المرأة والحرية
من بين الأساطير الهندية أسطورة معروفة في كل مكانٍ … خلاصتها أن الإله «تفاشتري» عندما خلق الدنيا، تناول في يده العناصر كلَّها، وصنع منها الشمس والقمر والنجوم والجبال والرياح والبحار والأشجار والحيوان … وأخيرًا الإنسان … في صورة الرجل الأول … وجاء ذلك الرجل شاملًا لكل العناصر مستنفِدًا لها صفات غيرها من الكائنات، فأخذ لها من الشمس ضياءها، ومن القمر استدارته، ومن النجوم بريقها، ومن الجبال عنادها، ومن الرياح تقلُّبها، ومن البحار مُيوعَتها، ومن الأغصان مرونتها، ومن الندى دموعه، ومن الورق خِفته، ومن اليمام وَداعته، ومن النمِر قسوته، ومن الطاووس خُيلاءه، ومن النار حرارتها، ومن الجليد برودته.
عجَنَ الإله كل هذه الصفات وصنع من تلك العجينة ذلك المخلوق الذي يُسمَّى «المرأة» وقدَّمه إلى الرجل … هدية تؤنسه وتسره وتُسعده. فتقبَّلها الرجل شاكرًا … ولكن لم يمضِ قليلٌ … حتى رأى الإله ذلك الرجل يأتي إليه شاكيًا: خُذ هديتك! … إنه سلطانٌ طاغٍ … إنه مخلوقٌ لا منطق له … إنه يسير في اتجاهات مختلفة … وطُرق متعارضة … ما يحبه اليوم يكرهه غدًا، وما رفعه أمس خفضه اليوم، من أين جئتَ به؟ … وكيف صنعته؟ … كل المتناقضات فيه … كأنه ثوب مُرقَّع … فيه من كلِّ لونٍ قطعة! … ومن كلِّ مادةٍ بضعة!
فقال الإله: وما الذي يُزعجك من تناقضه وتقلُّبِه، ما دمُت أنت المالك لزمامه؟
فقال الرجل: مَن قال إني المالك للزمام! … لقد قال لي حقًّا إنه جاء لخدمتي ولمصلحتي ولهنائي ولرفعتي … ولكن ما إن استقرَّ في حياتي حتى غدا هو كالسلطة الطاغية في الشعب الضعيف!
فقال الإله: هذا ليس من حقِّه! فقال الرجل هذا هو الذي حدث … إنه لم ينثُر على حياتي رغدًا، ولا نعيمًا ولا هناءً ولا رخاءً! … فهو الأثَرة بعينها، والأنانية قائمةٌ على قدمين! … تُجردني مما عندي لتمتلئ هي وتنتفخ، إن هذا المخلوق سَلبني ما معي ولم يعطني شيئًا! قال الإله: وكيف تركته يفعل؟!
فقال الرجل: لست أدري! … لقد خدَّر إرادتي … واستغلَّ لحظات ضعفي، واغترَّ بإخلاصي وحبي، فجعل يتصرف في أمري ومالي تصرُّف المالك في عبده! … وليته أحسن التصرُّف! لقد استبدَّ برأيه فلم يحفَل بالإصغاء إليَّ، أو يأبه بالتماس المشورة عندي!
فقال الإله: وماذا تريد مني الآن؟ فقال الرجل حريتي … أعطني حريتي، وخُذ هديتك … الطاغية! فقال الإله: لست أنا الذي سلبتك حريتك، حتى أرُدها عليك! … أنت الذي قدَّمتها بمطلق اختيارك إلى هذا المخلوق … الذي تُسميه طاغية! … إني لم أجِد لك أضعف منه لأمنحك إياه … مخلوقٌ — كما اعترفتَ أنت لا عقل له ولا منطق — لا يدري ما يفعل اليوم، ولا ما يتَّجه إليه غدًا، أعطيته لك … لتحكُمه لا ليحكُمك … ولتوجِّهه لا ليوجِّهك … ولتأخذ منه هناءك، لا ليأخذ منك دماءك! … ما دخلي أنا إذا كان العكس هو الذي حدث؟! … ثِق أني لن أجدَ لك أضعف منه حاكمًا لك!
قال الرجل: وماذا أصنع الآن؟
فقال الإله: كافِح! … كن رجلًا! … إني أذكُر يوم خلقتك رجلًا، أني جعلت لك قوة وجلَدًا!
قال الرجل: ألا تُخلِّصني من هذا المخلوق؟
قال الإله: أُخلِّصك منه … على شرطٍ … أن أُخلِّصك في نفس الوقت من قوتك!
- قوتي؟!
- نعم! قوتك التي آثرتُك بها وميَّزتُك … إني ما أعطيتُك القوة عبثًا … إنما أعطيتك القوة لتكافِح بها في سبيل إرادتك! … وما دامت لك إرادة، فلن يسلبَك طاغيةٌ حريتك!
واختفى صوت الإله خلف السُّحب … وترك الرجل وحيدًا، يفكر ويردد: إرادتي؟!
ثم ثاب إلى رُشده أخيرًا … فانطلق إلى بيته لا يلوي على شيءٍ … وقد دبَّر في نفسه أمرًا … فما بلغ أعتاب الدار، حتى رأى ذلك المخلوق الضعيف المتعجرف واقفًا وقفة الزهو، وقد عقد على رأسه الفارغ من العقل، تاجًا من زهر! … وهو يتأهب للصياح بلهجة الآمر، فاقترب منه الرجل، وأمسك بشَعره الطويل الفاحم، وجزَّ منه بسكينٍ خصلات، فتَلَ منها حبلًا أوثق به يديه!
ثم قال: الآن أيُّها السلطان الطاغي، لن تأخذ مني حريتي!