أثر أوروبا في أدبنا الحديث
سألتني كذلك مجلةٌ شرقيةٌ أدبيةٌ عن مدى تأثير الأدب الأوروبي في أدبنا العربي الحديث، فقلتُ:
إن الحضارة لا تبلغ أوجَها، حتى تبسط جناحيها على العالم المحيط بها، فتؤثر في مجرى الأفكار في كل شعبٍ وقارة، وتغير من طابع الأساليب المختلفة، وتطبعها بروحها الخاص الذي جاءت به، كذلك كانت الحضارة الفرعونية والإغريقية والرومانية والمسيحية والإسلامية … إلخ.
واليوم الحضارة القائمة هي الحضارة الأوروبية، ولعل الحضارة الأوروبية أشدُّ الحضارات نفوذًا في الشعوب على اختلاف ألوانها. وهل هذا يرجع إلى تسخيرها العلم والطبيعة في تيسير سُبل المواصلات مما لم يَعهَده العالم من قبل، فالسفن البخارية والقطارات السريعة والطيارات والراديو والسينما، كلها وسائل عجيبة فعالة في سرعة إذاعة الأفكار الأوروبية ونشرها … إن الكرة الأرضية اليوم ليست إلا برتقالة في مِخلب هذا النسر الأوروبي، ولا مناصَ لأمةٍ من الأمم، أن تجهل أو تتجاهل هذه الحضارة، رضيَت أو كرهَت!
لذلك كان من الطبيعي للشرق — ولا سيما أمم البحر الأبيض — أن يتأثر — إلى حدٍّ كبير — بالحضارة التي تهيمن اليوم، لا على البحر الأبيض وحده، بل على كل بحار الأرض!
فالقول بأن الأدب العربي الحديث تأثَّر بالفكر الأوروبي هو البديهية بعينها، وينبغي لهذا الأدب أن يتأثر بالحضارة الموجودة الحية، إذا أراد أن يحيا، وأن ينتشر، وأن يفهم ويعترف به في الأرض عامة، وفي بلاد هذه الحضارات المختلفة، وجرى في شرايينه الدم الفارسي والهندي والرومي!
والقول بأن الأدب العربي الحديث كان أشدَّ تأثرًا بأوروبا بعد الحرب؛ هو أيضًا قولٌ يطابق طبيعة الأشياء؛ فالاتصال الوثيق بين الشعوب، واحتكاك الأفكار والمبادئ، وتقدم المواصلات، كل هذا حدث بعد الحرب، وبتأثير الحرب على نحوٍ فجائيٍّ قويٍّ يشبه الطفرة!
ولقد أدرك الأدب العربي من احتكاكه بأوروبا أن وسائل التعبير في الأدب قد تطورت، وأن الكُتَّاب على اختلاف جنسياتهم قد تواصلوا على أن يُلبسوا أفكارهم ثيابًا متشابهة في أغلب الممالك المتحضرة، كما ألبسوا أبدانهم ثيابًا متشابهة، هي القبعة والسترة، سواء في ذلك الإنجليزي والفرنسي والروسي والإيطالي … إلخ. فكان من الطبيعي أيضًا للأدب العربي الحديث أن يتأثر بهذا اللباس الأدبي الشائع، كما تأثر الزي الشرقي إلى حدٍّ كبيرٍ بالزي الغربي.
على أن الزي أو اللباس شيء، والروح أو الشخصية التي في جوف هذا الزي واللباس شيءٌ آخر! … ومهما يكن اتحاد الإنجليزي والإيطالي والإسباني والروسي في شكل الزي؛ فإن الدم الذي يجري في شرايين كلٍّ منهم مختلفٌ كلَّ الاختلاف!
لذلك أحبُّ أن أقول لأدباء العربية الحديثة: لا تخشوا مطلقًا من إلباس أفكاركم الأثواب الأوروبية، على شرط أن يكون طابع هذه الأفكار وروحها شرقيًّا محضًا، وأن يُحس القارئ الأوروبي إزاء أعمالكم أنه أمام نفسٍ غير نفسه، وشخصيةٍ غير شخصيته، وإن كان الرداء ليس غريبًا عليه، لأن الرداء ليس مِلكًا لأحد؛ إنه ملك الحضارة، والحضارة وليدة الحضارات التي سبقتها!