فساد الدولاب
حتى على فرض فراغنا من رسْم الخطط ووضع البرامج، فالباقي بعد ذلك كثير، بل إن مجرد السير الآن في طريق العمل عسير، إذ بمَن نعمل؟ … إن الأيدي العاملة قد لحقها الفساد، فهي مثل «تروس» الساعة المختلة، تدور في غير حدود. فيَدُ الوزير أحيانًا تمتد إلى الأنظمة والأوضاع تقلبها رأسها على عقب، دون أن تُصغي إلى كلام أصحاب الاختصاص من المرءوسين، وإن الموظف مهما يكبر، ومهما ينبغ، لا يعدو أن يكون تابعًا يتلقى أمرَ رئيسه، ويؤمِّن على رغباته، وإن عَلِم أن فيها الضرر لمصلحة البلاد! … وهكذا أُهدرت الشجاعة الأدبية، وجبُنت النفوس عن تحمل المسئولية، بل إنه ليحدث أكثر من ذلك؛ فإن المسألة الفنية لتُعرض أحيانًا على لجان الأخصَّائيين، يبحثونها في شهور، فيأتي وزيرٌ يضرب بنتيجة البحث الطويل عرض الحائط، ويؤشر بقلمه الأحمر مناقضًا ما جاءت به اللجنة، كأنما هو يتحدى تلك العقول، ليُظهر أن رأيه «المرتجل» لساعته خيرٌ وأحكم من آراء المختصين بعد درس شهور، ولكن الأدهَى والأمرُّ أن يجد في أكثر الأحيان من بين موظفي وزارته ومن هؤلاء الأخصَّائيين أنفسهم مَن يقول له: «آمين، آمين!» فهل بمثل هذا الدولاب الحكومي نستطيع أن نسير في تنفيذ خطةٍ أو برنامج؟ … فإلى أن يعلم الوزير كيف يحترم رأي موظفيه المختصين، وإلى أن يفهم هؤلاء الموظفون كيف يحترمون آراءهم، وإلى أن توزع الأعباء والمسئوليات بين الوزير ومعاونيه، ويحل النظام محل الفوضى في علاقة الرئيس بالمرءوس، فلن تكون الأداة الحكومية صالحة بعدُ للسير الجدي في تنفيذ مشروعٍ من المشروعات!
وإني أسوق إليك مثلًا صغيرًا للإدارة الحكومية الصالحة، ما ذكره يومًا صحفي أمريكي قال: إنه ذهب لمقابلة وزير خارجية «إنجلترا» قبل إعلان الحرب العظمى ليسأله عن موقف «إنجلترا» من ذلك الحدث الهائل الذي يهدد العالم. فوجد الوزير مطرقًا في مكتبه، وإلى جانبه وكيل وزارته الدائم، غارقًا بين تقاريرَ فنية ووثائقَ تاريخية، فرفع الوزير رأسه وقال للصحفي: «تسألني عما إذا كنا سندخل الحرب! … لست أنا الذي يستطيع أن يجيب الآن عن هذا السؤال الخطير!» … ثم أشار إلى وكيل وزارته وقال: «إن وكيل الوزارة يبحث الموضوع من كل وجوهه، وهو وحده الآن صاحب الكلمة، وعليه تقع التبعة، ونتيجة أبحاثه هي وحدها التي ستُنير لنا الطريق كسياسيين، فنقرِّر إذا كان من واجب «بريطانيا العظمى» دخول الحرب!»