المعنى الإنسانيُّ لوحدة الزيِّ
مرة أخرى أناقش الحجة الوحيدة القائمة في جانب «الطربوش» وهي كلمة «الشعار الوطني» وأغلب المصريين مفتونٌ بهذه الكلمة، وأغلب المصريين ما زال يعتقد أن من المفاخر أن يتميز بلباس خاص، شعبٌ صغيرٌ عن بقية شعوب الأرض القوية المتحضرة. وقليلٌ من المصريين يرى من المفاخر أن يتمسك رجلٌ أو رجلان بلباس أحمر فاقع صارخ، بين مئات وألوف من الرجال المحترمين المتحدين في زيٍّ معروف! … لقد لحظ بحقٍّ أحد المفكرين أثناء سياحة طويلة في آسيا وأفريقيا أن الشعوب المنحطة هي أكثر الشعوب تمسكًا بتقاليد الزيِّ، وأكثرها حبًّا في التميز عن غيرها من الأمم بأرديةٍ صارخة الألوان … وأزيد أنا على هذا المفكر بقولي: إن فكرة التميز بشعار خاصٍّ ليست فقط فكرة «بربرية» في عصرنا الحاضر، ولكنها تدل كذلك على ضعف الإدراك في أمةٍ من الأمم؛ فإن من علامات الإدراك الضعيف عدم اتساع أفقه للأفكار الإنسانية، ولا ريب عندي الآن أن خوفنا وترددنا في مسألة كمسألة الطربوش، وتشدُّق الكثيرين بكلمة «القومية»، سببه الوحيد أننا لم نزل في حالة «عزلة ذهنية» لا أكثر ولا أقل؛ فنحن في الواقع لم نتصل حتى الآن بالعالم المتحضر اتصالًا يشعره بوجودنا ويشعرنا بأننا جزءٌ منه، فنحن في حقيقة الأمر شعب صغير لا وجود له حتى الآن على خريطة الفكر الإنساني المتحضر. إنما نحن زُراع وخُدام وعبيد يعيشون على هامش الحضارة، يخدمون المصالح المثالية الأجنبية، التي قبضت على وادي النيل منذ عشرات من الأعوام! … هذا كل دورنا الذي نلعبه حتى الساعة فنحن لم نقدم للعالم ما يدله على مساهمتنا في التقدم الإنساني؛ لأن الفكرة الإنسانية نفسها بعيدة عن ذهنيتنا … إنا لا نفكر إلا في أنفسنا وفي حياتنا الصغيرة، وما يحيط بها من عوائدَ باليةٍ ومعتقداتٍ قديمةٍ وتقاليدَ عتيقة … إن العالم المتحضر لا يهمُّه أن يعرف عنا شيئًا، لأننا ليس عندنا ما يستحق أن يعرفه العالم المتحضر! … إنما نحن نعيش كفصيلة من الدواجن وكفى! … وهذا يسخرنا لحسابه تسخيرًا ماديًّا وكفى! إني لا أقول إن خلعنا «الطربوش» سيأتي بالأعاجيب وسيغير هذا الموقف، كلَّا مطلقًا. إنما أقول وأصرُّ على القول: إن ما رأيته من اتجاه الناس نحو استنكار كل تغيير للبالي العتيق، هذا الاستنكار العنيف وتكالب شباب الجيل الجديد مع الأسف الشديد على الاحتفاظ بروح «القبيلة» الجامد … كل هذا أدهشني وأحزنني ودلَّني على أن عقليتنا في ذاتها لم تزَل تميل «إلى العُزلة الذهنية»، وأن جراثيم «البربرية» ما زالت متأصلة في نفوسنا، وأن أمامنا وقتًا طويلًا قبل أن نهضم الأفكار الإنسانية في ذاتها، ونصبح أهلًا للانضمام إلى هيئة الأمم المتحضرة، التي لا تتميز باختلاف الزي واللباس، والتي اتجهت كلها إلى وحدة الزي بوحدة الإنسانية!