دولة العُميان
إنها ليست على مثال تلك الدولة من العميان التي صوَّرها الكاتب الإنجليزي «ويلز» في إحدى قصصه … فدولته تسير على الأقل تبعًا لمنطق خاص … وتجري الحياة فيها على نهج متواضع عليه … أهلها لا يبصرون بعيونهم حقيقة … ولكنهم استعاضوا عن العين بحواسَ أخرى أظهرت لهم حقائق الوجود في أشكال جديدة، وأنشأت لهم مجتمعًا قائمًا على قواعدَ خاصةٍ به … قد يُنكرها الغريب عنهم، ويعجب لها غير الخاضع لظروفهم … ولكنها في محيطهم هم طبيعة صادقة معقولة … تعهدتها يد الخبرة والعناية، وأدارتها في فلك الأيام متسقة منتظمة مصقولة … لا تلمح في بنائها ثغرة تنمُّ عن عبث أو فوضى أو خرق أو هوس!
أما دولتنا التي نتحدث عنها هنا فمختلفة كل الاختلاف … فالعمى فيها من نوعٍ معروفٍ … وهل سمع أحد حتى الآن عن أعمى لا تدرك يده اليمنى ما تصنعه يده اليسرى؟! … هذه العجيبة قد وقعت … ولم تقع مرة … ولكنها تقع كثيرًا … وتكاد تكون من الظواهر العادية التي تحدث في كل يومٍ … ولعل أكثرنا ما عاد يعجب لحدوثها … وهل دهش كثير من القُراء وهم يطالعون خبر تلك المصلحة التي تملك قطعة من الأرض مناصفة مع مصلحة أخرى، فأجَّرت الأولى نصيبها لإحدى الشركات بسعر ٣١٥ جنيهًا للفدان بينما أجَّرت المصلحة الأخرى نصيبها لذات الشركة بسعر ٢٠ جنيهًا للفدان … وظل الأمر على ذلك عشر سنوات، بلغت فيها خسارة الدول ١٤ ألف جنيه … فلما سُئلت المصلحة الأخيرة في الأمر قالت: إنه لم تكن تعرف أن المصلحة الأولى كانت تؤجر نصيبها بذلك السعر المرتفع! … وهاتان المصلحتان الشريكتان تابعتان لحكومة واحدة في دولة واحدة! ولكنها دولة العميان التي لا تعرف فيها اليد اليمنى ما تصنعه اليد اليسرى!
•••
ومثل هذا كثير في هذه الدولة … فبينما تندفع أفواج الطلاب في التعليم الثانوي تطلب أمكنة في بعض المدارس المزدحمة … يهمس نُظَّار بعض المدارس الأخرى قائلين: إن لديهم متسعًا للطلبة وفرجًا … وأولئك لا يعرفون، وهؤلاء لا يتكلمون … والوزارة لا ترى هذا ولا ذاك!
وفي كل عامٍ تطرق أبواب الكليات جيوش من الطلبة، فتوصِد دونها الأبواب، كأنها جيوش كلابٍ تهجم على طعام لا حقَّ لها فيه … وما من أحد يُسائِل نفسه: ما مصير هؤلاء المطرودين؟ … وإذا نجحنا في نفض أيدينا منهم هذا العام، فماذا نحن فاعلون بأضعافهم فيما يُستقبَل من أعوام؟ … في دولة العُميان: لا حساب للغد، ولا إدراك للزمن!
وفي كل جهة من جهات الحكومة موظفون، لهم عين المؤهلات ويقومون بعين العمل … ولكنهم في هذه المصلحة يقبضون أجرًا ملائمًا … وفي مصلحة أخرى ينالون أجرًا لا يمسك الرمق … فإذا أبدَوا العجب لهذه الفوضى سمعوا ألفاظًا غريبة … مثل «الكادر» و«التنسيق» … وغير ذلك من هذيان العميان!
وفي كل ناحية من نواحي الإيراد أناس يدفعون للدولة ضرائب وأناس لا يدفعون … وربما كان الذي لا يدفع هو الأقدر على الأداء؛ فإذا بحثنا في النِّسب والمقاييس، التي يؤدي بمقتضاها الناس ضرائبهم، وجدنا عجبًا من التخبط وضياع العدالة! … فأيدي الدولة هنا لا تدري في أي جيبٍ توضَع … وإذا دخلت بالمصادفة في جيب من الجيوب، لا تعرف كم تدفع وكم تأخذ!
ما العلاج لهذه العاهة المتمكنة في هذه الدولة … تلك العاهة التي أدَّت إلى ثورة الطوائف وتخبُّط النظام؟!
لو كان الأمر بيدي لأشرتُ بصنع «عينٍ» مهمتها أن تُبصر لهذه الدولة، وأن تربط أعضاءها بعضها ببعض، وأن ترى لها الطريق اليوم وفي المستقبل … ولنطلق على هذه العين اسمًا من تلك الأسماء المألوفة لدينا … فليكن اسمها مثلًا: «وزير الخطط» أو «وزير المشروعات» أو «وزير التناسق الحكومي»! … لا تتبعه وزارة من هذه الوزارات المعروفة … ولا يكون هو على رأس وزارةٍ من النوع المعروف، لكنه يوضع في مكان مستقل … مع جملة من الخبراء والأخصَّائيين يرسمون خريطة دقيقة لا تَحيُّز فيها ولا محاباة … يوضع فيها كل موظف وكل فرد وكل عامل وكل ممول وكل منتج في مكانه الذي يكفل له الإنصاف في الحقوق والواجبات، ويدرسون حاجة البلاد في كل مرافقها، في حاضرها ومستقبلها ويضعون الخطط الثابتة، ويُهيئون المشروعات للسنوات الخمس أو العشر … في التعليم والري والزراعة والتجارة والصناعة … إلخ!
إنَّ في تولي هيئة واحدة بحثَ هذه المشروعات — جملة في دار واحدة — أكبر ضمانٍ للتناسق والنظام، لأن كل هذه الفروع المختلفة في الظاهر مرتبطٌ بعضها ببعض في الباطن … لقد قيل إن فتح أبواب التعليم على مصَارِيعها في بعض الكليات لا يؤدي في مصر إلى خير … لماذا؟ … لأن النشاط التجاري أو الصناعي الذي يُستوعب في أوروبا أكثر الخريجين، متخلِّف في بلادنا عن النشاط العلمي النظري!
لا بدَّ إذَن من إيجاد نوعٍ من التنسيق بين نشاطنا التعليمي ونشاطنا الاقتصادي … وقُل مثل ذلك في كثيرٍ من نواحي خططنا ومشروعاتنا التي تحتاج إلى دراستها جملة، وتحت قيادةٍ واحدة، حتى لا يؤدي البحث والتنفيذ إلى ذلك التخبط الذي نرى صدامه كل يوم بين وزارة ووزارة!
كارثتنا هي أن كل وزارةٍ لا ترى في الوجود إلا نفسَها … فهي تضع مشروعاتها مستقلة، وقد عصَبَت رأسها بقناع، فلا ترى عينها العمياء شيئًا … ولا تمسُّ يدها إلا ورق ملفاتها هي.
وسيظل الحال هكذا طويلًا في دولة العميان، إلى أن نفطِن آخر الأمر إلى ضرورة إيجاد تلك «العين» التي تُشرف من علٍ على أمورنا جملة، ببصر حادٍّ نافذ خبير!