المرأة والعظمة
سألتني إحدى المجلات عن النساء العظيمات في مصر اليوم، فذكرت أربعًا تصلح كل واحدةٍ منهن أن تُمثل ناحية من نواحي العظمة في المرأة: الأولى والثانية معروفتان، والثالثة والرابعة مجهولتان! … الأولى والثانية رمز لعظمة المرأة الشرقية في المحيط العام، والثالثة والرابعة رمز تلك العظمة في المحيط الخاص!
- الأولى: تلك التي شاركت زوجها العظيم في قيادة حركة تحرير البلاد، وتعرضت معه لكل الأخطار، وقالت له في شجاعة يوم علمت أن الشجاعة قد تكلفه الحياة: «امضِ في طريق الجهاد وأنا معك!» … وحملَت عنه وهو في منفاه لواء الثورة وقاسمته إلى وفاته بيض الأيام وسودها ثم بقيت وحدها بعده رمز الأمة المتحدة، لا تميل إلى يمين ولا إلى شمال، وتعصف حول أقدامها عواصف الحزبية وهي شامخة، كأنها «الوحدة القومية» صُبَّت في تمثال … إنها بقيت جديرة بزوجها في حياته ومماته، بل إنها بقيت تُذكرنا ببعض معاني العظمة في وقتٍ نُسيت فيه كلمة العظمة في ميادين السياسة القومية!
- الثانية: تلك التي قادت حركة تحرير المرأة في مصر والشرق، وجاهدت جهادًا متصلًا في سبيل الرقي بمستوى المرأة المصرية الاجتماعي، وبذلت جهدها ومالها ووقتها في إقامة المنشآت العامة التي تنفع الفتاة والمرأة! … ولقد خالفتُ هذه الزعيمة في بعض الآراء. لكن مهما يكن من أمر خلافنا في الوسائل والتفاصيل؛ فإني متفقٌ معها في الغاية والغرض الأسمى … وهو رُقي المرأة المصرية والشرقية. من أجل ذلك لا يسعني إلا أن أعترف بعظمة هذه السيدة التي تُكرِّس حياتها لمثل هذا الهدف العظيم، وأرجو مخلصًا أن تنجح في رسالتها وأن يُنصفها التاريخ، الذي هو لا شك مُثبِتها على كل حالٍ في سجل العظيمات!
-
الثالثة: تلك التي لا يعترف بعظمتها سواي، لأنها مجهولةٌ كالجندي المجهول، وهي مثله تُمثِّل
فئة تجاهد في الظلام جهاد الأبطال، فقد أتاحت لي الظروف، أن أعرفها وأراها عن قُرب. رأيتها
وهي
تُهذب أطفالها وتُنشئهم على حب المُثل العليا. لقد كانت تجمعهم كل ليلةٍ عقب العشاء لتقُصَّ
عليهم
قَصصًا لذيذًا مما تطالعها أثناء فراغها، تختاره من ذلك النوع الممتلئ بالبطولة الخلقية
والفضائل
الإنسانية. ولم يكن أطفالها وحدهم هم الذين يلذُّ لهم هذه القصص، بل زوجها أيضًا الذي
كان يُبكر في
العودة، حاملًا الحلوى، ليصغي إليها مع الأطفال … لقد كانت هذه السيدة إلهة ذلك البيت
بالمعنى
العظيم لتلك الكلمة … ولقد كانت المُعِينة لزوجها في كل شيءٍ الناصحة له في كل أمرٍ …
إذا شذَّ
يومًا عن نُصحها ضل! … لقد تحمَّلت معه قسوة الحياة منذ اليوم الأول، وذاقت معه مُرَّ
الكأس،
وكان نصيبها أكثر من نصيبه … أما حلوها فما كانت تسمح لنفسها منه إلا بالأقل … وكانت
ذكية قوية
الإرادة تتقن كل عمل، وتحب أن تحذق كل شيء يقع في محيط حياتها.
لقد أدارت بيتها خير إدارة، بل أدارت مزرعة زوجها خيرًا منه، يوم اضطرتها الظروف إلى هذا العمل. ولقد شاهدت أولادها يشبُّون على مبادئ الخلق القويم والرجولة الكاملة التي غرستها فيهم، ورأت زوجها يختِم حياته السعيدة لافظًا اسمها مع النفَس الأخير، فعلمت أنها أدت واجبها كزوجة صالحة وأم مُثلى، مَن هي هذه السيدة؟ … ذلك لا يهمنا ولا يهمها، فحسبُنا أن نعرف أنها امرأة عرفت واجبًا وأدته على الوجه الأكمل! … وهذا ليس بالشيء القليل على هذه الأرض! … وهذا وحده يكفي أن ننحني لها احترامًا، كما ننحني أمام تمثال الجندي المجهول — ذلك البطل المستتر — رمز البطولة المستورة التي لا تقل شأنًا عن البطولة المشهورة!
- الرابعة: تلك التي تريد زوجًا لا كأغلب الرجال بل رجلًا ذا رسالة عامة شاقة، يكافح في سبيل أدائها مُعرِّضًا حياته للنجاح والفشل، وللسلامة والخطر … رجلًا يعيش بمُثل عليا، يرجو أن يُنير بها طريق الناس والإنسانية! … لماذا تريد أن تُقرن حياتها بحياة هذا الرجل؟ لأنها تريد أن تُكرِّس نفسها لهدفٍ عظيم! … إنها إذَن عظيمة النفس … إني أتصور ما تستطيع أن تصنع لزوجها مثل هذه المرأة؟ … إنها ستسهر عليه كما تسهر العين اليقظة على المصباح المضيء، تحرص على استمرار تألُّقه وتمسح عنه الدخان وتملؤه بالزيت من حينٍ إلى حين!