من النيل إلى السين (٢)
جاء في آخر رسالتك الماضية ذِكرٌ للأكل والشرب، وقلتَ بحقٍّ إننا حتى في هذا أيضًا لم نبلغ شأن الأمم المتمدينة … صدقتَ والله، صدقت! إن كل شيء في الحضارة موضوع تفنن وابتكار … إن الرجل المتحضر هو الذي يعرف كيف يعمل، وكيف يأكل، وكيف يلهو! وما من أدب من الآداب العريقة إلا وفيه فصلٌ عن الطعام؛ فإذا فتحت «العقد الفريد لابن عبد ربه» أو «مقامات بديع الزمان» وجدت أوصافًا تُسيل اللعاب في ألوان «السكباجة» و«الطهباجة»، وإذا راجعت كتاب «بول ربيو» الأديب الفرنسي عن فنِّ الأكل لوجدت فيه هذه العبارة الظريفة: «إن استكشاف لون جديد من ألوان الطعام لأنفع للإنسانية من استكشاف نجم جديد من نجوم السماء!» وإنك لتعلم فيما تعلم عني أني أحب الجيد من الطعام، وأني كثير التبديل والتغيير للطهاة، فبحقي عندك إلا أكلتَ لي وباسمي ثلاثة أزواج من «المحار البرتغالي الأخضر» وطَبقًا من «الكاسوليه» التولوزيه التي أحبها … ولا أوصيك بحساء البصل فأنت أدرى مني أين تجده وتطلبه … وبعد! … أمَا وقد فرغنا من أمر بطوننا فلنتجه إلى شئون عقولنا … لقد راقني وصفك للإضراب العام في «باريس»، وقولك إن تعطيل طرق المواصلات من «ترام» و«مترو» و«أتوبيس» في بلدٍ كباريسَ لم يعطِّل لحظة نشاط الباريسيين! … هذا صحيح! … إن ضرب باريس نفسها بمدافع الألمان أيام الحرب لم يؤثر لحظة في حياتها العقلية والذهنية والاجتماعية؛ فقد كان رجال العلم في معاملهم وقاعات بحثهم هم هم؛ ينظرون إلى عالمهم اللانهائي من خلال «الميكروسكوب» و«التلسكوب»، ورجال الأدب هم هم؛ يستقبلون تحت قباب المجامع الأدبية زملاءهم بذلك النثر الذي سيبقى على التاريخ، ورجال الفن هم هم؛ يعرضون نتائج ابتكارهم، واتجاهات مذاهبهم في المعارض والصالونات … والمسارح هي هي؛ تعجُّ بالمشاهدين والناقدين … وأندية الليل هي هي؛ بظُرفها وشِعرها وخِفة رُوحها!
أما في مصر، فكل هذا غير معروف؛ فإنه ليَكفي أن تنشر جريدة في صفحتها الأولى أو التاسعة خبرًا سياسيًّا هامًّا، حتى تجدَ مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها لا تتكلم إلا في هذا الخبر، ولا تقلق إلا بترديد هذا الخبر، السبب في ذلك بسيط، أن حياتنا فوضى، أو هي حياة أولية «سديمية» لم تتكون فيها عوامل منظمة متألقة يعيش فيها الناس … فإنك لا تستطيع مثلًا أن تقول في مصر «عالم الأدب» و«عالم العلم» و«عالم الرياضة» و«عالم السياسة» … إلخ إلخ، بالمعنى المفهوم لهذه العوالم في أوروبا؛ فإن كل طائفة من هذه الطوائف عندنا لم تستطع حتى الآن أن تُنظم نفسها تنظيمًا يؤهلها لحصر جهودها المنتجة في منطقة معينة بالذات! … وقد نشأ عن ذلك أن الطائفة التي في يدها القوة واللقمة، وهم رجال السياسة، قد برز عالمهم كالشمس فطغى على الآخرين، ومحا من الوجود تلك العوالم الأخرى النافعة التي كان ينبغي ألا تقلَّ عنها إشراقًا، فنحن إذَن لا نعيش كما تعيش الأمم الكبرى، ومجتمعنا على وضعه الحاضر مجتمع ابتدائي؛ فإلى أن يهتم الناس بأشياءَ أخرى غير السياسة وأرقى من السياسة — وكل شيءٍ في الوجود هو في الحقيقة أرقى من السياسة — إلى أن يُعنى الناس بشئون الفكر ولذَّات الفكر، وينفقوا في الكتب والمتاحف والمعارض وقاعات المحاضرات بعض اللحظات … إلى أن يكون لرجل العلم ورجل الأدب ورجل الفن في مجتمعنا عين الاحترام والاهتمام الذي يقابل به رجل السياسة … إلى أن تكون للمظاهرات الأدبية والعلمية عين الهزة والضجة التي تكون للمظاهرات السياسية … إلى أن نترك هؤلاء البضعة القليلة من السياسيين المحترفين يصيحون ويصخبون في نواديهم، وننصرف نحن المفكرين إلى نوادينا ومجامعنا الفكرية، ونحن الرياضيين إلى نوادينا الرياضية، ونحن الماليين والاقتصاديين إلى نوادينا المالية والتجارية … إلى أن تتعدد نواحي النشاط في البلد، ويذهب هذا النوم والخمول الذي شمل كل جانبٍ إلى ذلك الجانب العقيم: السياسة … إلى أن يحدث كل هذا فلا أمل في المجتمع المصري؛ فلندعُ الله أن يتدارك هذه الأمة برحمته، فهو مُغير الأحوال، والسلام!
عام ١٩٣٧م