة، ولكن الأُذن لا تدرِك ولن تدرِك هذه الحقيقة، ولن تعرف مطلقًا ما هو الحجر وما شكله؛ لأن عالمها — وهو عالم الأصوات — لا يخطر له بالٍ أن في الوجود عالمًا، يُسمى عالم المرئيات!
فالعقل لا يدري إلا ما يلائم وظيفته وما يخضع لمقاييسه.
والحقيقة العقلية ليست الحقيقة المطلقة وليست الحقيقة كلها، ولكنها الحقيقة التي يستطيع العقل أن يراها من زاويته؛ فإذا كانت العقيدة مرجعها القلب؛ فإن العقل لن يرى منها إلَّا الشطر الذي يستطيع أن يراه، ويظل محجوبًا عنه الشطر الواقع في دائرة القلب!
فوجود الخالق الجبار المنتقم الرحمن اللطيف، لا شك فيه عند القلب، أما العقل فإن استطاع بالمنطق أن يتصور وجود الخالق؛ فإنه قد يرتاب في صحة تلك الصفات المنسوبة إليه، وقد يراها — في منطقه — صفاتٍ آدمية، أسبغها البشر على خالقهم، إجلالًا له؛ لأنهم وهُم بشر لا يملكون غير تلك الصفات التي هي في عُرفهم مرادف الإكبار والتقدير.
أما حقيقة الخالق فأمر بعيد عن مقدرة العقل، وهل يستطيع الجزء أن يرى الكل؟ … هل تستطيع الكبد في جسم الإنسان مثلًا أن تُحيط إدراكًا بحقيقة شكل الإنسان الخارجي، وهي جزء منه داخل فيه؟ … إن كل ما تدركه الكبد هو وجود تلك المواد التي تمرُّ بها كل يوم، فتحوِّلها إلى إفرازات دون أن تدري من أين جاءت، ولا أين تذهب. العقل أيضًا يرى الأحياء كل يوم تدور دورتها دون أن يدري من أين جاءت، ولا إلى أين تذهب … فالحقيقة العقلية أو العلمية لا يتجاوز علمها الكائنات التي تمُرُّ بالحواس، ومن يحمِّل العقل أكثر من قدرته فهو إنما يريد منه المستحيل، كمن يطلب إلى الكبد مَضغ الطعام، فالحقيقة العقلية أو العلمية شيء، والحقيقة الإحساسية أو الدينية شيء آخر!
وإن رجال الدين يقعون دائمًا في الخطأ؛ إذ يبسمون بسمة الظفر كلما قال رجال العلم قولًا يتفق مع الدين، ويقطِّبون تقطيب الغضب كلما نقض رجال العلم أُسس الدين … وما أحراهم في كلتا الحالين أن يبسموا غير مكترثين بسمة الصفاء واليقين! … ولم يعتقدوا تمام الاعتقاد أن العلم في كلتا الحالين كاذب عندهم وإن صدق، وأن لا شأن للعلم بهم، وأن الحقيقة الدينية بعيدة عن وسائل العلم ودائرة بحثه، وأن العقل يستطيع أن يهدم الدين كما يشاء، دون أن يسمع القلب طَرقة واحدة من طرقات مِعوله، وأن أولئك الملحدين الذين سخَّروا عقولهم الكبيرة لتفنيد الدين وهدم أصوله والشك والتشكيك في جوهره ووجوده؛ لم يستطيعوا لحظة واحدة أن يُسكتوا صرخات القلب الحارة الصاعدة إلى ذلك الموجود الأسمى الذي بيده نفوسهم!
إن عقولهم كانت تُرغي وتُزبد بالكلام المعقول والمنقول، وقلوبهم في معزِل عن كل هذا الصخب، لا تشعر ولا تدري شيئًا عن المعركة الحامية القائمة في تلك الرءوس … فالتوفيق بين العلم والدين ضرب من العبث … على أن اجتهاد المجتهدين في هذه السبيل لم يَتعدَّ ذلك الجانب من الدين الخاضع بطبيعته لحكم العقل، وهو الجانب الاجتماعي المبني على الأخلاق، وما يتفرع عنه من فكرة الفضيلة والرذيلة!
وهنا يتساءل الناس دائمًا: ما الدين؟ … أهو شيء مفيد للبشر في أمر حياتهم ومعاشهم، أم هو طريق لحل اللغز الأكبر وسبيل للنفوذ إلى المجهول الأعظم؟
الواقع أن كل دين من الأديان المعروفة يتكوَّن من هذَين الوجهَين؛ فالدين — باعتباره قانونًا اجتماعيًّا يُنظم الغرائز، ويحفظ التوازن بين الخير والشر — أمر متعلق بذات الإنسان … متصل إذن بعقله وعلمه … على أن عنصر «الأخلاق» في الأديان ليس كل جوهرها؛ فإن بعض البلاد قد استطاعت أن تجد في «الأخلاق» غنًى لها عن «الأديان»: إنما قوة الدين وحقيقته في العقيدة والإيمان ﺑ «الذات الأزلية»!
هنا لا سبيل إلى الدنو من تلك «الذات» إلا عن طريق يقصر عنه العلم الإنساني، بل يقصر عنه كل علم؛ لأن العلم معناه الإحاطة، والذات الأبدية لا يمكن أن يحيط بها محيط؛ لأنها غير متناهية الوجود، فالاتصال بها عن طريق العلم المحدود مستحيل!
ها هنا يبدو عمل الدين ضرورة للبشر.
إني ما كتبتُ هذه الكلمة اليوم إلا لألفت نظر رجال الدين إلى وجوب التسامح والهدوء، كلما قام باحث يتكلم في الدين عن طريق العقل، فإن الشرق اليوم مُقبل على حياة علمية واسعة، مهادها المعاهد والجامعات، ولا بد لنماء مَلَكة العقل من التفكير الحر الطليق، كما أنه لا بد لحياة مَلَكة القلب من الشعور الحار العميق، فليترك رجال الدين المفكرين يفكرون كما يشاءون، ويثرثرون كما يريدون، ويعرضون بضاعتهم الكلامية التي هي كل بهرجهم الآدمي الأجوف؛ فإن كل هذا الضجيج لن يصل خبره إلى القلب، الذي لا يفتر لحظة عن التسبيح — رغمًا عنهم — بالعقيدة التي ركبت عليها حياته النابضة!