«كادر» المقامات
إني مُقرٌّ بالتخفيض الذي حدث في «كادر» المرتبات؛ فقد آن لهذا المخلوق الذي يسمونه «الموظف المصري الكبير» أن يتواضع لله وللناس، هذا الآدمي الذي خلقه الله بمواهبَ تساوي عشرين جنيهًا في الشهر، فقدَّرت له الدولة مواهبه بمائة جنيه في الشهر! … هذا الآدمي الذي ألقت به الطبيعة على الأرض، ليزرع بسواعده العارية عملًا مسئولًا، ويحصد ثمرًا معقولًا؛ فإذا هو قد انزوى بين أوراق فارغة على مكتب مساحته فدان ليحصد آخر كل شهر غلَّة ٥٠٠ فدان! … هذا الآدمي الذي صنعت له أجيال الشباب المصري في نفسها تمثالًا ذهبيًّا تعبده، فصرفها عن الالتفات إلى المغامرات الحرَّة العظيمة التي قام بها أشخاص اسمهم «فورد» و«روكفلر» و«كروب» بل حتى أشخاص في المحيط المصري اسمهم «عدس» و«بنزايون» و«موصيري» … هذا المَثل الأعلى الحكومي الذي غرسته في نفوسنا المرتبات الضخمة لعمل «الروتين» الفارغ، هو الذي أفقدنا عُدَّتنا من الرجال الأكفَاء المنتجين، وهو الذي أضاع من أيدينا ميادين الثروة الحقيقية، فاحتلها الأجانب الأحرار، أصحاب النشاط الواقفون بالمرصاد! … تخفيضٌ آخر ينبغي أن نفكر فيه بعد أن انتهينا من كادر «المرتبات» ذلك هو كادر «المقامات»!
«مقاماتنا» أيضًا متضخمةٌ أكثر مما ينبغي … تضخُم غير طبيعي، وهو ما قد يُسمى في عالم الطب بالانتفاخ، وفي عالم الاجتماع «بالنفخة»، وكلاهما فيما أعتقد شيء واحد وعلته واحدة، وكلاهما إذا فُتح بالمشرط وُجد بداخله «هواء» فهي مجرد أسماء لا معنى لها، وهي لا ترفع ولا تخفض ولا ينبغي لها أن تفعل، يكفينا أن ننظر حولنا فلا نجد أمة واحدة من تلك الأمم المجيدة التي تعجُّ بالعظماء في مختلف الفروع والأعمال قد سارت على ما نسير عليه نحن الأمة الصغيرة الفقيرة؛ فإن «مستر تشمبرلين» هو بلا شك من أرفع رجال الأرض مقامًا في العصر الحاضر، ومع ذلك قد يشارك «مستر جون» كُمساري المترو في لندن لقبه المتواضع، و«مسيو دلادييه» هو اليوم من أقطاب العالم ولا لقبَ عنده إلا ما عند «مسيو ريمون» خادم المطعم الذي يأكل فيه … تلك هي العظمة، وتلك هي الديمقراطية! … بل إن «الهر هتلر» هو أيضًا لا يمتاز عن «الهر شاخت» سائق سيارته في اللقب! … قد يُسند إليه أحيانًا لقب «المستشار» غير أن هذا حقيقة لا لقب … بل أقل من حقيقة؛ لأن «هتلر» لا ينتظر حتى يُستشار في أمر من الأمور، وهو المتصرف وحده في مصير بلده، المؤثر في أقدار الشعوب. ولماذا نذهب بعيدًا وقد كان الإمبراطور العربي العظيم «عمر بن الخطاب» لا يُنادى إلا بلفظٍ واحدٍ: يا «عمر».
إنه في رأيي داء تُصاب به غالبًا الأمم الصغيرة التافهة، فهي كالطفل يحب كل ما هو برَّاق طنَّان أجوف، وليت هذا الداء محصور في طبقة كبار الموظفين وحدهم، بل إنه مع الأسف قد تعدَّاه إلى جسد الأمة كلِّه، فإذا كل مَن لبس «بدلة» يتوق أن يناديه الجميع بلقب «بك» ويكتب له الجميع «صاحب العزة»، وأصبح لقب «أفندي» سبًّا فاحشًا! … ومَن أراد أن يشتم أحدًا في الطريق العام أو على صفحات الجرائد أو على مظروف خطاب، فما عليك إلا أن يقول له: يا «أفندي»!
مَن المسئول عن هذا المرض الخطير؟ … لا أشك في أنهم هم الموظفون الكبار، أو قادة الأمر في البلاد، من أصحاب «الرفعة» و«الدولة» و«المعالي» … إلخ، فهم بتكالُبهم على المظاهر الفارغة قد علَّموا الشعب أن يحترم الألقاب أكثر من احترامه لمجرد الأعمال!
فلعلَّ الروح الجديد الذي يسري اليوم في مصر الناهضة المستقلة يدفعها في طريق العمل والبطولة، ويحفزها أيضًا على التفكير في تغيير نظرتها إلى الألقاب، وتعديل كادر المقامات، بما يتفق مع الروح السائد الآن في العالم ومع طابع العصر الحاضر في كل دول الأرض. الديمقراطي منها وغير الديمقراطي!