الفكر والشعب
سألَتني كذلك مجلة سياسية أخرى:
هل ترون أن الكتَّاب الاجتماعيين في القرن الماضي كانوا هم قادة الإصلاح في أوروبا وأمريكا؟
– بالتأكيد، بل لا يزال الكتَّاب حتى اليوم هم الذين يُمهِّدون السبيل للإصلاحات والانقلابات الاجتماعية المقبلة، وإني أرى أن كتابات روائي مثل «شارلس ديكنز» كان لها الفضل في حمل ساسة إنجلترا من محافظين وأحرار وعُمال على وضع المسألة الاجتماعية في رأس برامج أحزابهم … واليوم بالذات برغم الحرب وأهوالها لا يفتأ «ويلز» و«برنارد شو» و«برستلي» يرسمون الاتجاهات التي ينبغي أن يَتجه إليها بعد الحرب، لا الشعب البريطاني وحده، بل البشر كافة … فهم يبغون انقضاء عهد الشقاء الاجتماعي وبزوغ عهد يستطيع أن يعيش فيه كل فردٍ حياة جديرة بالكرامة الآدمية، فلا إغراق في البؤس ولا إغراق في الترف، بل نظامٌ يقوم على التوازن الاجتماعي والتضامن والتعاون! … نعم، الكتَّاب والمفكرون هم قادة الإصلاح، وهم واضعو أُسسه وخططه في كل زمان ومكان!
ولئن كانت حركة الإصلاح الاجتماعي في مصر قد تأخرت حتى اليوم؛ فذلك سببه تقصير الكتَّاب والأدباء. إني أتَّهم بملء فمي الأدب المصري بهذا الجُرم!
إن الأدب في مصر لم يكن إلى عهود قريبة غير حِلية عاطلة في معاصم الأدباء … لقد كان يعيش هؤلاء الكتَّاب، لا على هامش المجتمع فقط، بل على هامش حياة الآخرين من أصحاب الجاه أو الثراء … لم يكن الأدب في مصر إذَن أداة تسجيلٍ وتوجيه لشئون المجتمع، ولم تكن أقلام الكتَّاب أبواقًا توقظ النائمين، ولكنها كانت معازف ينعس على أنغامها المترفون … وإذا كان هؤلاء هُم كتَّاب أمة، وهذا هو أدبها، فلا عجب إذا ظلَّت حال المجتمع على ما نراه اليوم!
على أن الأمر بالضرورة قد تغير الآن … وإنك تستطيع أن تقول: إن الأدب في مصر يتِّجه في الطريق الصحيح، وإن كثيرًا من الكتَّاب المعاصرين نشروا كتبًا وأفكارًا تتصل بصميم المجتمع، وإن آراءهم تُسمع وتُحترم وتُؤثر أحيانًا في اتجاهات الحياة العامة!
– كنتم أول من اقترح منذ عامين إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية في حديثكم المشهور عن النظام البرلماني، وها هي ذي قد أُنشئت!
– إني اقترحت أن يُعدَّل اسم وزارة الأوقات واختصاصها، وتُجعل «وزارة الأوقات والحياة الاجتماعية» بهذا النص، وكانت فكرتي في ذلك أن يَتسنى تحويل أموال الأوقاف إلى وجوه المنافع الاجتماعية المثمرة، كالملاجئ والمستشفيات والنوادي الرياضية … إلخ … ولكن فكرتي قد أدَّت إلى إنشاء وزارة مستقلة لشئون المجتمع، فضاعف ذلك التفاتَ الناس إلى الفكرة الاجتماعية في ذاتها … وكان في مجرد وجود هذا الهيكل الرسمي المخصص للمسألة الاجتماعية أقوى دعاية لهذه المسألة في أنحاء البلاد. مما جعل الشعب كله يهتم بالمسألة الاجتماعية بعض اهتمامه بالسياسة، وأصبحت تُثار في البرلمان قضايا الفلَّاح والعامل وحقهما في حياة إنسانية معقولة، وحصة الفقير وحقه في معونة الغنِي، وأصبحنا نسمع كبار الأمة يتحدثون عن ضرورة الرقي بمستوى حياة الشعب، وكثرت المحاضرات في كل مكان، وتكوَّنت جمعيات الإصلاح، وارتفعت أصوات الرحمة من القلوب وكلمات العدالة والإنصاف من الأفواه، كلها مجمعةٌ على أنه ينبغي وضع حدٍّ لما نراه من استئثار مئات من أهل هذه البلاد بالخيرات، وترك الملايين في جوع وعُري كالسائمات!
ولكني أقول باعتباري كاتبًا: إن الأمر لم يَعُد في حاجة إلى توجيه، فإن حال الشعب الآن لا يختلف فيها اثنان، وإن قادة الرأي ورجال الأمة ومفكريها يعرفون علل الشعب أتم معرفة، ويوضحونها ويصفُون لها العلاج … وفي كل يوم يزداد عدد هؤلاء المفكرين والدعاة، وتتسع دائرة المصغين إلى رسالتهم، إلى أين يأتي اليوم الذي تصبح فيه المسألة الاجتماعية هي المسألة الأولى في الدولة: لها صحافتها ولها ساستها، وعلى أساسها تتقدم الأحزاب إلى الحكم، ويكون النجاح أو الإخفاق في تحقيق برامجها هو الذي يُبقي الوزارات أو يسقطها!
فها أنت ذا ترى ما أرمي إليه، إن المسألة الاجتماعية عندنا هي في طور «الهواية» ولن تدخل في طور «العمل الجديِّ» إلا إذا طالب بها الشعب نفسُه، ولما كنا في نظام ديمقراطي فإن الشعب عندئذٍ يكوِّن أحزابه وينتخب ممثليه طبقًا لهذه المطالب؛ فإلى أن تصبح المسألة الاجتماعية في مصر ذات تأثيرٍ مباشرٍ في أداة الحكم، كالمسألة السياسية سواء بسواء، فليس لنا أن نقول إن في مصر مسألة اجتماعية على الإطلاق!