الشَّحَّاذون
إن تعاقُب الوزارات السريع في مصر، يقذف اليوم على أفاريز الفراغ بعدد وافر من أصحاب «المعالي» لا يصنعون شيئًا غير الانتظار في «ميادين» السياسة ممدودي الأكُفِّ. ماذا ينتظر هؤلاء المتعطلون؟ ينتظرون دورهم في العود إلى الركوب؟
نعم … إن «الحكم» أصبح الآن مثل أرجوحة «الخيول الخشبية الدائرة» التي يركبها الأطفال في مقابل مليمات، ولو أُعطيَ طفل ألف مليمٍ لأنفقها كلها في هذه اللعبة اللذيذة، فهو يحب الركوب لمجرد الركوب فوق هذا الحصان الخشبي المطليِّ بالذهب، الملوَّن بأزهى الألوان الخادعة، وإن دوره ينتهي ورأسه يميل من الدوران، فلا يُفيق إلا وقد أنزله صاحب الأرجوحة على الأرض، فيظل واقفًا بلا حراكٍ ينظر إلى حصانه يدور بغيره، وفي قلبه الصغير حسرة، وفي عينيه الزائغتين علامات الصبر النافد، إلى أن تنتهي الدورة فيخفق قلبُه أملًا في أن يعود إلى الركوب، وهكذا دواليك!
أما الفائدة من ذلك فلا شيء غير اللهو والسرور، فهو متى امتطى صهوة الحصان الخشبي تملَّكه الغرور، وظن أن هذا غاية الأمل، وأنه قد وصل … ويلعب برأسه دوار «الأرجوحة»، أو دوار السلطة الباطلة و«الفروسية» الكاذبة، فيَقنع بذلك، ولا يفعل شيئًا غير ازدراء الواقفين في الانتظار، وهو يمُرُّ مرَّ من البرق متعاليًا متصايحًا صياح اللذة والظفر!
فالحياة في مصر لهو في لهو، وتعطُّل إلى جانب تعطُّل، وفراغ إلى جانب فراغ … الجميع من شبان وسياسيين وقادة ومَقودِين، لا عمل لهم غير التطلع إلى خيول «المناصب الحكومية» الخشبية، وهي تدور! وهذا الروح العام قد أثر في روح الشعب كلِّه، فنحن لا نكاد نرى طرقاتنا في مصر خالية من أناس أشداء يتطلعون إلى موائد المقاهي، ويمدُّون أيديهم يطلبون شيئًا، لقد سرَت روح البطالة والسؤال في كل طبقات الشعب؛ الجاهل منها والمتعلم! وكدنا نعتقد أن مصر قد نسيت أن في الوجود شيئًا يُسمى العمل والكدح والاعتماد على النفس، وأن مصر قد أصبحت بلدًا تخفق عليه راية «التسوُّل» العام، وهنا الخطر الداهم، ولا أبالغ إذا قلت إن روح «الشحاذة» موجودةٌ في كل نفسٍ مصريةٍ في الوقت الحاضر، فالوزير الذي تسوَّل طويلًا في انتظار منصبه، لا يكاد يدخل مكتبه كل صباح، حتى يرى هو الآخر أفواج المنتظرين من أصحاب السؤال يمدُّون أيديهم ليعطيهم مما أعطاه الله، فيُثقلون كاهله بطلبات النقل أو التعيين أو الترقية أو العلاوة أو إلغاء عقوبة أو التماس منحة، ويضيع الجزء الأكبر من عمل الوزير اليومي في التخلص من هؤلاء السائلين.
وتمكَّنَت هذه العادة المرذولة إلى حدٍّ نرى معه بعض الناس ينتظرون حتى يَسألوا جيرانهم الجرائد ليقرءوها «شحاذة»، وإلى حدٍّ أرى معه أنا المؤلف كل يوم مَن يسألني نسخة من كتبي «شحاذة»، ولا أستطيع أن أجلس في مكان حتى أسمع من حولي أصوات الإلحاح في سؤال شيء من الأشياء!
حقيقة إن الحياة في مصر أصبحت لا تُطاق؛ فإما أن يتغير هذا الروح العام، وإما أن نيئسَ ونحكم على هذا الشعب أقسى الأحكام!
على أني أعود فأقول دائمًا إن الذنب في كل هذا واقعٌ على كاهل القادة وحدهم من رجال الحكم السياسة؛ فهم الذين علموا الشعب كلَّه، وغرسوا فيه روح البطالة والتسوُّل والصياح، ولو أن الشعب رأى رؤساءه ورجالاته يعملون في سكون، لخجِل وعمِل هو أيضًا بغير صخب، ولأصبحنا حقيقة شعبًا متحضِّرًا يعمل ولا يتسوَّل!
أريد أن أضع تحت أنظار وزرائنا مثل أبي بكر، يوم ولي الخلافة، فقد واصل عمله في بناء الدولة الفتية حتى رضِي واطمأن، فجهز إبِله ذات صباح، وأراد أن يخرج في تجارةٍ له، فاعترضه الناس دَهشِين: كيف تخرج في تجارتك وأنت الخليفة؟
– وكيف أعيش وتلك صناعتي!
نعم … هذا الرجل العظيم لم يكن يعتقد قط حتى ذلك الوقت، أن سياسة الدولة عمل يُرتزق منه، إنما هو في نظره واجب محتوم عليه كعضوٍ من أعضاء الأمة. أما الارتزاق وأسباب العيش فينبغي أن يكفُلها عمل آخر وكدح آخر!