الأدب العربي في الماضي والحاضر
اعتاد الباحثون في الأدب العربي أن ينظروا دائمًا إلى الماضي، وأن يقصروا عليه كلَّ جهودِهم، وأن يخصُّوه بكل التفاتهم، زاعمين أنه لا أسلوب في العربية إطلاقًا إلا أسلوب «الجاحظ» ولا نثر عذبًا إلا عند «ابن المقفع»، حتى أدَّى هذا الزعم إلى حبس النشاط الذهني على آثار الماضي وإلى الاعتقاد بأن مجد الأدب العربي الذي لن يعود إنما كان في الماضي!
أثَّرت هذه العقائد في تفكير الشرق العربي، وكانت هي علَّة الجمود العقلي الذي أُصيب به الشرق على مدى أحقاب، حتى شَعَر الناس كأن باب الاجتهاد قد أُغلق، فما عادوا يسمحون لمداركهم أن تتذوق غير الأدب القديم، وإن لم يفهموا مراميه، ويشعروا بملابسات حياته، وما عادوا يسمحون لأدباء جيلهم أن يخرجوا عن دائرة تقليد هذا القديم، وإن أحسوا من أنفسهم القدرة على إبداعٍ ما يناسب روح العصر الذي يعيشون هم فيه!
غير أن التحرر الفكري الذي انطلقَت نسماته أخيرًا على ربوع الشرق قد عدَّل كثيرًا من هذه النظرات؛ فنحن اليوم لا نخشى أن نُبدع تحت وحي الحاضر إنتاجًا يختلف عما أُبدع تحت وحي الماضي، ولا يخشى الناسُ أن يتذوقوا ويعجبوا بنِتاج الحاضر، كما يفعلون بنتاج الماضي، ولا نخشى أن نضع الماضي والحاضر في ميزان المقارنة وميدان البحث … نعم … نحن اليوم قد تعلمنا أن نعتبر الأدب العربي شجرة واحدة نامية نستطيع أن ننقل عيوننا بين جذعها وفرعها وأغصانها، وأمسها ويومها وغدها! … بل إننا لا نتحرَّج اليوم من الاعتقاد بأن مستقبل هذا الأدب قد يكون أينعَ وأزهرَ من ماضيه، على أن الجرأة في الحكم ما زالَت تُعوِزنا.
أذكر يومًا جاءني فيه أستاذ من أساتذة الأزهر؛ فتحادثنا قليلًا في الأدب العربي، فقلتُ له: إن أساليبنا اليوم في الكتابة خيرٌ من أساليب كتَّاب العرب الأقدمين من بعض الوجوه! … فنظر إليَّ دهشًا، كأنه لا يصدق أُذنه؛ فأدركت أن قداسة القديم ما زالت تنسج على هذا العقل الجامد خيوط العنكبوت!
ولبثتُ وحدي أفكر في الأمر، وأُسائِل نفسي: ما وجه العجب في هذا التفضيل؟ … إني من المعجبين بفنِّ الكثير من الأقدمين، أمثال: «الجاحظ» و«ابن المقفع». ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أقضي بغير هذا الحكم! … على أن من التعسُّف أن تقوم المقارنة على هذا النحو، فنحن الآن في عصر مختلف كل الاختلاف عن العصور السابقة … حقًّا إن إدراكنا اليوم للفن أوسع ولا ريب من إدراك «الجاحظ» و«ابن المقفع»، كما أن إدراك «أينشتين» للعلم أوسع من إدراك «فيثاغورس»! … هذا لا يمكن أن يقوم فيه جدالٌ … إنما الأمر الذي يصح أن نجادل فيه هو؛ أي الآداب، وأي الكتَّاب استطاع أن يملأ عصره، وأن يُعبِّر عن روح عصره، وأن يؤثر في عصره؟ … إنهم يقارنون أحيانًا بين «فولتير» وبين «برنارد شو»! … في رأيي أن الأخير قد اكتملت لديه من الوسائل الفنية ما لم يتهيأ مثله للأول! … إن «فولتير» لم يبلغ قطُّ في قصصه التمثيلي ما بلغته قصص «برنارد شو»، ولكن أيهما استطاع بكتاباته أن يهزَّ عصره هزًّا، وأن يُحدث في تفكير عصره تيارات قوية، وأن يفرض وجوده على العروش والتيجان، وأن يلقي بذور الانقلابات المقبلة في نفوس الشعوب؟ … ثم سؤالٌ آخر يجوز فيه الجدل؛ أي الأدبين، العربي القديم أو الحديث، استطاع في جملته أن يقف إلى جانب الآداب الأخرى المعاصرة ليؤدي معها رسالته إلى البشرية؟ … إن المقارنة بين أدب الأمس في ذاته وأدب اليوم في ذاته يؤدي غالبًا إلى ترجيح أدب اليوم … إنما المقارنة يجب أن تكون بين أدب الأمس في عصره وأدب اليوم في عصره … وهنا تختلف النتيجة بعض الاختلاف!
لا أحبُّ مع ذلك أن أُصدر أحكامًا سريعة … فإن الحكم يقتضي أسبابًا مطولة … وإن المقام ليضيق دونَ ذلك! … إنما أحبُّ في ختام كلمتي أن ألفت نظر هذا الجيل إلى أن يأخذوا الأدب العربي الحديث على سبيل الجِد، وأن يُكثروا من المقارنة بينهما إذا شاءوا، كما يقارن الإنسان بين الزهرة والزهرة في شجرةٍ واحدة، وبين الثمرة والثمرة في أعوامٍ متعاقبة؛ فإن في ذلك تذكيرًا لهم بأن الأدب العربي كائن حي يتطور ويتغير، ويتلون ويتأثر باختلاف الفصول والعصور!