نجمُ «أحمد»
وقفَ اليهوديُّ على أحد آطام «يثربَ» ناظرًا إلى السماء، يعلن إلى بني قومه ميلاد النبي في صيحةٍ مدويةٍ: «طلع الليلة نجمُ أحمد!»
عجبًا من العجب! … أحقًّا لم يرَ ذلك اليهودي نجم «أحمد» قبل تلك الليلة؟ … يُخيل إليَّ أن الناس في ذلك الزمان كانوا يسيرون مطرقين كالعميان … إن نجم «أحمد» طالعٌ في كلِّ لحظةٍ يشع نورًا من بداية الكون، لو أن للكون بداية إلى نهاية الزمن، لو أن للزمن نهاية! … نجم «أحمد» هو الحق، والحق لا يبدأ ولا ينتهي … ولا يظهر ولا يختفي … إنه وجودٌ … !
إذَن … ما الإسلام؟ وكيف ظهر الإسلام بظهور «محمدٍ»، والمسيحية بظهور «المسيح»، واليهودية بظهور «موسى»؟ … هنا لزم التفريق بين الحق وثوب الحق … بين المعنى والأسلوب … ما الإسلام إلا أسلوبٌ من أساليب الحق، ورداءٌ من أرديته … كذلك المسيحية، وكذلك اليهودية، وكذلك كل دينٍ من تلك الأديان السماوية التي تتحد في الجوهر وتختلف في المظهر … وهنا نستطيع أن نُفاضل بين الأساليب، وهنا فقط يجوز لنا أن نُفاخر بالدين الأخير؛ إذ جاء بأسلوب جامع مانع، سهل ممتنع، محكم الوضع، مصقول التراكيب … فالمفاضلة لا تكون في الجوهر؛ لأنه واحدٌ أحد، إنما المفاضلة في الأثواب!
وهنا يخطر على البال سؤالٌ: هل تجوز المفاضلة بين الأثواب وهي كلها من صُنع الخالق المعصوم، الذي لا ينبغي أن يخطئ، ولا أن يُصحح ما سبق أن صدر عنه … أو أن جوهر الحق وحده من شأن الله، أما الأسلوب الذي يُعرض به على الناس فهو من شأن الرُّسل والأنبياء؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب النظر في قضيةٍ أخرى: هل للطبع والمزاج والخلق الذي ركِّب عليه النبي أو الرسول أثرٌ في أسلوب رسالته؟ … هل شخصية الرسول تطبع بخاتمها شكل الدين الذي يدعو إليه؟ … وهل لظروف العيش التي نشأ عليها النبي دخلٌ في اتخاذ «القالب» الذي أفرغ فيه موضوع النبوة؟
إن أُجِب على كل هذا بالإيجاب، فإن التبِعة في «أسلوب» الأديان تقع بلا مراء على كاهل الأنبياء. والنبي إذَن مسئول عن الطريق الذي اتَّبعه بالإبانة عن «الحق» مسئولية ملقاة على «شخصيته» التي صبغت الشريعة بصبغتها. وعلى قدر المسئولية تكون العظمة، وعلى قدر «الشخصية» ذات الوجود الفعلي تُقاس العبقرية العظمى والمجد الأسمى!
إن صح هذا الكلام، فإني أستطيع القول بأن النبي أو الرسول لا يصل إلى الحق متجردًا عن شخصيته، بل إنه لا يستطيع الدنو من الحق إلا عن طريق شخصيته، كذلك فعل «النبي العربي»، وكذلك فعل «المسيح» و«موسى»، وكذلك كل «نبيٍّ» لا يستطيع أن يرى الحق إلا عن طريق إحساسه وطبعه وعقله … وهي ملَكات تختلف باختلاف الأشخاص! … وهنا يبدو سرُّ تباين الأساليب التي جرت عليها الأديان في عرض جوهر الحق على الناس!
ولعل «محمدًا» ﷺ هو أكثر الأنبياء حرصًا على تنبيه الناس في كل مناسبةٍ إلى وجود شخصيته المستقلة؛ فهو لا يفتر يُذكِّرهم أنه بشر خاضع للقوانين التي يخضع لها البشر، وأنه لا يتصل بالله هذا الاتصال الخاص — الذي قصر على الرسُل — إلا إذ يشاء الله، وأنه في كثيرٍ من حياته الخاصة أو العامة — حيث لا وحي يهديه السبيل — يتصرف كما يتصرَّف البشر … وهكذا فعل في معارك «بدر» و«أُحد» و«الخندق»؛ إذ كان يستمع إلى مشورة أصحاب الرأي من رجاله! … وهكذا فعل إذ لم يُخفِ ميله إلى الطِّيب والنساء، بل إنه أعلن ذلك الميل لعلمه أن الميول من مميزات الطبع التي ركَّبها الخالق في البشر … والنبي الحق أجَلُّ من أن يكتم مزاجًا أو طبعًا، وهو يعرف أن المزاج والطبع من مقومات الشخصية!
وهنا تبدو حكمة الإسلام ظاهرة بين سائر الأديان؛ فهو دين بسيط فطريٌّ لم تدخله صناعة، كل شيء فيه صادق خالص صافٍ، ليس فيه إنكارٌ لقوانين الطبيعة، بل فيه مسايرة حكيمة ومصاحبة رشيدة لكل ما فرضه النظام العلوي على البشر، من حيث تركيبهم المادي والمعنوي؛ ذلك أن أسلوب «محمدٍ» ﷺ في إدراك «الحق» كان أسلوبًا مستقيمًا؛ فهو قد أدرك أن «معنى» الحق إنما هو «السبب» الذي يصدر عنه «الناموس الأكبر»، وأن روح الوجود هو «النظام»؛ إذ لا يُتصوَّر أن تكون «الفوضى» من عناصر الخليقة! … بل إن «الفوضى» إذا حلَّت في نظام الوجود انقلبت نظامًا؛ لأنه لا وجود بلا نظام، بل إن كلمة «الفوضى» لا محل لها إلا في أدمغة البشر، يُعبِّرون بها عن كل ما يُحدث شيئًا من الخلل في ترتيب حياتهم الضيقة المحدودة!
أما الكون غير المتناهي فلا يعرف غير النظام، الذي فُرض على الإنسان والحيوان والجماد! … هل من سبيلٍ إلى مخالفته؟ … إن مخالفة النظام الطبيعي للإنسان والأشياء مخالفة لله، وكل دينٍ يقف في وجه النُّظم الطبيعية لا يمكن أن يكون من عند الله؛ لأن الله لا يناقض نفسه!
كل هذا فهمه «محمدٌ» ﷺ ووعاه ببصيرته النورانية النافذة، فجاء أسلوب الإسلام في الإفصاح عن «الحق» واضحًا جليًّا، لا يأمر بالرهبنة، ولا بالفرار من الدنيا، ولا بتعذيب الجسد من أجل الله؛ لأن الله لا يأمر بتحطيم ما بناه!
إنَّما يريد الله أن تعيش الأحياء طبقًا لقوانين الحياة التي وضعها لها، وأن تُجاهد في سبيل هذه الحياة، وأن تتغلب على عناصر الفناء بما هيأه لها من مناعة طبيعية، أو مناعة اكتسابية، والدين هو أداة المناعة الاكتسابية لمكافحة عناصر الفناء المادية والأدبية!
فلئن كانت غاية الدين عند البشر توفير أسباب الحياة الصحيحة، والدنيا الصحيحة خير تمهيدٍ لآخرة صحيحة؛ فإن الإسلام بلا مِراء هو دين الصحة في كل شيء؛ فهو ذو صوت جهير في الدعوة إلى صحة الجسم، وصحة العقل، وصحة العقيدة!
ولئن كان ماضي هذا الدين السليم مجيدًا؛ فإن مستقبله، ولا ريب، يسير بازدهار يعمُّ الأرض، لو استطعنا أن نُجرده من سفسطة الجامدين، وننقِّيه من ثرثرة المتنطعين، وننقذه من احتكار الجهَّال المحترفين، وأن نردَّه إلى مبادئه البسيطة الصافية التي لا تصدم تقدُّمًا، ولا تعارض التطور الطبيعي للأذهان والأشياء!
وقتئذٍ فقط نستطيع أن نغزو به كل النفوس وكل العقول؛ فإن الدين «المثالي» هو الدين البسيط، وهل أبسط من الإسلام شريعة، وهي لا تعرف «رجال دينٍ»؟ … ولا تقرُّ وجود أناسٍ يجعلون من هداية الناس حرفة يأكلون منها ويكنزون؟ … ومن «الدين» مهنة تُدرُّ الرزق وتعطي متاع «الدنيا»؟ … إن أولئك الذين يجعلون «الدين» سُلمًا «للدنيا» — لا «الدنيا» سُلمًا «للدين»– قد طردهم الإسلام بعيدًا عن حظيرته، وجعل الدين سَمحًا باسمًا باسطًا ذراعَيه لكل الناس لا احتراف فيه ولا احتكار!
نعم، إن حاجة البشر كافة قد أصبحت متجهة إلى هذا النمير العلوي الصافي من المبادئ البسيطة المستقيمة، التي لا خداع فيها ولا تمويه، ولا تناقض ولا تشويه، ولا إخلال ولا تدخل في قوانين الطبيعة الأساسية التي وضعها المُبدع الأعظم! … إذا تم ذلك للإسلام في هذا العصر؛ فلسوف يأتي يومٌ يقف فيه أهل الأرض أجمعون — من كل جنسٍ ولون، على آطام بلادهم — يصيحون في كل حولٍ صيحة ذلك اليهودي: لقد طلع نجمُ «أحمدَ» …