من مشكلات الفكر
أثارت صحيفة إنجليزية مشكلة ليست يسيرة الحل … وهي فيما يبدو من الظواهر الشائعة اليوم في كثير من الأمم … تلك هي مشكلة الأدباء والمؤلفين وموارد رزقهم؛ فلقد كادت تنقرض الآن أسطورة المؤلف الثري … ذلك أن أزمة الورق في إنجلترا، ومشكلات النقد، وقيود الاستيراد الدولية، أنقصت إلى حدٍّ كبير عددَ المطبوع من الكتب؛ فلم يَعُد ربحه يكفي لإطعام المؤلف … وليس كل مؤلفٍ يستطيع فوق ذلك أن يضمن لكتابه النشر، حتى وإن كان من المجيدين أو المعروفين؛ فإن للناشرين حصة محدودة من الورق، وعلى كل منهم أن يَعُد قائمة بمؤلفيه، ويُعيِّن لكل نوبته في أسبقية الطبع … أمام كل هذه العقبات: ماذا يصنع المؤلف لينتج ويعيش؟ … استطلعت الصحيفة آراء طائفة من الأدباء … فأجمعوا رأيهم على أن تأليف الكتب لم يعُد يضمن رزقًا لمؤلف، وأن على الأديب أن يتخذ له حِرفة من الحِرف، أو وظيفة من الوظائف، أو عملٍ بإحدى الصحف!
إنها حقًّا لمحنةٌ أن يعجز الفكر الصرف عن أن يكفل لصاحبه حياة مستقلة في هذا العصر! … ولكن ما هو الحل؟
في فرنسا تكفَّلت الحكومة عقب الحرب الأخيرة بشراء بعض مقالات الأدباء، لتقيهم شرَّ الموت جوعًا، وجعلت توزِّع هذه المقالات على الصحف، داخل بلادها وخارجها، قاصدة من وراء ذلك إلى نشر الدعاية للثقافة الفرنسية … ولكن هذا ليس بالحل الطبيعي الذي تلجأ إليه حكومة في كل حين!
أما في بلادنا فالمشكلة قائمة على أشدِّها … فالحكومة أبعد من أن تُعنى بتأليف أو مؤلفين … ومع أن عدد الأدباء المنقطعين لحِرفة القلم قليلٌ … إلا أنهم قد تُركوا لمصايرهم يدبرون لأنفسهم أمر معاشهم … ولما كانوا لا يحسنون عملًا غير حمل القلم فقد احترفوا الكتابة على كُرهٍ منهم!
تُرى ماذا يحدث لو التفتت إليهم الحكومة قائلة: «يجب أن تنقطعوا للفكر الصرف كل الانقطاع … أما معاشُكم؛ فإني سأدبره لكم.»
إذا فعلت الحكومة ذلك ثم اقتضت من الأدباء بعدئذٍ الثمن، وأرادت تسخيرهم في خدمة أهدافها السياسية أو أهوائها الحزبية؛ فإن الحال تنقلب شرًّا مما كانت … ولخيرٌ للأديب أن يموت جوعًا من أن يبيع روحه لشيطان السلطان … ولكن … لنفرض أنه وُجدت الحكومة التي تترفع عن هذا الصَّغار! … ولنفرض — أكثر من ذلك — أيضًا أنها تورَّعت عن التدخل في إنتاج الأديب، وأنها جرَّدت من سلطانها حارسًا يحمي حرية الأديب في التفكير والإبداع.
لنفرض أن هذه الحكومة أو «العنقاء» يمكن أن توجد … فماذا تكون الحال؟
ما من شكٍّ أن الأدباء سيتوفرون على الفكر الخالص وحده … وسيكرسون جهودهم لخدمة الفن الرفيع، بعيدًا عن كل اعتبارٍ … وسيُحلِّقون في أدبهم وتفكيرهم تحليقًا قلَّ مَن يتابعهم فيه، أو يلاحقهم في التصعيد إلى قممه!
إنه الفكر المستكفي بذاته، قد امتطى صهوة السحب … ليشرف من سمائه على جموع الناس!
•••
على هذا الوضع يُخيل إلينا أن المسألة قد حُلَّت … ولكن صوتًا من أعماق الجموع يرتفع قائلًا: أنسيتم أنكم في عصر «الجماعات» البشرية المتيقظة، التي أصبحَت لها حقوقٌ في كل زاد مادي ومعنوي؟! بأي حقٍّ تحبسون عنها هؤلاء الأدباء في تلك الأقفاص المرتفعة … وتدثرونهم بهذه السحب القصية؟! … لماذا تحرموننا — نحن الشعب — هذا الاتصال المباشر بهذه العقول الممتازة؟! … نحن — الناس في جموعها وألوفها — لا تصل أيدينا الفارغة الفقيرة إلى الصحف السيارة والمجلات المنتشرة … أتريدون أن نقرأ فيها الفارغ الفقير من الكلام في كل الأحوال؟ أليس من حقنا أن نلقى فيها أديبًا من هؤلاء الأدباء الذين تريدون أن تجعلوهم وقفًا على الخاصة؟! … إلى متى هذه النظرة الأرستقراطية القديمة إلينا؟ … إن العالم قد تغيَّر … وإن الأديب الذي يُنكرنا، ويأبى أن ينفعنا، وأن يمدَّ يده إلينا — ولو في أعماق طيننا، وفي حمأة وحلنا، وفي وصمة جهلنا — لهو أديب مترَف بغيض، بل هو كمدعي النبوَّة المترفع الكاذب الذي يخشى على ثيابه أن تُدنسها أوساخ الطريق … وعلى سمعته أن تُلطخها خطايا الفجرة … فلا يهبط من مقصورته العالية لينتشل من الجماهير ولو نسمة واحدة صالحة للهداية أو الرقي!
•••
بين هاتَين الصورتَين، ماذا يصنع الأديب؟ … وإلى أيهما يتجه؟ إلى الفن الخالص الذي يناديه من أعلى … أو إلى الجموع العطشى التي تناديه من أسفل … أو يظل معلقًا كالقرد … يدٌ في العلو ويدٌ في السُّفل؟!
مشكلةٌ أخرى لا بدَّ لها من حل!