إحياء الثَّقافة العربية القديمة
سألتني مجلة عربية عن هذه المسألة، فقلت:
تسألونني كيف نعمل على إحياء ثقافتنا العربية القديمة؟ … هل ماتت هذه الثقافة حتى نطلب إحياءها؟ … إن الثقافات والحضارات لا تموت، ولكنها تُهضم في ثقافاتٍ أخرى وحضاراتٍ أخرى! … فالثقافة العربية القديمة قد امتصَّتها واحتوتها الحضارة الأوروبية القائمة ضمن الذي امتصت وهضمت؛ فمادة الثقافة لا تنعدم، ولكنها تتحول إلى ثقافة جديدة، وتدخل في تركيب حضارة جديدة؛ فالقول بإحياء الثقافة العربية القديمة أو الثقافة الإغريقية القديمة، قولٌ لا أستطيع أن أفهم له معنًى.
فالحضارات إنما تقوم على الحضارات، وهيكل الحضارة القائمة إنما ينهض على طبقات متعددة من حضارات سابقة؛ فلو فرضنا المستحيل، وأردنا أن ننزل طبقات ونرجع إلى ثقافة قديمة بعينها وحالتها وكميتها الغابرة؛ فماذا نجد فيها غير شيء أوَّلي إلى جانب ثقافة العصر الحاضر؟
أما إذا كان المقصود من كلمة الإحياء، لا إحياء الثقافة القديمة بعينها وحالتها وكميتها، إنما المقصود إحياء المجد الغابر والمكانة والازدهار الذي لفت الأنظار إلى الثقافة العربية القديمة في عصرها، فهذا شيء آخر، وهذا أمر ممكن لو عملنا واجتهدنا في سبيل إحداث نهضة ثقافية، ويشعر بهزتها العالم المتحضر!
ووسائلنا في هذا، هضمُ كل ثقافة موجودة قديمة أو حديثة وإخراج ثقافة جديدة تنمُّ عن روحنا وشخصيتنا الشرقية، تستطيع أن تقف جنبًا إلى جنب مع الثقافتين العظيمتين الحاضرتين: اللاتينية والأنجلوساكسونية.
أما الوسيلة الفعَّالة لتوليد ثقافتنا الشرقية الجديدة؛ فإن الطريق إليها هو الطريق الذي اتَّبعته كل حضارةٍ من الحضارات المعروفة، أعني به: «القيام بحركة ترجمةٍ واسعة النطاق»، ولا يُغني التلخيص عن الترجمة؛ فنحن بإزاء نهضة فكرية يجب أن تُشيَّد على دعائمَ قوية!
وكما أن عصر النهضة الذي تلا القرون الوسطى في أوروبا قام على حركة ترجمة المؤلفات الإغريقية، وكما أن نهضة الثقافة العربية القديمة في عصورها الزاهرة قامت على حركة ترجمة المؤلفات الشرقية الحديثة، الهندية والفارسية والإغريقية، كذلك نهضة الثقافة العربية الشرقية الحديثة يجب أن تقوم على ترجمة أمهات المؤلفات الأوروبية المعتمدة في الفروع المختلفة، وهذه المؤلفات من السهل معرفتها، فما من أمة متحضرة، وما من لغة حية إلا اتَّحدت في كتب خالدة معينة بالذات، لا بدَّ أن تعرف في لغتها وفي كل لغة حية؛ ففي فرع الأدب مثلًا لا نجد اليوم لغة حية ولا أُمة متحضرة، لم تنقُل إلى لغتها كل أعمال «هوميروس» و«سوفوكل» و«شيكسبير» و«موليير» و«جوته» … إلخ. وفي الفلسفة والعلوم والفنون أسماء كهذه يضيق بي المقام عن تعدادها هنا، وهي على كل حالٍ معروفة لكل مثقف، ولكن المهم هو إجماع الرأي في الشرق العربي الحديث على القيام بحركة ترجمة عظيمة واسعة … ولنُنفق في هذا السبيل الأموال؛ فإن ربحنا فسيكون عظيمًا، وسنشتري بهذا حياة لغتنا العربية، وسنضع بهذا كل أساس نهضتنا الفكرية التي قد يسجلها التاريخ كنهضةٍ للفكر الشرقي، لا تقلُّ في أهميتها عن نهضة الفكر الغربي التي ختمت القرون الوسطى.