نعيم الانتخابات
معذرة يا صديقي إذ أقطع اليوم سلسلة مناقشاتنا الإصلاحية؛ لأتحدث في خاطرة مرَّت بي، ولعلَّها مرَّت بك، فالأفكار الآن لا يشغَلها غير أمر واحد: الانتخابات … يُخيَّل إليَّ أن موسم الانتخابات نعيمٌ لكل الناس إلا للمتقدِّم إلى الانتخابات: ويلٌ لهذا المتقدِّم! … إن كل خطوة يخطوها إلى الميدان نفقةٌ وغرامة، فهو لا يحرك رجليه قبل أن يدفع مائة وخمسين جنيهًا «رسوم الامتحان» ثم يسير فاتحًا جيوبه بالمال، وعيونه بالحرص والحذر، وفمه بالكلام والخطب والوعود.
أما نحن — معشرَ النظارة والمتفرجين المحايدين — فهو لنا تسلية أمتع من سباق «الدربي»! … وإني لأرى الناس حولي مبتسمين يتحدثون في أخبار هذه «الملهاة» بلذةٍ واهتمام، وأرى فئة العارفين والحذاق يستعرضون المرشحين، ويوازنون بينهم كما يوازن أهل الخبرة بين كِرام الجياد، وهي تتبختر في المضمار فوق العشب الأخضر قبل بدء السباق! … على أن النعيم الحقيقي فيما أرى هو من نصيب الفلاح المسكين … هذا المخلوق العاري القدمين الذي يَجوع أكثر الأسبوع، ولا يرى وجه القرش إلا مصادفة كما نرى نحن وجه الحظِّ عابرًا في طريق الحياة. هذا الذي يسمونه إنسانًا بحكم النوع وهو في الحقيقة لا يسترعي التفَات إنسان! … هذا الآدمي المهمَل الذليل لا يُراد اعتباره ولا تعود إليه آدميته إلا في أيام الانتخابات؛ فإن «صوته» الضائع مع الريح كأنه صوتُ كلبٍ ضال، وهو اليوم (صوت) له خَطرُه وله سِعرُه، وله طلابه، وله مَن يجري خلفه، ويقدِّره، ويدفع فيه نقودًا، وهذه المَعدة الخاوية التي لم يدخلها غير الفجل والجبن ذي الدُّود تنتظرها اليوم ولائم، وتُذبح من أجلها ذوات الأجنحة والقرون!
وتلك الأقدام الحافية التي لم تعرف غير المشي خلف حمير «السِّباخ» توضع اليوم تحت تصرفها السيارات و«التاكسيات»، تنقلها من حفلة إلى حفلة … نعم … إنها فترة لا تُحسب من عمر الفلاح، وهو بذكائه يعرف أنها لا تدوم، فهو يستمتع بها من غير غرور، ويراها تزول فما يأسف ولا يزيد على أن يقول:
كانت أيام «استنخاب» ركبنا فيها «كنابيل»، وأكلنا «زفَر» ودخلَت جيوبنا «نقدية»!
مَن يدري لعل فريضة «الزكاة» التي ذهبت مع زمن قديم عادت اليوم في ثوب جديد! … نعم، إن لم يكن من فضيلة الانتخابات إلا أن تشتري صوت الفقير بالذهب وتسد فمه بالطعام، وتُركبه ما لم يركب، وتُريه ما لم يرَ، وتحيطه بمظاهر العناية والاحترام ولو إلى وقتٍ قصير، لكفى بها فضيلة.
إن الانتخابات في نظري ليست — حتى الساعة في هذا البلد — مظهرًا من مظاهر الديمقراطية، ولكنها أول مُعلم يُفهِم الفلاح أولًا معنى الحياة الإنسانية ويُذيقه طعمَ الآدمية!