بين الخالق والناقد
حقيقة أذكرُ أنك كنتَ عازمًا على نقد كتابي «محمد»، فما الذي منعك؟ وأذكر أيضًا أنك أفضيت إليَّ بخوفك أن يسيء بعض رجال الدين فهمَ مرادك، فأُضارَّ أنا بذلك، وهي عاطفة نبيلة حمدتُها لك … على أني فيما أذكر أيضًا قد شجعتكَ على المُضي في نقدك، وهو في جملته لا يؤيدني، بل إني قد وافقتُك عليه معجبًا بفراستك مقدِّرًا لبراعتك في الوقوع من فورك على المواطن التي يجوز فيها النقد والكلام؛ فأنت ترى أن المؤلف لم يغضب، بل ابتسم واغتبط ليقظة الناقد!
في الواقع أني لست أومن كثيرًا بتلك الأسطورة التي تُروى عن غضب المؤلفين، واسمح لي أن أتكلم بلسانهم فأقول: إن هذا الغضب لا يجد سبيلًا إلى نفس الكاتب، إلا إذا شَعرَ من ناقده بعزوفٍ عن الحق والجِد، ونزوع إلى الحط من القدر، مُبطن بسوء القصد! … فالناقد الذي يحترم شخصي ويهدم عملي لا يغضبني؛ لأني أعلم أن الأديب لا يهدمه النقد، فهو كائنٌ ممتازٌ لا يُهدم، ولا يُقبض إلا بإذنه، ولا يُقضى عليه إلا بإرادته! … إن الأديب لا يموت مقتولًا، بل يموت منتحرًا … ومع ذلك لا أحب للمؤلفين أن يغضبوا على أي حال؛ فإن الغضب علامة الضعف الآدمي، ولا شيء في الوجود أقوى من الابتسامة، ولكن مَن ذا الذي أعطى القدرة على الابتسام الصافي الجميل، في كل موقفٍ وفي كل حين؟ … أهو الجبار وحده؟ … ألا ترى معي أن الجبروت إنما هو الصفاء؟ … «إذا أردت أن تسلك طريق السلام الدائم، فابتسم للقدر إذا بطش بأحد»! … تلك كلمة ﻟ «عمر الخيام»، وضعتُها في صدر كتابي «عصفور من الشرق» الذي لم أكتب منه في سنوات ثلاث أكثر من ثلاثة فصول، وإنك لتعجب إذا قلتُ لك إن هذا البُطء أو هذا العجز مرجعُه علة واحدة، قد انكشفَت لبصيرتي آخر الأمر؛ عدم استكمال الصفة العليا التي يرتديها بعض رهبان الفكر، كما ترتدي المسوح؛ الصفاء!
إن كنت من رأيي في كل هذا فإن لي عندك حاجة؛ أن تنثر معي تلك الابتسامة بين الأدباء؛ فإن الأدب شيء جميل، هو جنةٌ لا صخب فيها، وهو معبدٌ لا تدخله الأحقاد … إن أعجب ظاهرة في أدبنا أنه لا توجد فيه صداقات عظيمة جديرة أن يتحدث عنها تاريخ الأدب، تلك الصداقات التي نراها في آداب الحضارات الكبرى قد أنتجت من الرسائل والأخبار والآثار ما لا يقوَّم بمال! … ما الذي يُعوِزنا نحن؟ … أهو شيء في الخلق … أم هو ضعف في النفس … أم هو نقص في الثقافة؟ … لست أعلم! … إنما الذي أعلمه أن الصداقة الخالصة بين رجال الأدب والفكر، هي أظهر دليل على نُضج هذا الأدب، وهذا الفكر!
من رسالة إلى «أحمد أمين»