«هستيريا» السياسة
أتسمع هذه الضوضاء التي ارتفع صداها إلى أبراجنا العاجية، فأفسدَت علينا هدوءنا وتفكيرنا؟ … لعلك قائلٌ معي: هي «هستيريا السياسة» أُصيب بها هذا البلد دفعة واحدة! … نعم، الأمر لا شكَّ خطير، ما دام قد استطاع أن يصل خبره إلينا، فيؤثر في أعصابنا وإنتاجنا نحن المعتصمين في أبراج الفكر الهادئ، وإذا وصل بخار «السياسة» إلى تلك القمم الباردة في أمةٍ من الأمم فأنذِر إذَن بالويل، وتنبَّأ بأن رأس الأمة قد لعِب به الداء! … فما رأس الأمة في حقيقة الأمر إلا مفكروها المجردون! … وإنك لتذكر ما كان من أمر «جوته» شاعر الألمان يوم زُلزلت الدنيا بثورة يوليو الفرنسية! … فقد دخل عليه صديقه الأديب «أكرامان» يزوره ويتحدث إليه، فبادره «جوته» صائحًا: «لقد أرسل البركان حِممَه، واشتعلت النار في كل شيء!»
فقال «أكرامان»: «نعم، إنه لحدثٌ جلل، هذه الثورة الفرنسية!»
فعجِب «جوته» وقال ساخرًا: «كلَّا، لستُ أعني تلك الثورة، إنما أتكلم عن تلك المساجلة العلمية التي نشبَت في موضوع «أصل الأنواع» بين العالمَين «كوفيه» و«جعفري سانت هيلير» تحت قبَّة «المجمع العلمي»!»
هنا أيها الصديق كل مجدِ «ألمانيا» في الماضي، بل كان مجد البشرية العليا! … إن رعد الثورة، وصياح الثوار لم يبلغ صداهما أبراج العلم وقمم الفكر! … هذا الرأس قد ظلَّ ثابتًا لم تلعب به «السياسة»، هادئًا لا يتأثَّر بانقلاب أو فتح أو حرب إلا ما وقع في ميدان العلم والفكر! … ولقد انطفأ فعلًا لهبُ الثورة الفرنسية، ومضى بدخانه ورماد أشلائه، وبقيَ رأس «جوته» شامخًا مضيئًا في عليائه، رمزًا للفكر الإنساني الخالد!
ينبغي أن نتدبر قليلًا هذا البلاء خوفًا على رءوسنا أن يُصيبها دوار «السياسة» فلا تبصر شيئًا في هذا الضباب الشامل، وخشية على الناس أن يتمكَّن منهم الداء، فيذهب بألبابهم، ويدفعهم إلى التقاتل والتناحر، ويغري الشباب منهم باقتراف الإثم وارتكاب الجريمة، ويشغَل المنتجين منهم عن الإنتاج، ويصرف الأمة قاطبة عن العمل المفيد، ويوقِف تلك النهضة التي كادت تعود إلى هجعة مضطربة، تحت أقدام كابوس!
إنا لا نستطيع أن نصيح في الناس، وإذا صحنا من هذا العلو فما صيحاتنا إلا همسات تمرُّ فوق بحرٍ من العراك والصياح والهتاف تعجُّ به وتصخَب أمة بأَسرها، هل لك في أن تنادي معي من بُرجك:
أيها الناس: اتركوا السياسة للساسة؛ فإنهم ليسوا في حاجةٍ إلى هدوئكم وانصرافكم إلى أعمالكم!