الإيمان بالمُثل العليا
تسألني عن أقرب الأسباب لإعادة حُسن الظن بالأخلاق، وتقوية الإيمان بالمُثل العليا … هنا كل المسألة … ولستُ أدري مَن يبدأ بالعمل ومَن يعطيني المثل … أهُم الأفراد، أم هُم أصحاب السلطان؟ ولقد ذكرتُ «عمر بن الخطاب» وزهده في مُتع الدنيا، وفي يده مفاتيح الكنوز وتحت قدميه دولٌ وعروش! … هذا حقيقة خير مَثلٍ لصاحب السلطان، ينبغي أن يُضرب للأفراد والمحكومين كي يقتدوا به ويؤمنوا بأن العظمة الحقيقية لا تعرف الحرص على المادة، ولكن الدرس والمثل قد يأتي أيضًا من الفرد المحكوم!
وما إخالك تنسى موقف ذلك العالِم الفاضل «الشيخ الطويل» يوم دعاه «الخديو»؛ فأبى إلا أن يذهب إليه بعباءته البالية الممزقة التي عليه، فلما ألحَّ عليه الناصحون أن يرتدي عباءة جديدة صاح فيهم؛ أهو يريد رؤيتي أنا، أم رؤية العباءة؟ إن أراد العباءة فها هي ذي احملوها إليه، وإن أرادني أنا. فإني أذهب إليه كما أنا. وما إخالك تنسى كذلك موقف علماء الأزهر يوم دعاهم «نابليون» الظافر وأراد أن يُزين صدورهم بالنياشين، فراعه أن رأى أيديهم الغاضبة قد انتزعت نياشينه، وألقت بها إلى الأرض في حضرته، فلم يغضب وابتسم، وعَلِم أنه أمام رجالٍ يحترمون أنفسهم! … وهو أول مَن يدرك أن الانتصارات والجيوش لا قوة لها ولا حيلة أمام رجلٍ يحترم نفسَه! … فأنت ترى معي أن الدرس الخُلقي قد يأتي من صاحب السلطان، كما يأتي من الفرد المحكوم! … المهم في الأمر أن يوجد المثل الحي للأخلاق الحرة النزيهة العظيمة، في أي طبقةٍ وأي بيئة، وأي زمان!
وأعود فأجيبك على سؤالك الآن، في غير ترددٍ:
إن أقرب السُّبل إلى إعادة حُسن الظن بالأخلاق والمُثل العليا هو وجود المَثل بالفعل! … هو ظهور رجل واحد ومَثل واحد حيٍّ نراه بأعيننا، ونسمع صوته بآذاننا، ونلمسه بأيدينا، ونتبعه بأفئدتنا! ولكن هل كلُّ مجتمعٍ قديرٌ على إخراج مثل هؤلاء الرجال، أو أن أولئك لا يظهرون إلا في مجتمعٍ يهيئهم للظهور؟