سرُّ العظمة
ينبغي لمَن أراد أن يَعلم سرَّ عظمة «محمدٍ» ﷺ أن يتخيل رجلًا وحيدًا فقيرًا تمكَّنت من قلبه عقيدة، فنظر حوله فإذا الناس كلهم في جانبٍ وإذا هو بمفرده في جانبٍ … هو وحده الذي يدين بدينٍ جديدٍ بينما الدنيا كلها؛ أهله وعشيرته وبلده وأُمته، والفرس والروم والهند والصين، وكل شعوب الأرض لا يرون ما يرى، ولا يشعرون له بوجودٍ … هذا موقف النبي ﷺ، وهذا موقف العالم.
رجلٌ عاطلٌ من كل قوةٍ وسلاح، إلا مضاء العزيمة وصلابة الإيمان، أمام عالَمٍ تدعمه قوة العدد والعدة، وتؤازره حرارةُ عقيدةٍ قديمةٍ شبَّ عليها وورثها عن أسلافه، واتخَذت لها في قرارة نفسه وأعماق تاريخه جذورًا ليس من السهل على أول قادم اقتلاعها. فالنبي هو ذلك القادم الذي يريد أن يقتلع تلك الجذور، ويضع مكانها غرسًا جديدًا، والعالم القديم هو ذلك السادن القوي لتلك الشجرة العتيدة، يَذُود عنها، وتأبى كرامته أن يُفرِّط في ورقةٍ منها!
إذَن هنالك «مبارزةٌ» بين فردٍ أعزل، وبين عصرٍ بأَسره يُزمجر غضبًا؛ عصر زاخر بأسلحته ورجاله، وعقائده وفقهائه وعلمائه ومشاهيره، وتقاليده وماضيه، ومجده وتاريخه … هذه المبارزة الهائلة العجيبة، مَن يستطيع أن يُقدِم عليها غير نبي؟! … على أن المعجزة بعد ذلك ليست في مجرد التحدي، ورمي «القفاز» وارتفاع ذلك الصوت الضعيف على شاطئ ذلك البحر الطامي العجاج: «أن اترك أيها العالَم دينك القديم واتبعني!» ذلك الصوت الذي لا جواب عليه إلا سخرية طويلة وقهقهة عريضة.
وليست المعجزة كذلك في مجرد شفاء الأصم وإبراء الأعمى، وإنما المعجزة حقيقة هي أن يَخرج مثل هذا الرجل الوحيد الأعزل من هذه المعركة المخيفة ظافرًا منتصرًا، فإذا هذا العالم العتيد كله يجثو عند قدميه منكس الأسلحة، وقد انقلبت سخريته خشوعًا طويلًا، وقهقهته صلاة عميقة!
كيف ربِح هذا الرجل الموقعة؟ … ما وسائله؟ … هل كانت له خططٌ وأساليبُ وقوةٌ من شخصه مكَّنته من النصر … أو أن الله هو الذي نصره، دون أن يكون لشخصية النبي دخلٌ في الانتصار؟ … عقيدتي دائمًا أن شخصية النبي لها أثرٌ كبير!
وهنا معنى الاصطفاء؛ فالله يختار من بين البشر عظيمًا، له كاهلٌ قويٌّ يحتمل عبء الرسالة … ويوحِي إليه بالعقيدة ثم يتركه يجاهد في سبيلها، فالنبي ليس آلة تُحركها يدُ الله في كل خطوة، إنما هو رسولٌ عُهِد إليه تبليغ دين، والعمل على إذاعته بين الناس بالوسائل التي يراها الرسول كفيلة ببلوغ الغاية، فالله لا يريد نشر الأديان للبشر إلا بالوسائل البشرية … إنه لا يتدخل بقدرته العلوية، في فرض الدين فرضًا على الناس كما تُفرض عليهم الزوابع والأمطار، ولكنه يحب دائمًا أن يخلي بين «الدين» وبين «الناس»، حتى يتغلغل الدين من تلقاءِ نفسه في نفوسهم بجمالِ نوره وحده، ولكن أعين الناس لا ترى كل الأحيان؛ فهم يعيشون في أعماق ماضيهم كالأسماك العمياء في أغوار المحيطات!
هنا تبدأ متاعب النبي، وهنا تظهر المعجزة الحقيقية، وهي إبراء الأعمى، لا أعمى واحد، ولكن ملايين العميان، فهو الذي يفتح أبصارهم على نورٍ طالما جحدوا وجوده؛ نور الدين الجديد الذي أتى به.
وهنا ينبغي التساؤل: كيف استطاع النبي أن يُرِي الناس ما يرى، وأن يُقنعهم بما جاء به؟
الجواب بسيطٌ:
حياة النبي وخُلقه! … إن الناس لا تقتنع بالكلام وحده، وإنما يؤثِّر فيهم الفعل والمَثل … إن الناس يومَ أيقنوا أن «محمدًا» لا يسعى إلى غنًى ولا إلى مُلك، وإنه يريد أن يبقى فقيرًا يشبع يومًا ويجوع أيامًا، وإن كل تلك المخاطر التي يتعرَّض لها في كل خطوة، وإن كل ذلك الهوان الذي يناله من سفهاء القوم وأكابرهم، وإن كل ذلك الجهاد الذي ملأ به حياته بأكملها — إنما هو سبيل «العقيدة» التي يقول لهم عنها — منذ ذلك اليوم الذي اجتمع فيه كُبراء أمته، وعرضوا عليه ثروتهم، ووعدوه أن يُنصِّبوه عليهم ملِكًا، على شرط أن يتركهم على دين آبائهم، فرفض المال والمجد والسلطان، وأبى إلا شيئًا واحدًا: «أن يؤمنوا معه بفكرته»، عند ذاك أدرك أولئك القوم جميعًا أن الأمر جِد لا هزل، وأنهم أمام رجل لا ككل الرجال، وأنه الآدمي الذي لا يغريه في الحياة شيء، ولا يعيش إلا من أجل «فكرةٍ» لا تُقوَّم بمتاعٍ من أمتعة هذه الدنيا الرخيصة، و«جمالٍ» يُضحَّى في سبيله بخير ما في الحياة!
أمام هذا الرجل أخذ الناس يفكرون مليًّا، وثبت لمَن كان قد ارتاب في أمره أن مِثله لا يمكن على الأقل أن يكون أفَّاكًا يعمل لمغنم، إنما هو رجل صادق مخلص، لا مطمع له من تلك المطامع التي يسعى إليها الناس في هذه الدار! … عند ذاك بدأ كثير من الناس يجلسون إليه ويصغون إلى كلامه … فوسيلة «النبي» الأولى وخطوته التي نزل بها الميدان هما إقناع هذا الخضَم الصاخب من الخلق أنه مجرد عن الغايات الدنيوية، وهنا كانت قوته؛ فإن أمضى سلاحٍ في يد رجل يريد أن يُقارع البشر، هو أن يواجه البشر بيد خالية من مطامع البشر.
ولكن هذا لا يكفي، فالناس قد تقتنع بأمانة النبي وقد تستمع إلى ما يقول، ولكنها لا تستطيع أن تنبذ في يوم وليلة كل ماضيها لتؤمن بهذا الكلام الجديد … إن صَدر الجماهير كصدرِ المحيط العميق ذي الماء الكثيف، يدفع إلى سطحه كل جسم غريب، ولا ينفذ إلى أعماقه إلا شيء ذو وزن، بعد زمنٍ وجهدٍ … وإن الناس لشديدة الحرص على ما تسميه كنوز تراثها وتقاليدها … فما أدراهم أن هذا الكلام الجميل — الذي جاء به هذا النبي، ذو الحديث الطلي — ليس إلا بضاعة زائفة ووهمًا خلابًا، لعب بلُبِّ هذا الرجل الأمين المسكين فريسة مرضٍ ومس؟ … ما هو الأجدر بهم عندئذٍ؛ يطلبون الطب حتى يبرأ، أو يلقون بكنوزهم ويتبعون حلمه ومسَّه؟ … لقد وضعت المسألة إذَن وضعًا آخر، واتخذت الحرب ميدانًا جديدًا … ماذا يصنع النبي؟ … لا بدَّ له من أن يُبدد ضباب الشك المخيم على الأذهان، حتى يصل إليها نور الدين … هنا صفتان لازمتان الصبر والمثابرة؛ فإن العاقبة في الحرب لمَن صبر وصابرَ وثابر! … وإن أمامه لخِصمًا جديدًا، وهو الشك الذي يقوم الآن في رءوس الناس، كان حقيقة رجلًا عظيمًا فليقتل هذا الشك بمفرده، وما هو بشكِّ رجل واحد، إنما هو شكُّ أمة طامية!
ولقد جاهد الرسول فعلًا في كل لحظةٍ من لحظات حياته، إلى أن استطاع ذات يوم أن ينقل العقيدة التي في قلبه حارَّة قوية، إلى قلوب الناس جميعًا، وهنا كان النصر الأخير وتمَّت المعجزة، وتمكَّن هذا الرجل الواحد أن يضع العالم في قبضته ويُخضعه لفكرته، ويطبعه إلى أبد الآبدين بخاتمه، ويُدخل إلى صدره أشعة نور جديد!