منظومة أسرار خودي
يستطيع النَّاقد البصير أن يجد في شعر إقبال، الذي أنشأه في صباه قبل سفره إلى أوروبا لُمعًا من فلسفته، وشررًا من ناره التي اشتعلت فأضاءت من بعد. وتتسع هذه اللمع ويكثر هذا الشرر على مر الزمان حتى ينشر أول دواوينه الفلسفية «أسرار خودي» سنة ١٩١٥م فيتجلى مذهبه، وتتضح طريقته في الفلسفة والشعر. إنَّ نشر منظومة «أسرار خودي» حدٌّ بين عهدين؛ فالشعر الذي نُشر قبلُ فيه نفحاتٌ من فلسفته، ونفحاتٌ من شعره متفرقة غير جلية.
ويتضمن هذا الشعر ديوان «بانگ درا»؛ صلصلة الجرس.
وأسرار خودي تمتاز بأنها منظومة واحدة على القافية المزدوجة. فيها فصول يوضح فيها إقبال فلسفته في الذات فكرةً بعد فكرة، ولكن هذه الفلسفة ممزوجة بالشعر، عليها رونقه ومعها أخيلته وصوره. فهي فلسفةٌ فيها شعرٌ.
ويُكمِّل هذا الديوان ديوانه الثاني الذي نشره سنة ١٩١٨: «رموز بي خودي».
والدواوين التي أُنشئت بعدُ شعرٌ في موضوعاتٍ شتى، وصورٌ لا ينالها حَصرٌ، ولكن فلسفته تشيع فيه ظاهرة خفية، وصريحة ومكنيَّة. ويسوغ أن نصف هذه الدواوين بأنها شعرٌ فيه فلسفة.
نُشرت منظومة أسرار خودي سنة ١٩١٥، فثار الناسُ لها بين راضٍ وساخط، ومستحسن ومستنكر، بل بين مصفق طربًا يثني معجبًا، وصائحٍ يتعجبُ ويستنكر، ويُدْبر، وينفر. وقبل أن أُبيِّن كيف تلقى الناس فلسفة إقبال كما بيَّنها في كتابه «أسرار خودي» أُثبت خلاصة المقدمة المنثورة التي صدَّر بها إقبالٌ كتابه.
•••
هذا حقٌّ لا ريب فيه. وهذا في الحقيقة، ما دعاني إلى كتابة المثنوي «أسرار خودي». وأنا منذ عشر سنين في هم وتفكير من أجل هذا الموضوع.
فقد لبث إقبال سنين يُفكر في حال المسلمين، ويُمعِن النظر في أسباب ضعفهم، ويجيل الفكر في ماضي الأمم وحاضرها، ويقرأ فلسفتها حتى انتهى إلى مذهبه الذي أبان عنه في منظومته هذه: «أسرار خودي».
قدَّم الشاعر لهذه المنظومة مُقدمة منثورة مُجملة بحث فيها في نفس الإنسان ومذاهب الأمم فيها، وفي العمل واختلاف الفلسفات فيه.
وحذف الشاعر هذه المقدمة بعد الطبعة الأولى، ولكنها على إجمالها تُبين المذهب الفلسفي الذي ذهب إليه الشاعر حين نظم كتابه، وتجمع للقارئ ما انتثر في هذا النظم من آراء.
هذه الوحدة الوجدانية أو نقطة الشعور المنيرة التي تستنير بها أفكار الإنسان وعواطفه ورغباته، أمرٌ تُحيطه الأسرار، ينظم ما في فطرة الإنسان من كيفيات متفرقة غير محدودة.
إن سيرة الأفراد والجماعات موقوفة على جواب هذا السؤال … ولكن جواب هذا السؤال لا يتوقف على المقدرة الفكرية في الآحاد والجماعات، كما يتوقف على طِباعها وفِطرتها. فأمم الشرق المتفلسفة أميل إلى أن تعتبر «أنا» في الإنسان من خداع الخيال. وهي تُعد الخلاص من هذا الغُلِّ نجاة. وميل أهل الغرب إلى العمل ساقهم إلى ما يلائم طباعهم في هذا البحث.
اختلطت في عقول الهنادك وقلوبهم، النظريات والعمليات اختلاطًا عجيبًا. ودقَّقَ حُكماؤهم في حقيقة العمل، وانتهوا إلى هذه النتيجة: إن حياة «أنا» المسلسلة، وهي أصل المصائب والآلام، منشؤُها العمل، وإن حالة النفس الإنسانية نتيجة محتومة لأعمالها.
ولا ريب أن آراءهم جديرةٌ بالإعجاب من جهة الفلسفة، ولا سيما جُرأتهم على قبول كل نتائج القضية، وقولهم إنه لا سبيل إلى الخلاص من شرك «أنا» إلا ترك العمل.
ولكن في هذا خطرًا عظيمًا في حياة الواحد والجماعة. فلم يكن بدٌّ من أن يظهر في الهند مجدد يُبين حقيقة المقصود من «ترك العمل». وكان هذا المجدد شري كرشن. فقد بيَّن أن ليس المقصود ترك العمل حقًّا، فالعمل مُقتضى الفطرة وفيه قوة الحياة، بل المقصود ألا يربط قلب الإنسان بالعمل ونتائجه. وتبع هذا المجدد آخر هو شري رام نوج، ولكن جاء على أثرهما شري شنكر أجاريه فخالفهما، وحرم الناس من ثمرات هذا التجديد.
خاطب فلاسفةُ الهند العقل في إثبات وحدة الوجود. وخاطب شعراء إيران القلب، فكانوا أشدَّ خطرًا وأكثرَ تأثيرًا، حتى أشاعوا بدقائقهم الشعرية هذه المسألة بين العامة، فسلبوا الأمة الإسلامية الرغبة في العمل.
ولعلَّ شيخ الإسلام ابن تيمية — من علماء المسلمين، وواحد محمود من فلاسفتهم — أول من رفعوا الصوت باستنكار هذه النزعة، ولكن مصنفات واحد محمود لا تُلفى اليوم. ولا ريب أن منطق ابن تيمية القوي أثَّر أثره، ولكن جفاف المنطق لا يقوى على مقاومة نضرة الشعر وفتنته.
وقال الشيخ علي حَزين: إنَّ التصوف جميلٌ في الشعر؛ فدلَّ على أنه عرف حقيقة الأمر. ولكن أقواله تدل على أنه لم ينج من تأثير بيئته. فكيف كان الفكر الإسلامي في الهند يستطيع المحافظة على نزوعه إلى العمل؟
استولت على مرزا بيدل لذَّة السكون، فلم يستحسن حتى طرفة العين. يقول:
وللشاعر تمتنا بيتٌ يقول فيه:
وتمتاز أمم الغرب بين أمم العالم بميلها إلى العمل. فآراؤهم خير دليل لأمم المشرق إلى فهم أسرار الحياة.
والحقُّ أن لأفكار الإنكليز العملية فضلًا على أمم الأرض كلها. فإن «إحساس الواقعات» عندهم أحدُّ منه عند الأمم الأخرى؛ ولهذا لم يرُجْ في بلاد الإنكليز حتى اليوم كل نظام فلسفي من نسج الفكر لا يثبت في ضوء الواقعات.
هذه خلاصة تاريخ المسألة التي هي موضوع هذه المنظومة. وقد اجتهدتُ أن أُحرر هذه المسألة الدقيقة من تعقيد الأدلة الفلسفية، وألوِّنَها بألوان الخيال ليتيسَّر إدراك حقيقتها.
ولم أقصد بهذه الديباجة إلى تفسير هذه المنظومة. ولكن أردتُ أن أدل على الطريق من لم يُلِم من قبلُ بدقائق هذه المسألة العسيرة.
ولا ينبغي هنا أن أتناول هذه المنظومة من حيث الشعر، فإنما خيال الشعر فيها وسيلةٌ إلى توجيه الناس إلى هذه الحقيقة.
إن لذة الحياة مرتبطةٌ باستقلال «أنا» وبإثباتها وأحكامها وتوسيعها. وهذه الدقيقة تُمهِّد إلى فهم حقيقة «الحياة بعد الموت».
وينبغي أن يعلم القُرَّاء أنَّ لفظ «خودي» لا يُستعمل في هذه المنظومة بمعنى الأثرة كما تُستعمل في اللغة الأرديَّة غالبًا. إنما معناها الإحساس بالنفس أو تعيين الذات. وهي بهذا المعنى في كلمة «بيخودي» كذلك.
هذه خلاصة المقدمة المنثورة التي أثْبَتها محمد إقبال في الطبعة الأولى لأسرار خودي، ثم حذفها في الطبعات التالية.
وقد كتب الأستاذ نكسلون المستشرق الإنكليزي، مترجم مثنوي جلال الدين الرُّومي ومترجم أسرار خودي إلى الإنكليزية؛ إلى إقبال يسأله أن يكتب مقالًا يُوضح فيه مذهبه؛ فكتب إليه مقالًا أجمل فيه فلسفته، فأثبت نكلسون بعضه في مقدمة ترجمته لأسرار خودي. والمقال أحسن مُقدمة لهذه المنظومة ولفلسفة إقبال كلها.
يرى بريدلي أن هذه المراكز المحدودة ليست إلى مظهرًا. وفي فلسفته أن ثبوت الحقيقة بعمومها. فالحقيقة في نفسها مُحيطة. وكل محدود إضافي لا مطلق. فهو خداع نظر. كل شيءٍ في الكائنات محدود، فهو إضافي فهو باطلٌ.
فمذهب الأستاذ بريدلي أن كل مركز للشعور محدود، أي كل ذاتٍ مُفردة، خداع نظر وباطلٌ. وأنا أقول، على خلاف هذا: إن مركز الشعور المحدود الذي لا يدرك «الذَّات» هو حقيقة الكائنات. فالذات حق لا باطلٌ.
الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي. حيثما تجلت الحياة تجلَّت في شخص أو فرد أو شيء. والخالقُ كذلك فرد ولكنَّه أوحد لا مثل له.
وظاهر أن هذا التصور للكائنات يُخالف كل المخالفة ما ذهب إليه شُرَّاح فلسفة هيگل من مُحَدِّثي الإنكليز، ويخالف أصحاب وحدة الوجود الذين يَروْن أن مقصد حياة الإنسان أن يفني نفسه في الحياة المطلقة أو «أنا» المطلق كما تَفْنى القطرة في البحر.
أرى أنَّ هدف الإنسان الدِّيني والأخلاقي إثباتُ ذاته لا نَفْيُها، وعلى قدر تحقيق انفراده أو وحدته يقرب من هذا الهدف.
قال الرسول ﷺ: «تَخَلَّقوا بأخلاق القرآن»، فكلما شابه الإنسان هذه الذات الوحيدة كان هو كذلك فردًا بغير مثيل.
إننا نسأل ما الحياة؟ وواضحٌ أنَّ الحياة أمر فردي. وأعلى أشكاله — التي ظهرت حتى اليوم — «أنا» وبها يصير الفرد مركز حياة مستقلًّا قائمًا بنفسه. فالإنسان من الجانبَيْن الجثماني والروحي مركز حياة قائمٌ بنفسه، ولكنَّه لمَّا يَبلغ مرتبة الفرد الكامل.
وتنقص فرديته على قدر بعده من الخالق. والإنسان الكامل هو الأقرب إلى الله، ولكن ليس القصد من هذا القرب أن يفنى وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الإشراق، بل هو — على عكس هذا — يُمثل الخالق في نفسه.
وقد بيَّن جلال الدين الرومي هذه النقطة بيانًا حسنًا؛ إذ قال: إن حليمة السعدية حاضنة الرسول ﷺ افتقدته يومًا وهو طفلٌ ففزعت وتولَّهت، فسمعت من الغيب هذا النداء: «لا تحزني فلن تفقديه، بل العالم كله يُفقد فيه!»
يعني أن الفرد الكامل والإنسان الحقيقي لا يضلُّ في الكائنات، بل تَضلُّ هي فيه؛ أي تُسخَّرُ له فيتصرَّف فيها.
وأنا أجاوز هذه المنزلة فأقول: يُفقد رضا الحق — الله — في رضاه.
الحياة رُقيٌّ مستمر، تُسخِّر كل الصعاب التي تعترض طريقها. وحقيقتها أن تخلق دائمًا مطالب ومُثلًا جديدة. وقد خُلِقَت من أجل اتساعها وترقيها آلات كالحواس الخمس والقوة المُدركة؛ لتقهر بها العقبات والمشقات.
وأشد العقبات في سبيل الحياة المادة أو الطبيعة، ولكن المادة ليست شرًّا كما يقول حكماء الإشراق، بل هي تُعين الذات على الرُّقيِّ، فإنَّ قوى الذات الخفية تتجلى في مصادمات هذه العقبات.
وإذا قهرت الذات كل الصعاب التي في طريقها بلغت منزلة الاختيار. الذات في نفسها اختيارٌ وجبرٌ، ولكنها إذا قاربت الذات المطلقة نالت الحرية الكاملة. والحياة جهاد لتحصيل الاختيار، ومقصد الذات أن تبلغ الاختيار بجهادها.
(١) دوام الذات أو الشخصية
مركز حياة الإنسان ذات «خودي» أو شخص، أَعني أنَّ الحياة حينما تتجلى في الإنسان تُسمَّى ذاتًا.
وشخصية الإنسان من الوجهة النفسانية حال من التوتر. ودوام الشخصية موقوف على هذه الحال. فإن زالت هذه الحال عقبتها حال من الاسترخاء مُضرة بالذات. فإن يكن في حالة التوتر هذه كمال الإنسان فأول فرض عليه أن يعمل لدوام هذه الحال والحيلولة دون حال الاسترخاء. وكل ما يُمَكِّنُنا من إدامة حال التوتر يُمكِّننا من الخلود.
وهذا التصور للشخصية يقوم معيارًا لقيم الأشياء، أعني أنَّ في ذاتنا معيار الحسن والقبح. وبهذه تُحل مسألة الخير والشر، فما يُقوِّي الذات خير، وما يُضعفها شر. ويجب أن يقوم الدين والأخلاق والفنون بهذا المعيار.
واعتراضي على أفلاطون هو في أصله اعتراضٌ على كل النظم الفلسفية التي تقصد إلى الفناء لا البقاء، والتي تغفل المادة، وهي أكبر العقبات في سبيل الحياة، وتدعو إلى الفرار منها لا إلى تسخيرها والتسلُّط عليها.
وكما تُعرَض مسألة المادة في مبحث حرية الذات، تُعرَض مسألة الزمان في مبحث خلودها.
يقول برجسون: إن الزمان ليس خطًّا ممتدًّا إلى غير نهاية يُحتَّمُ علينا المرور به. فهذا التصور للزمان غير صحيح، فالزمان الخالص لا يدخل فيه تصور الطول، أي لا نستطيع قياسه بمقياس الليل والنهار.
إن خلود الذات أمل، من أراد أن يظفر به فلْيُجِدَّ ويدْأب لبلوغه. والظفر به موقوف على أن نسلك طريقًا للفكر والعمل في هذه الحياة يُعيننا على حفظ حالة التوتر. ولا يستطيع إبلاغنا هذا الأمل دين بوذا والتصوُّف العجمي، وما إلى هذين من نظم الأخلاق الأُخرى. لقد أضرَّت بنا هذه الطرق فأضرعتنا وأنامتنا. إن هذه المذاهب هي الليالي في أيام حياتنا.
وإن قصدنا بأفكارنا وأعمالنا إلى حفظ حالة التوتر في ذواتنا، فأغلب الظن أن صدمة الموت لا تستطيع أن تُؤثر فيها. تعرض بعد الموت حالٌ من الاسترخاء يُسميها القرآن الحكيم البرزخ. وتدوم هذه الحال حتى الحشر. ولا تبقى بعد هذا الاسترخاء إلا النفوس التي أحكمت ذواتها أيام الحياة.
إننا نُقسم الزمان إلى لمحات، فنُدخل فيه مفهوم المكان، فيصعُبُ علينا تسخيره. وإنما نستطيع إدراك معنى الزمان إدراكًا صحيحًا حينما ننظر في أعماق ذواتنا. إن الزمان الحقيقي هو اسم آخر للحياة، وإن الحياة تستطيع المحافظة على حالة التوتر التي حافظت عليها حتى الساعة. ولن نَخلص من عبودية الزمان ما دمنا نُعده أمرًا مكانيًّا.
إنما الوقت المكاني قيد توسلت به الحياة إلى تسخير ما حولها.
(٢) تربية الذات
لا ريب أن الذات تُستحكم بالعشق. ومفهوم العشق هنا واسعٌ جدًّا، ومعناه إرادة الجذب والتسخير، وأعلى أشكاله أن يخلق مقاصده ويجدَّ في نيلها، وخاصة العشق إفراد العاشق والمعشوق، أعني إظهار الانفراد والاستقلال فيهما، وإذا جدَّ الطالب في طلب الأوحد الأسمى ظهر فيه التوحد، ويتحقق ضمنًا توحد المطلوب؛ لأنه إن لم يكن واحدًا مستقلًّا بنفسه لم يسكن الطالب إليه، إنما يمكن عشق شخص أو وجود معين، ولا يمكن لشخص عشق كائن غير مشخص.
وكما تستحكم الذات بالعشق تَضعُف بالسؤال. وكل ما يُنال بغير جهد يُعدُّ سؤالًا، فالذي يرث مال غيره سائل، والذي يتبع أفكار غيره أو يدَّعيها لنفسه سائل.
والخلاصة أنه ينبغي لأجل إحكام الذات أن نخلق في أنفسنا العشق ونجتنب كل ضروب الاستجداء؛ أي البطالة.
إنَّ حياة الرسول ﷺ أسوةٌ حسنةٌ للمسلم، فقد كانت حياته خيرَ مَثَلٍ للسعي الدائم. لقد كانت حياته كلها صورة للعمل.
- (١)
إطاعة القانون الإلهي.
- (٢)
وضبط النفس.
- (٣)
والنِّيابة الإلهية.
والنيابة الإلهية في هذه الدنيا هي أعلى درجات الرُّقي الإنساني. ونائب الحق — الله — خليفةُ الله في الأرض. وهو أكمل ذات تطمح إليها الإنسانية، وهو معراج الحياة الروحي.
تَلتئم في حياة نائب الحق عناصر النفس المتضادة، توحدها أعلى القوى وأعلى الأعمال. فيتوحد فيها الذكر والفكر، والخيال والعمل، والعقل والخصائص الجِبِلِّيَّة. فهو آخر ثمرٍ في شجرة الإنسانية. تحبب إليه الصعاب والشدائد في سبيل رُقيِّ الحياة. وهو الحاكم الحق لبني الإنسان؛ لأن حكومته هي في الحقيقة حكومة الله … ونحن نقترب منه على قدر ارتقائنا. وبهذا القرب تعلو قيمتنا في الحياة.
وأول شرط لظهور نائب الحق أن ترقى الإنسانية في جانبَيْها الروحي والجسمي. فإن ارتقاء الإنسانية يقتضي ظهور أمة مثالية تتجلى في أفرادها في الجملة هذا التوحد الذاتي، وتصلح لأن يظهر فيها نائبُ الحق.
فمعنى سلطان الله في الأرض أن تقوم فيها جماعة شوريَّة يتوحد أفرادها، ويقوم على هذه الجماعة واحد يُمكن أن يُسمَّى نائب الحق أو الإنسان الكامل، وهذا الإنسان الكامل يبلغ ذُروة الكمال التي لا تُتصور فوقها ذُروة.
وقد رأى نطشه — الفيلسوف الألماني المعروف — ضرورة ظهور هذه الأمة المثالية ولكن دهريَّته وإعجابه بالسلطان مَسَخَا فلسفته كلها.
(٣) كيف تلقَّى الناس منظومة أسرار خودي؟
قال بعض الناس لإقبالٍ: أحسنت وأبدعت، عرفتَ الداء ووصفتَ الدواء. وقال آخرون: حِدتَ عن الطريق، ولم يصحبك التوفيق، وأنكرْتَ التصوُّف، وازدريت أئمةَ الصوفيَّة.
وكثُرت المقالات في القبول والرد، والمدح والثناء. وأقصد هنا إلى تَبْيين ما كان لأسرار خودي من أثرٍ في نفوس الناس، لماذا قَبِلها واستحسنها وأُعجب بها وأشاد بناظمها من قبل واستحسن وأعجب وأشاد. ولماذا نفر منها من نفر واستنكرها من استنكر، ولعلَّ في بيان هذا وذاك بيانًا للجديد في هذه المنظومة، والبدع فيما حوته من آراءٍ؛ تلقَّى بعض الصُّوفِيَّة دعوة إقبال في أسرار خودي بالاستنكار والرَّد، إذ وجدوها دعوة إلى «خودي»، وهي كلمةٌ تدل في لُغتها الفارسية على الأثرة والعُجب والأنوية وما يتصل بها. وتُستعمل كذلك في الأردية، فهي دعوة في الأخلاق مُنكَرة، وفي التصوف أشد نكرًا. وقد نقل إقبال «خودي» إلى معنى آخر جعله أصل فلسفةٍ له. فأراد بها الذاتية، وقال في فلسفته: إن العالم قائم بهذه الذاتية، وإن الإنسان بهذه الذاتية يُقَوَّمُ على قدر قوتها وضعفها، بل يخلد أو يفنى باستحكامها أو اضمحلالها، وإن مقصد الإنسان في هذه الحياة معرفة ذاته وتقويتها وتنمية مواهبها واستنباط ما في فطرتها. وليس من الخير في شيءٍ إنكار الذات أو إضعافها، بل هو الشر كل الشر. ولا ينبغي العمل لفنائها ولا الرضا به كما يفعل الهنادك وصوفية العجم — كما يقول إقبال — بل لا تفنى الذاتية في الله تعالى وليس من الخير السعي إلى إفنائها فيه:
ورأى الصوفية في هذا أمرًا نكرًا؛ إذ كان التصوف في زعمهم يقصد إلى إذلال النفس وتذليلها وإماتتها حتى تُؤهَّل للفناء في الله. بل ادَّعَى بعض المجادلين أنَّ إقبالًا يُنكر التصوف، ويدعو إلى محوه.
وزاد الصوفية ثورة على إقبال أنه عمد إلى إمامٍ من أئمَّتهم، وشاعرٍ من أعاظم شُعرائهم، «لسان الغيب حافظ الشيرازي»، فحطَّ من شأنه، وغضَّ من طريقته، ونهى الناسَ عنه وحذرهم منه. كتب في مقدمة المنظومة أبياتًا في حافظ خُلاصتها:
وحذف إقبال هذه الأبيات بعد الطبعة الأولى ووضع مكانها فصلًا عنوانه: «إصلاح الآداب الإسلامية»، بيَّن فيه المعنى الذي قصد إليه حين حذَّر من طريقة حافظٍ وشعرِه ولم يذكر حافظًا. فبلغ ما أراد، وكفى نفسه عداء المعجبين بحافظ المتعصبين له.
نبذٌ من رسائل إقبالٍ إلى المعترضين
وأنقلُ نبذًا من رسائل إقبال إلى المعترضين، وردِّه على مآخذهم وشُبُهاتهم. لعل القارئ يجد في هذه النبذ إيضاحًا لآراء إقبال في التصوف، وتمييزه بين نوعين منه: التصوف الإسلامي والتصوف العجمي، والتفريق كذلك بين التوحيد ووحدة الوجود، ولعله يجد فيه تفسيرًا لما غمض على النَّاظرين من فلسفته، وأجعل هذا تمهيدًا للكلام في فلسفة إقبال عامةً، وآرائه في «أسرار خودي» خاصة.
إني بفطرتي وتربيتي أنزعُ إلى التصوف. وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعًا إليه، فإن فلسفة أوروبا في جملتها تتوجه إلى وحدة الوجود، ولكن تدبر القرآن المجيد، ومطالعة تاريخ الإسلام بإمعان أشعراني بغلطي، ومن أجل القرآن عدلت عن أفكاري الأولى، وجاهدت مَيلي الفطري، وحدتُ عن طريق آبائي.
إنَّ الرهبانية ظهرت في كل أمة، وعملت لإبطال الشريعة والقانون. والإسلام في حقيقته هو دعوة إلى استنكار هذه الرهبانية. والتصوُّف الذي ظهر بين المسلمين — أَعني التصوف الإيراني — أخذ من رهبانية كل أمة وجهد أن يجذب إليه كل نِحلة، حتى القرمطية التي قصدت إلى التحلل من الأحكام الشرعية لم تعدم نصيرًا من الصوفيَّة.
إنَّ اعتراضك، حتى اليوم، لم يعد مقدمة أسرار خودي. فلَم يتناول المنظومة نفسها، وكيف أُعمل قلمي، ولست أدري ما اعتراضك عليها؟ كيف أعمل قلمي في هذا الصدر؟ إنما اعترضتَ على ما حسبته غضًّا من قدر حافظ الشيرازي. ولن يستبين الحقُّ في هذا الأمر حتى يوَفَّى البحثُ حقه …
إنَّ حالة السُّكْر — في اصطلاح الصوفية — تُنافر الإسلام وقوانين الحياة، وحالة الصحو، وهي الإسلام، موافقةٌ قوانين الحياة. وإنَّما قصد الرسول ﷺ إلى إنشاء أمة صاحية — في حالة الصحو؛ ولهذا تجد صحابة رسول الله الصدِّيقَ الأكبر والفاروق الأعظم ولا تجد حافظًا الشيرازي.
هذا بحثٌ طويلٌ تضيقُ عنه هذه الرسالة القصيرة. وسأُفصِّل هذا إن شاء الله حين تتاح الفرصة. ولكن ذكر ابن عربي يُذكِّرُني بمسألةٍ أُبيِّنُها هنا حتى لا يبقى في فكرِك لَبْسٌ.
لا أُنكر عظمة الشيخ وفضله، بل أُعدُّه من كبار فلاسفة المسلمين. ولا أرتابُ في إسلامه، فإنه يحتج على عقائده، كقِدم الأرواح ووحدة الوجود، بالقرآن على حسن نية. فآراؤه على صوابها أو غلطها قائمة على تأويل القرآن. وأما أن تأويله غلط أو صواب عقلًا ونقلًا فمسألة أخرى. وعندي أنَّ تأويله غير صحيح. فأنا أعدُّه مُسلِمًا مخلصًا ولا أتَّبعه في مذهبِه.
وأصل المسألة أن الصوفية أَخطئوا خطأً كبيرًا في فهم التوحيد ووحدة الوجود. ليس هذان الاصطلاحان مترادفين كما توهموا؛ فالأول مفهوم ديني، والثاني فلسفيٌّ محضٌ. ليس التوحيد ضد الكثرة كما يَظنُّ بعض الصوفية، بل هو ضد الشرك. وأما وحدة الوجود فهي ضد الكثرة. وكانت نتيجة هذا الغلط أن عُدَّ من الموحدين طائفةٌ ذهبوا إلى وحدة الوجود — أو التوحيد في اصطلاح فلسفة أوروبا الحاضرة — على حين أنَّ المسألة التي ذهبوا إليها لا تتعلق بالدين بل بحقيقة نظام العالم.
إنَّ تعليم الإسلام واضحٌ بيِّنٌ؛ هو أنَّ ذاتًا واحدةً تستحق العبادة، وأن كل الكثرة التي تُرى في العالم مخلوقة …
ليست عقيدة وحدة الوجود من تعليم القرآن. فإن القرآن يُبَيِّن المُغايرة التَّامة بين الخالق والمخلوق أو العابد والمعبود.
الحق أنَّ التماس معان باطنية في قانون أمة هو مسخٌ لهذا القانون كما يُعلم من سيرة القرامطة. ولا يختار هذه الطريقة إلا أمة في فطرتها الخنوع والمذلة. وفي شعراء العجم جماعة في طباعهم الميل إلى الإباحة. وهذا المَيل في إيران من قبل الإسلام. وقد صدَّ الإسلام حينًا هذا المَيل الطبعي، ثم عاد فظهر حينما وجد فُرصة. فوضع للمسلمين أساس أدب يقوم على وحدة الوجود. وقد افْتنَّ هؤلاء الشعراء في إبطال شعائر الإسلام بأساليب عجيبة خدَّاعة. وأبانوا عن وجهٍ مذموم في كل أمر ممدوح في الإسلام. وأَضرِبُ الجهادَ مثلًا. فقد التمس شعراء العجم معنى آخر في هذه الشعيرة التي يراها الإسلام من ضروريات الحياة. انظُرْ في هذه الرُّباعية:
وهذا جميلٌ في الشعر ولكنه خُدعةٌ لإبطال الجهاد.
وإذا نظرتَ إلى حافظٍ وكل شعراء إيران من هذه الوجهة، بانتْ لك عجائب وغرائب.
هذا طرفٌ مما أجاب به إقبال اعتراض المعترضين. ومن هؤلاء من قنعوا بقراءة مقدمة المنظومة أو الأبيات التي تضمنتها في نقد حافظٍ. ولم يقرءوا المنظومة كلها فيتدبَّروا دعوة إقبالٍ، أو قرءوها ولم يرتقوا إلى الجدال فيها.
•••
وآخرون من زعماء المسلمين في الهند تلقَّوا دعوة إقبالٍ بالإكبار والإعجاب وقدَّروا حاجة المسلمين إليها، وأثرها في أنفسهم. فأشادوا بفلسفة إقبال، وأثنوا عليه بما يستحق.
ومن هؤلاء الزعيم مولانا محمد علي. قال بعد أن نشر إقبال أسرار خودي ورموز بي خودي: إن شعر إقبال يحدو المسلمين في هذا العصر إلى النشأة الثانية.
شرعتُ أنا وأخي شوكت علي في قراءة أسرار خودي، فرأينا ضربًا من الشعر يفوق ما قال من قبل. وحقٌّ أنه بدا لنا أول الأمر فاترًا بجانب شعره الأردي الذي يرمي شعرٌ يبعث الحياة في الجماد …
لقد رأيت أنه في هذا الإبداع جلا حقائق إسلامية لم أدركها إلا بعد مشقة وعناء …
إن الحياة في نظر إقبال صحراء جرداء. وإدراك المرء «ذاته» هو إدراك مقاصد الحياة … لقد بيَّن إقبال رسالة الإسلام وسنته الأخلاقية، وأنحى على نظرية القومية والوطنية عند الغربيين التي تحدُّ تعاون الناس، وتَرمي الأمم في الفرقة والاختلاف.
ما زال بعض الناس يعترضون على إقبال منذ نشر كتابه أسرار خودي؛ إذ جعل أفلاطون اليوناني وحافظًا الشيرازي في فصيلة الغنم. وليس حافظ الشيرازي عندهم شاعرًا عظيمًا فحسب، بل هو وليٌّ مُقدَّسٌ. ولو لم يكتب إقبالٌ عن حافظ ما كتب لكان خيرًا له؛ لأنه عرَّضَ نفسه لطعن الطاعنين، ولأن المسألة الأصلية التي تنفع الأمة حُجبت في غبار هذا الجدال. كما فعل بيرزاده مظفر أحمد إذ نظم «راز بيخودي» ليَرُدَّ على إقبالٍ ما قال عن أفلاطون وحافظٍ، وأغفل الموضوع الأصلي.