المرأة في شباب النبي
لم يروِ لنا التاريخ أن «النبي العربي» عرَف امرأة، أو تحرك قلبه لامرأة، قبل «خديجة»، فلقد كانت حياته، حتى الخامسة والعشرين، حياة الشاب الهادئ البعيد عن النساء العاكف على عمله، يرعى الغنم في الفلاة ويلجأ إلى التأمل العميق؛ فلم يكن للهو والمرأة حتى ذلك الوقت مكانٌ من اهتمامه أو تفكيره … كل ما ورد مع ذلك من أخبار لهوِ الشباب أنه قال ذات ليلةٍ لفتًى من «قريش» كان معه بأعلى «مكة» يرعيان غنم أهلهما: «أبصر لي غنمي هذه الليلة، حتى أسمر بمكة كما يسمر الفتيان!» ثم خرج، فلما جاء أدنى دار من دور «مكة» سمع غناءً وصوت دفوف ومزامير، فجلس يلهو بذلك الصوت حتى غلبه النعاس فنام مكانه ولم يوقظه إلا مسُّ الشمس، ورجع! … فسأله صاحبه: «ماذا فعلت؟» فأخبره بما كان! … وكان هذا شأنه في كل ليلةٍ من مثل هذه الليالي!
كانت العفة المطلقة إذَن هي صفته الغالبة وقتئذٍ، وكان الزهد والحلم والصبر والتواضع مما ميَّزه عن بقية الشبان، ومما جعل قومه يُسمونه «الأمين».
ما الذي كان يشغل رأس الشاب «محمد» في تلك السن، ما دام اللهو والمرأة لا محل لهما عنده؟ … أتراه كان يحس في قرارة نفسه بمصيره العظيم؟ … نعم، إن هذا الفتى قد شبَّ في عصرٍ شاعت في جوِّه كهرباء غريبة، مشحونة بالأساطير والتنبؤات، عن قرب ظهور نبيٍّ من العرب اسمه «محمد» وكان مصدر هذا النبأ اليهود — أهل الكتاب — والكهان، حتى لقد سارع مَن بلَغه ذلك من العرب، فسمَّى ولده «محمدًا» طمعًا في النبوة! … فهذا الجو الذي نشأ فيه الصبي «محمدٌ» والاسم الذي حمله، والشائعات التي أحاطت به عن ذلك النبي الموعود، كل هذا كان كافيًا من غير شكٍّ في أن يبعثه على التفكير في هذا الأمر منذ الصغر ولعله طمع — هو أيضًا — في أن يكون هو النبي الجديد! … ولعل هذه الفكرة تملَّكت كيانه وطغت على كل شبابه؛ فلم تتسع حياته في ذلك الوقت لشيء آخر!
لقد كان هذا غالبًا شأن أغلب الذين انتظرتهم أقدار عِظام، وتملكتهم منذ شبابهم مُثل عُليا وأحلام، عمَّرت كل أعوام شبابهم، وحلَّت فيها محل اللهو والمرح! … إن كل شابٍّ يعيش مع شبح امرأة جميلة، إلا الشاب الموعود برسالة عظمى، فهو يعيش دائمًا مع شبح المجد المنتظَر!
لعل هذا يفسر لنا بعض الشيء حياة الفتى «محمد»، حتى الوقت الذي لقيَ فيه أول امرأة أحبها: «خديجة»!
وإنَّا لو تأملنا الأمر مليًّا لتبيَّن لنا أنه لم يكن البادئ بالحب! … كل شيء يدل على أن الزواج لم يخطر له على بال، والزوجة والمرأة آخر ما كان يفكر فيهما وقتئذٍ؛ فلقد كان يسير في طريق تأملاته الداخلية وأحلامه العليا، وكأنه لا يمشي على هذه الأرض إلى أن لَحظَته «خديجة» ذات يوم، ولمست كتفه فأفاق قليلًا، ورفع عينيه إليها … نعم! … إنها هي التي كانت ترقبه منذ زمن … وإن لشعورها نحوه جذورًا ممتدة في أغوار قلبها، امتداد عرق الذهب في المنجم العميق!
ما مبدأ هذا الشعور؟ … لعله ذلك اليوم الذي احتفلت فيه نساء قريشٍ بعِيدٍ لهن، وكانت «خديجة» بينهن، عند وثنٍ من الأوثان، فبرز لهن أحد اليهود مناديًا بأعلى صوته:
«يا نساء تيماء! … إنه سيكون في بلدكن نبيٌّ يقال له «محمد» فأيما امرأةٍ استطاعت أن تكون له زوجًا فلتفعل!»
فقذفته النساء بالحجارة، وقبَّحنه، وأغلظن له، إلا «خديجة» فإنها أطرقَت، وكأن شيئًا وقع في نفسها من كلامه، ثم حدث بعد ذلك أن «خديجة» — وقد كان ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام، وتستأجر من أجلها الرجال — أرسلت الشاب «محمدًا» في تجارتها وضاعفت له الأجر، فعاد رابحًا ضِعف ما كانت تربح التجارة على يدِ غيره؛ لأمانته واجتهاده … وقصَّ عليها عندئذٍ غلامها «ميسرة» — وقد رافق «محمدًا» في رحلته — ما رآه من الشاب المستقيم الأمين!
ولعله أخبرها فيما أخبر أن أحد الرهبان قابله، وأنهما تذاكرا مليًّا في أمر النبي الموعود المسمَّى «محمدًا»! … كل هذا مع ما تشبَّعت به الأذهان من أساطير النبوة المنتظَرة قد ألقى في رُوع «خديجة» أنها أمام شابٍّ لا يبعد أن يكون هو النبي الموعود! … فإذا أضفنا إلى كل هذا أن «محمدًا» كان فتًى في الخامسة والعشرين كريم الخلق جميل المنظر … وأن «خديجة» كانت امرأة في الأربعين أدركنا أن مثلها كان لا بدَّ له أن يحب مثله! … وهل يمكن أن نسمِّي هذا الشعور باسمٍ آخر غير «الحب» … ذلك الذي يدفع امرأة ذات شرف وثروة أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو فتًى فقير يتيم؟ … هي التي قد تَقدَّم إليها أكرم رجال قريش نسبًا وأعظمهم شرفًا وأكثرهم مالًا، طلبوها وبذلوا الأموال، فلم تلتفت إليهم وأرسلت تابعتها «نفيسة» في خفاءٍ إلى الشاب «محمد» تعرِض عليها يدها!
منبع الحب إذَن كان قلب «خديجة»! … ولقد كان هذا الحب ساميًا قويًّا عظيمًا فاستطاع أن يفتح قلب «محمدٍ»، وأن يملأه كل تلك الأعوام التي عاشتها «خديجة»، بل إن هذا الحب لم ينطفئ بموت «خديجة»، ولقد ظل مكانها من قلبه قائمًا دائمًا، لم تستطع قط امرأةٌ أن تزاحمها فيه! … هذا هو حب «محمد» الأول! … وتلك ناحيةٌ من نواحي الفضل المجهول لم يذكرها الناس كثيرًا ﻟ «خديجة» بما هي أهله من التكريم والتمجيد: إنها أول امرأة علَّمت محمدًا «الحب»!