الأحزاب والشعب
سألَتني إحدى المجلات السياسية عن رأيي في أحزابنا المصرية، ومدى قيامها بواجبها نحو تحسين حال الشعب، فقلتُ:
إن المفروض في مُمثلي الشعب، أن يتقدموا إلى المقاعد النيابية ببرامجَ ثابتةٍ واضحةٍ محددٍ فيها بالدقة؛ الخطط، ووسائل التنفيذ لمطالب طبقات الشعب المختلفة التي يمثلونها … ولكن الذي يحدث اليوم هو غير ذلك، فإن كل مشروع حيوي يهم الشعب، إنما يصدر عن جهاتٍ أخرى غير ممثلي الشعب! … ولم نعُد ندري، فيمَ يمثل هؤلاء الممثلون الأمة!
خُذ مثلًا، مشروع مقاومة الحفاء، ما كان أحراه أن يكون جزءًا من برنامج حزبٍ من الأحزاب! … إن كلمة أحزابٍ — كما تُفهم في مصر — تُطلق في الحقيقة على سبيل التجوُّز؛ إذ إنه ليس في مصر حزب بالمعنى الحقيقي لكلمة حزبٍ كما تُفهم وتستعمل في النظم الديمقراطية الصحيحة! … إنما في مصر «فِرَق» منفصلةٌ تسمى أحزابًا، لا هَم لكلِّ فرقةٍ من هذه «الفِرَق» إلا «توزيع» المقاعد البرلمانية، والحصول على المناصب الوزارية وتنظيم حركة «تذاكر» الانتخاب، أما برنامج «الرواية» فليس من همِّ أحد التفكير فيه! … فالأمر في ذلك يسير على نمط حفلات التمثيل «ومتعهديها» الذين يركِّزون كل نشاطهم، في مسألة توزيع المقاعد وتحصيل قيم التذاكر! أما مسألة «البروجرام» والغرض من الحفلة وما إلى ذلك فلا يلتفتون إليه، ولا يجعلونه من شأنهم! … وإني لأحب هنا أن أقول: إنه قد آن الأوان لأن يسأل الشعبُ عن البرامج لا عن شغل المقاعد!
إن الشعب اليوم قد تغيَّر في نظري، وإن عقليته قد تكوَّنت، وأصبحت له رغباتٌ حيويةٌ تمسُّ صميم غذائه اليومي وحياته المادية! … إنه يطالب اليوم أن يعيش، لا معنويًّا فقط، كما كنا نُنادي بالأمس، ولكن ماديًّا أيضًا، عن طريق اللُّقمة المتوفرة للملايين من المحرومين!
– ألم تتجه العناية في هذه الأيام إلى طبقات الشعب الفقيرة؟
– هذا صحيح، ولقد كثُر جمع الصدقات، ونشطت حركة التبرعات … ومهما تكن الدوافع إلى ذلك، فهي على كل حال، عواطف كريمة، تنمُّ عن تيقظ روح الأريحية في نفوس ذوي الفضل من الأغنياء والقادرين … على أنه ينبغي لنا، مع ذلك، أن نتساءل: إلى متى نظل في مصر — ونحن نملك فيها نظامًا ديمقراطيًّا — نعتقد أن إصلاح شئون الطبقة الفقيرة معناه التصدق والإحسان؟! … وإلى متى، ونحن لدينا برلمان، لا نجد فيه ممثلين لملايين الطبقات الفقيرة، يدافعون عما تراه هذه الطبقات مُنهِضًا لها، مُصلحًا لحالها؟! … ما معنى الديمقراطية إذا لم تكن هي تمكين طبقات الشعب كلها — على اختلاف مراتبها ومطالبها — من الدفاع عن نفسها بنفسها تحت قِباب المجالس النيابية؟!
ما من برلمان في أي بلدٍ ديمقراطيٍّ في العالم، يعرف هذا الوضع الذي نحن عليه؛ لأنه ما من أحزاب في العالم تكوَّنت هذا التكوين الشخصي المرتجَل كأحزابنا المصرية، ذات الصبغة الشخصية الواحدة المتشابهة!
في البلاد الأخرى أحزابٌ ذات مبادئ مقررة، كلٌّ منها يدافع عن حقوق طبقةٍ من طبقات الأمة، من ضمن تمثيل الطبقات المختلفة على نحوٍ يكفل التوازن بين المصالح. بينما أحزابنا، على تعددها وكثرتها، لا تمثل في حقيقة الأمر، غير طبقة واحدة، هي طبقة المُلاك!
هي التي نسمع صوتها في البرلمان! … وهي التي اتخذت لنفسها صفة القوامة على الطبقات الأخرى، وهي التي تستطيع أن تَمنع وتَحرِم الطبقات الأخرى، حتى من حق الاعتراف بنقاباتها التي تُنظم شئونها، وتُدافع عن حقوقها!
ويحضرني هنا مَثلٌ أحبُّ أن أذكره، فقد وجدت في حانوت حلاقة ذات مرة حلاقَين؛ أحدهما يعمل إلى جانب الآخر، ويتقاضيان أجرَين متساويَين، الأول مصري، والثاني يوناني، فعلِمت شيئًا عجيبًا، فقد قال لي العامل المصري إنه، وهو في بلاده، لا يستطيع أن يُعلِّم أبناءه بالمجان، ولا أن يستشفيَ بالمجان، وإنه لا يجد أحدًا ولا هيئة تُعِينه على تكاليف العيش … بينما زميله اليوناني يُعلم أولاده كلهم بالمجان، في المدارس اليونانية، ويَستشفيَ هو وعائلته بالمجان في المستشفيات اليونانية، لأن هناك هيئات ونقابات يونانية تُعنَى أتم العناية، بمساعدة العمال والأُجراء اليونانيين! … وقد روى لي هذا العامل المصري أيضًا، أنه ذهب بابنته الصغيرة يومًا إلى مدرستنا الأولية، فوجد عاملًا مصريًّا آخر قد عجَز عن دفع مصروفات ابنته على ضآلتها «عشرة قروش شهريًّا» فاضطر إلى العودة بها إلى البيت، مما حزَّ في نفس زميله فأخرج «أجره اليومي» من جيبه ودفعه من أجله.
لا شكَّ أن أكثر الناس يوافقونني على أن هذا الوضع للأشياء يجبُ أن يتغيَّر!