من النيل إلى السين (١)
قرأتُ رسالتك إليَّ على وجه «الأهرام» ذلك الوسيط الصادق بيني وبينك، والرسول الأمين بيننا وبين الناس، نحمِّله ما شئنا وما شاءت أفئدتنا من آمالٍ وأحلام، بل هو ذلك الحَمام الزاجل لهذا العصر، نطلقه بين ضفتَي نهرَين، ونافذتَي قارتَين!
إني أكتب إليك الآن هذا الرد وأنا أُطِل على النيل، وقد اتخذ لون الفضة في هذا الشتاء، وأتخيلك الآن واقفًا تنظر إلى السين في لونه الفيروزي الصافي، ماشيًا الهوينى تتصفح بين آنٍ وآنٍ الكتب القديمة المعروضة فوق حاجز النهر، كما كان يفعل صديقك «أناتول فرانس».
نعم، إنك تثير في نفسي ذكريات … رسالتك قد أعادتني إلى ذلك الماضي يوم كنت أقطع كل صباحٍ ذلك الطريق بين «كاتدرائية نوتردام» حتى جسر «دورسيه» في الضفة الشرقية، لا أترك كتابًا حتى أتصفحه، كان نصف تحصيل العلم في أول أمري من تصفح الكتب خلسة بغير مقابل، ألتقط من كل كتابٍ فكرة أو فكرتَين، كالعصفور يلتقط من كل سُنبلةٍ حبة أو حبتَين، وأتحاشى أن تراني عين البائع المسكين، وهو أيضًا فنانٌ في أغلب الأحيان، يُهمُّه اقتناء النادر من المجلدات ويَزهو بعرضها أكثر مما يهمه أمر بيعها. ولقد أضحكَتني ذات مرةٍ عبارةٌ في كتابٍ مشهورٍ كنت أتصفحه، فباغتَتني نظرة البائع فخجِلتُ أن أطرح الكتاب بعد ذلك، فاضطررت إلى شرائه بالمال الذي ادخرتُه لغذائي.
نعم، لقد كنا هناك نجمع أعقاب العلم من كل مكان، كما يجمع الغلمان في مصر أعقاب «السجاير» … إلى أن اتسعت أذهاننا بالمِران، فصرنا نلتهم الأسفار التهامًا.
إن «باريس» عندنا لم تكن قط امرأة، إنما كانت كتابًا مفتوحًا هو «سِفر الحياة العليا».
أما هنا … فالنيل جميل حقًّا، لست أنكر ذلك، وإني لأرى الآن طرف «الجزيرة» الممتد في الماء، كأنه مُقدَّم سفينة، وأبصر فيها النخيل والأشجار خضراء داكنة، كأنها ليلٌ شِعريٌّ يَخفى تحت سترة المحبين، ولكني لا أرى على ضفتَي هذا النهر الرحيب العظيم غير قصورٍ صغيرةٍ متناثرةٍ بيضاءَ وصفراءَ وخضراء، كأنها بعض طيور الماء … جمالٌ طبيعيٌّ لا ريب فيه، ولكنك لا ترى فيه بعدُ يدَ الحضارة النشطة، فلا حواجزَ ممتدة، ولا تماثيلَ منصوبة، ولا كُتبَ معروضة.
أعترف لك أني لا أقرأ في مصر كثيرًا، وهل في مصر بعدُ شيءٌ يدفع إلى القراءة؟ … إن مصر ليست كتابًا مفتوحًا، إنما هي هيكلٌ قديمٌ مغلقٌ يحوي كنوزًا، قد ضاع مفتاحه، فعلينا قبل كل شيءٍ أن نفتح بابه ونستخرج ما فيه. ليس من الخير أن نظل طول الزمن نتغنى بمفاخر هذا الهيكل ونحن نائمون على أعتابه، ولكن المصلحة كلها في أن نُذكِّر أنفسنا دائمًا، بما فينا من كسلٍ ونقصٍ وخمول، وأن نهبَّ على أقدامنا للعمل.
وعلى ذِكر العمل أريد أن أسألك سؤالًا:
أما زال المقيم في «باريس» يُحس هذا الجو المعنوي المشبع بالنشاط الذي يغري بالعمل المتواصل دون كلال؟ لعل أهل مصر لا يعرفون هذا الجو، وإنك لتستطيع أن تخدم بلادك لو وصفته لنا فيما تصف، هذا الجو الذي ينتشر في كل مكان، في القهوة حيث ترى الجالسين يكتبون ويقرءون أو يتحدثون حديثًا خافتًا سريعًا كله عزم، ثم يتناولون قهوتهم السوداء في جرعةٍ أو جرعتَين، ويخرجون قافزين إلى «الأتوبيس» أو هابطين إلى «المترو» السفلي لينصرفوا إلى العمل، فلا جلوس مستديمًا في غير طائل، كما نفعل في مقاهينا نُحملق بأبصارنا في الرائحين والغادين، ولا قهقهة نصخب بها ونحن ننفخ دخان الشيشة، ولا مناقشات مدوية في العلاوة والترقية، ولا صيحات للعربدة، ولا ضوضاء بسبب النرد.
نعم … أوليست تلك كل حياة الملايين المصريين في أوقات فراغهم، بعد عملٍ قليلٍ لكسب اللقمة؟ فهي بالقياس إلى ما تراه الآن حولك في «باريس» لا يمكن أن تسمى حياة! … فالحياة هي العمل واللهو، ونحن لا نعرف حتى كيف نلهو، لأننا لا نعرف كيف نعمل. ولعل مصيبة العاملين في مصر — وهم ندرةٌ — أنهم لا يعرفون أين ولا كيف يلهون، بعد نهارٍ شاقٍّ ممتلئٍ بالإنتاج، فلا أوبريت فنية مصرية، ولا مسارح تلقى فيها شموس الهيئة الاجتماعية، ولا «صالونات» لنساءٍ عظيماتٍ تتقابل فيها أساطين البلاد، ولا أندية ليلية راقية يعرض فيها ظرفاء الأدب والشِّعر والفن كلماتهم اللامعة، ونكاتهم البارعة، وأخبارهم ونوادرهم وأغانيهم … لا شيء في ليالينا المصرية يمكن أن ينمَّ عن الروح المصري والذوق المصري، بينما كل شيءٍ في الليالي الباريسية يدل على الروح الباريسي والذوق الباريسي.
إن الحياة بمعناها الرحب العظيم لم تدبَّ بعدُ في «وادي النيل» إنما تلك الحياة الصغرى التي لا تخرج عن شئون الأكل والشرب والمتعة الوضيعة هي وحدها المعروفة الآن.
وبعد، فإني أرجو لك إقامة طيبة في محيط تلك الحياة الحقيقية التي أنت فيها الساعة، وأرجو منك أن تحرص على كل دقيقةٍ من دقائقها، وأن تروي ظمأك بحُسنها العلوي، وتُشبع نفسك بجمالها الروحي.
وهنيئًا لك.
في عام ١٩٣٧م