الثقافة الشرقية
إذا كنتُ قد أطلتُ الكلام في رُوح «مصر» وتراث «مصر» فما ذلك عن رغبة في حبس تفكيرنا في حدود قومية ضيقة، إنما أنا أرمي إلى غاية أبعد وأَرحَب … إني أريد دعم الثقافة الشرقية كلها، والعمل على إنهاضها؛ لتقف إلى جانب الحضارة الغربية قوية غنية. وهذا الغنى لن يأتي إلا إذا عكف كل بلدٍ من بلاد الشرق في أول الأمر على نفسه، ليستخرجَ من بطن الأرض التي يحيا عليها كل كنوز ماضيها، حتى إذا اجتمع لدى تلك البلاد قدرٌ عظيمٌ من تلك اللآلئ القديمة مجلوَّة منزوعًا عنها التراب، صُبَّ ذلك الثراء كله في مَعين واحد مشترك، وقُدِّم إلى الإنسانية باسم: «الثقافة الشرقية»!
على أن الذي يدعو إلى الأسف والألم أن بعض المفكرين الشرقيين أنفسِهم يشكُّون ويُشككون في حقيقة وجود «الثقافة الشرقية». أولئك هم الذين قد بهرتهم انتصارات «الثقافة الغربية» المسيطرة الآن على العالم؛ فأعمَتهم أشعتُها الساطعة، وأقعدَتهم وأسجدَتهم يُسبِّحون بمَجدها، ويفركون أعينهم التي لا ترى شيئًا غير هذا النور الكثير!
ذلك هو العمى، والعُقم، والكسل. كذلك لا أُقرُّ تلك الفئة الأخرى من الشرقيين، الذين يظنون أن التحمس للثقافة الشرقية معناه الجلوس متأثرين في أطمار حضارات بالية يُصعِّرون خدودهم ويصيحون بألفاظ نَعرة مضحكة وفخر كاذب! … وذلك أيضًا هو العمى، والعقم، والكسل! … إنما إنهاض الثقافة الشرقية لا يكون إلا بنهوض الشرقيين إلى العمل؛ فيبدءون أولًا بالجري واللحاق بما وصلت إليه الثقافة الغربية … تلك الثقافة التي أضافت اليوم كثيرًا على ما استطاعت أخذه من الحضارات الأولى!
فثقافة الغرب — خصوصًا في العصر الحديث — لا تهمل شيئًا أنتجه العقل البشري في أي عصرٍ من العصور، وفي أي بقعةٍ من البقاع؛ فالأوروبيون قد أفادوا من الفلسفة الهندية والصينية «شوبنهور» و«نيتشه»، وحتى من الثقافة العربية والشِّعر العربي «جوته» و«هايني». وكلهم طبعوه بطابع فنِّهم وتفكيرهم، ذلك أن حُبَّ المعرفة والاستطلاع لا يمكن أن يسمح لرجال الفكر الحقيقيين بالاقتناع بلون واحد أو الوقوف عند حدٍّ معلوم؛ فالأوروبيون دائمًا يأخذون ما عند غيرهم من ثروة فكرية ليصُبُّوه في قالبهم!
فأوروبا إذَن على ثروتها وغناها الثقافي اليوم لم يخطر ببالها قطُّ أن تتقاعد عن قطف ثمار أية شجرةٍ أخرى! … إن الفكر البشري ليس له حدودٌ «دوليةٌ» إنما هنالك المزاج الخاص، والطبيعة الخاصة التي تُكيف تلك الثروة المباحة التي تنهل منها كل ثقافة وكل حضارة!
إن الحضارة الأوروبية في الحقيقة لم تَخلق بيديها خلقًا كل هذه القوالب المعروفة في آدابها وفنونها، ولا كل هذه النظريات الشائعة في فلسفتها وعلمها؛ فإن كثيرًا من هذه القوالب والنظريات مأخوذٌ عن الشرق في حالته الأوليَّة، ولكن الأوروبيين زادوا عليه، وأضافوا إليه، وأخرجوه ممهورًا بإمضائهم، ومطليًّا بشخصيتهم! … وهذا في الواقع عملُ كلِّ حضارةٍ من الحضارات! … ولا نستثني من ذلك الحضارةَ الإسلامية نفسَها في عصورها الزاهرة، فما هي إلا جماع أفكار وثقافات وحضاراتِ أُمم مختلفة، صَبَّها الإسلام في قالبه، وجعل منها لونًا خاصًّا.
فالثقافة الشرقية إذَن، لا يمكن أن تكون اليوم بمعزلٍ عن ثقافة أوروبا ولا أن تغمض عينها عن هذه الثروة الهائلة؛ فلنمد أيدينا إذَن غير مقيدين بسلاسل التقاليد أو العادات أو العقائد، نأخذ كل شيء، ونهضم كل شيء، ثم نُعرِّج على روحنا القديم، كلٌّ في بلده، فنستخلص الأفكار الثابتة المدفونة؛ إذ لا ريبَ أن كل بلدٍ من بلاد الشرق فيه مناجم الفكر مفعمة متألقة لم تُستخرج بعد؛ فالغرب على نشاطه الفكري ونهمه الذهني لا يستطيع أن يستخرج كل كنوز الشرق مثل الشرقي؛ إذ لا بدَّ أن تكون معاوله قد ارتطمت بحواجزَ منيعةٍ من أسرار طبيعة لا تكشفها غير طبيعة الشرقي وغرائزه، وتجارب حكمته المتراكمة في أعمال نفسه، على مدى آلاف السنين!
فإذا تم لنا ذلك، فإننا نستطيع أن نطبع كل تلك الثروة وكل تلك المادة بطابعنا الخاص، وعلى نحوِ ما حدث عندما اختلفت طبائع الدول الشمالية في أوروبا عن طبائع الدول الجنوبية؛ فتفرعت عن الثقافة الواحدة ثقافتان، هما الثقافة اللاتينية، والثقافة الأنجلوسكسونية، ثقافتان لا تختلفان من حيث مقدار الثروة الذهنية، وإنما تختلفان في الطابع والمِزاج والرُّوح؛ فإذا كان في مقدورنا نحن أن نضيف إلى هاتين الثقافتَين العظيمتَين ثقافة ثالثة، لا تختلف عنهما في مبلغ ثروتها ومادتها، وإنما تخالفهما فقط في الطابع والطبيعة والروح، ثقافة ثالثة حية نامية جميلة، عليها خاتَم شخصيتنا الشرقية، يراها الغرب، فكأنه يرى شيئًا جديدًا، مستقلًّا، قد أخرج لهم من صدر عبقرية جديدة؛ فإننا نكون قد أدَّينا رسالتنا بعملنا ومواهبنا في بنائه العظيم، وأن نظفر أخيرًا باحترام هاتين الثقافتَين الحيتَين القائمتَين، ذلك الاحترام الذي تنظر به إحداهما إلى الأخرى، ويسترد «الشرق» عندئذٍ اعتباره في نظرِ «الغرب»!