المنظومة الثانية
بنى إقبال فلسفته على الذات. ودعا إلى إثباتها وتربيتها وتقويتها، كما يرى القارئ في الخلاصة التي قدمتُها من منظومة «أسرار الذات». عَنى الشاعر في هذه المنظومة «أسرار خودي» بالاعتراف بالفرد، والإيمان بقواه الكامنة، وبما تفعل هذه القوى في هذا العالم إذا أُثيرت.
ثم أكمل إقبال فلسفته بالتأليف بين الفرد القوي أو الذات الكاملة، وبين الجماعة التي يعيش فيها.
يرى إقبال أن الذاتية أو الفردية أساس العالم، وأن الخير كل الخير في تقوية ذات الإنسان، واستخراج ما في فطرتها من قدرة. وكذلك يرى إقبال أن هذه الذات لا تُربَّى وتكمل إلا في الجماعة، وأنَّ عمل الجماعة إن تمكن الفردُ من بلوغ كماله بإظهار كوامن فطرته ومنتهى قدرته.
فالمنظومة الأولى تتناول الذات وتربيتها، ولا تخلو من كلام عن صلة الفرد بجماعته. فإنَّ عسيرًا أن يفصل الباحث أو الشاعر بين الموضوعين فصلًا تامًّا.
والمنظومة الثانية تُعالج الموضوع الثاني: الجماعة، نظامها وكمالها، وتنشئة الفرد فيها. ولا يخلو كلامه في هذا من كلام في الذات كذلك.
وإلى القارئ خلاصة هذه المنظومة «رموز بي خودي»:
- (١)
الأمة تنشأ من اختلاط الأفراد، وكمال تربيتها بالنبوة.
- (٢) أركان الأمة الإسلامية:
- (أ)
الركن الأول التوحيد:
ويستطرد في بيان التوحيد إلى فصول أخرى: أن اليأس والخوف والحزن أُمهات الخبائث وقاطعات الحياة، وأن التوحيد يُزيل هذه الأمراض الخبيثة. ويعقد الشاعر فصولًا أخرى للتمثيل.
- (ب) الركن الثاني للرسالة، وفي هذا العنوان فصولٌ منها:
-
أن مقصد الرسالة المحمدية الحرية والمساواة والأخوة بين بني آدم. ويقص في هذا الفصل قصصًا شتَّى.
-
وأن الأمة المحمدية مُؤسسة على التوحيد والرسالة، فلا يحدُّها مكان.
-
وأن الوطن ليس أساس الأمة.
-
وأن الأمة المحمدية لا يحدُّها زمان، ودوامها موعود.
-
وأن نظام الأمة لا يكون بغير القانون، وقانون أمة محمد القرآن.
-
وأن نضج الأمة باتِّباع الشريعة الإلهية.
-
وأن حسن سيرة الأمة بالتَّأدُّب بالآداب المحمدية.
-
- (أ)
- (٣)
حياة الأمة تقتضي مركزًا محسوسًا. ومركز الأمة الإسلامية الحرم.
- (٤)
الاجتماع الحقيقي لا يكون إلا بمقصدٍ يقصد إليها. ومقصد الأمة المحمدية حفظ التوحيد ونشره.
- (٥)
توسع حياة الأمة بتسخير قوى العالم. وكمال حياة الأمة أن تحس ذاتها كما يحس الفرد، وينشأ هذا الإحساس ويَكمُل بحفظ سنن الأمة.
- (٦)
بقاء النوع بالأمومة. وحفظ الأمومة وتبجيلها من قواعد الإسلام.
- (٧)
السيدة فاطمة الزهراء أسوة كاملةٌ لنساء الإسلام.
- (٨)
خطاب إلى المسلمات.
- (٩)
خلاصة مطالب المنظومة في تفسير سورة الإخلاص.
- (١٠)
مناجاة المصنف الرسول الذي بُعث رحمةً للعالمين.
وأعبرُ مع القارئ هذه الفصول عَبْرًا موجِزًا كل الإيجاز:
(١) التمهيد في ارتباط الفرد والجماعة
يُبين الشاعر العروة الوثقى التي تربط الفرد بجماعته، يبين أن الفرد مرآة الجماعة، والجماعة مرآة الفرد. وهما كالجواهر والسلك، وكالنجوم والمجرة. الجماعة تنتظم بالأفراد، والفرد يقوَّم في الجماعة.
ثم يقول: إن الفرد يغفل عن المقاصد، وتنتشر قوته، فتعلمه الأمة ضبط النفس، وتقيده بالقانون لتحرره.
ويمضي إلى أن يقول: إن الفرد غلط فلم يُميِّز إثبات الذات من نفي الذات. ويُبيِّن له قيمة الذات وقوتها، وكيف تتجلى من خلوتها، فإذا هي مقسَّمة في الجماعة عاملة فيها.
(٢) الأمة تنشأ من اختلاف الأفراد وكمال تربيتها بالنبوة
يُبين كيف تنتظم الجماعة من الأفراد كما يَجذب النجم النجم، ويستحكم الكوكب بالكوكب.
ويقول: إن الجماعة تسير سادرة غافلة، بالمقاصد جاهلة، لا تتجلى قدرتها، ولا تُشحذ عزيمتها، حتى يبعث الله فيها هاديًا:
ويأتي هذا الهادي إلى العقل فيَحْبوه ويَكْسوه ويمدُّه، وينفخ النار في موقده الهامد ورماده الخامد. ويحرر الناس من عبادة الأوثان والبشر ويُعبِّدهم للقانون والسُّنن:
(٣) أركان الأمة الإسلامية
(٣-١) الركن الأول التوحيد
هو الإكسير الذي يُحيل التراب ذهبًا، والسرُّ الذي يتجلى منه الدين والشرع والحكمة والقوة والسلطان. وهو الدواء الذي يُميت الخوف والشك، ويحيي العمل والأمل، ويقهر كل صعب، ويُذلِّل كل عقبة.
كلمة التوحيد هي الروح في أمتنا، هي اللحن في عودنا. وبها الحياة وبها القوة:
ويمضي الشاعر مُبيِّنًا كيف جَمع الناسَ التوحيدُ، وسوَّى بين الأبيض والأسود، إلى أن يقول: إن أمتنا قائمة بالتوحيد لا بالنسب ولا بالوطن.
ثم يتكلم إقبال عن الخوف واليأس وأثرهما في الحياة، ويضرب في هذا المثل بعد المثل.
(٣-٢) والركن الثاني الرسالة
يُبين في هذا الفصل أن الرسالة تجمع أشتات الأفراد وتنظم منها الأمة، فتوحد كثرتها، وتحكم ألفتها. ويقول: إن المسلمين من الرسالة في دائرةٍ مركزها الحرم، ومحيطها غير محدود. ويبين كيف يربط الكتاب الحكيم بعض المسلمين ببعض، إلى أن يقول:
ثم يمضي إقبال في بيانه عن الرسالة حتى يضع هذا العنوان:
مقصود الرسالة المحمدية: المساواة والحرية والأخوة بين بني آدم
فيُبيِّن كيف كان الإنسان عبدًا للملوك والقسِّيسين من النصارى والمجوس والبراهمة، حتى بُعث الرسول صلوات الله عليه، فأعطى كل ذي حقٍّ حقه، وحرَّر الناس ورفع عنهم الآصار، ووضع عنهم الأغلال.
ويضرب مثلًا في الأخوة الإسلامية؛ قصة القائد الفارسي الذي أُسر فاستأمن آسره فأمَّنه، وهو يحسبه جنديًّا من الجند. فلما تبيَّن أنه قائد أراد الجند قتله.
فقال قائد المسلمين أبو عبيد الثقفي: «لقد أمَّنَه واحدٌ منَّا، ونحن سواء.» وهي السُّنة التي سار عليها المسلمون وجاء فيها الحديث: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهم.»
ثم يقص الشاعر قصة أخرى: غضب السلطان مراد العثماني على مهندس بنى له مسجدًا فلم يُعجبه، فضربه فقطع يده. فسار المهندس إلى القاضي فدعا السلطان، وحكم عليه بالقصاص؛ فتقدَّم السلطان خاشعًا خائفًا مادًّا يده للقطع. فعفا عنه المهندس.
وينتهي الشاعر إلى عنوان آخر:
الأمة المحمدية مؤسسة على التوحيد والرسالة فلا يُحدُّ مكانها
ويعقُب هذا العنوان عنوانًا آخر:
الوطن ليس أساس الأمة
يقول فيه: إن العصبيات الوطنية قطَّعت أرحام الأمم. ويُبيِّن كيف هجر النصارى دين عيسى فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
ويذكر مكيافلي الإيطالي وأثره في سياسة أوروبا إلى أن يقول:
ثم يثبتُ الشاعر هذا العنوان:
الأمة المحمدية ليس لها نهاية زمانية
فيُبين، كما يُبيِّن من قبل، أنها أمة لا تفنى، لأنها قائمة على أصول خالدة لا ينال منها تقلب الزمان، وكرور الأيام.
ثم يُبين ما أصاب المسلمين من مصائب، ويذكر فتنة التتار ويصف أهوالها، ثم يقول: ولكن المسلمين سلموا من هذه النار كما سلم الخليل. بادت الأقوام، وفنيت الأجيال، وثبتت الأمة الإسلامية على الخطوب الجسام، والحوادث العظام.
ويمضي الشاعر إلى هذا العنوان:
لا تنتظم أمة بغير شريعةٍ وشريعة الأمة الإسلامية القرآنُ
فيُبيِّن أثر النظام في الأمم، وفي النبات والجماد وغيرهما بيانًا موجزًا قائلًا:
إلى أن يقول:
ويذكر إقبال المسلم العربي الذي ربَّاه القرآن حتى:
ويصل هذا الفصل بآخر يشبهه عنوانه:
نضج سيرة الأمة من اتباع الشرع الإلهي
فيُبين دعوة الإسلام إلى القوة، وتقوية المسلم بالشريعة.
ويقول: إن الشرع يُريدك حين الحرب شعلة تُذيب الصخر.
ويمتحن قوتك بالصعاب، ويضعُ في طريقك العِقاب. ويقول لك انسف الطود بعزمتك، واسحقه بضربَتك. ويَهبك بالعمل عصبًا من حديد.
ويمضي قائلًا: إن المسلم القوي الذي نشَّأته الصحراء، وأحكمته رياحها الهوجاء؛ أضعفته رياح العجم، فصار فيها كالناي نحولًا ونواحًا. وإن الذي كان يذبح الليث كالشاة، تهاب وطء النملة رجلاه، والذي كان تكبيره يُذيب الأحجار، انقلب وجِلًا من صفير الأطيار. والذي هزئ عزمه بشمِّ الجبال، غلَّ يديه ورجليه بأوهام الاتكال. والذي كان ضربه في رقاب الأعداء، صار يضرب صدره في اللَّأْوَاء. والذي نقشت قدمه على الأرض ثورةً، كُسرت رجلاه عكوفًا في الخلوة. والذي كان يُمضي على الدهر حكمه، ويقف الملوك على بابه، رضي من السعي بالقنوع، ولذَّ له الاستجداء والخنوع.
ويلي هذا فصلٌ عنوانه:
حسن سيرة الأمة من التأْديب بالآداب المحمدية
إن فطرة المسلم الرحمة، وللرحمة يده ولسانه في هذه الدنيا. وإن الرسول بُعث رحمة للعالمين، فإن بعُدت عن سُنته فلست منَّا.
أنت طائرٌ في بستاننا، تغرِّد بتغريدنا، فإن تكن ذا نغمة ففي بستاننا فغنِّ بها. كل حي تُهلكهُ العناصر المضادة، فإن تكن بلبلًا ففي الروض طيرانك وتغريدك، وإن تكن عُقابًا ففي الصحاري مسرحك ومصيدك. وإن تكن كوكبًا فأضئ في حباكك ولا تحد عن أفلاكك.
ثم انظر خلاصة الفصل الذي عنوانه:
(٣-٣) حياة الأمة تقتضي مركزًا محسوسًا ومركز الأمة الإسلامية الحرمُ
يبدأُ الفصل قائلًا: أحلُّ لك عقدة من أمر الحياة وأُنبئك بسرِّ الحياة.
إن الحياة طائرٌ لا عشَّ له. إنها ليست إلا الطيران. إنها طائرٌ طليق وفي القفص حبيسٌ، يخلط تغريده بنواحه. الحياة تعقد العقد في أمورها، ثم تحل ما انعقد بتدبيرها.
إن الحياة السريعة تقيد قدمها في الطين، لتزيد لذَّة نمائها وسيرها كل حين. وإن في حرقتها ألحانًا لا تنفَد، وإن وليد يومها الأمس والغد.
هي كالرائحة حركة لا تقر، ولكن تسكن الصدر فتصير نفسًا حيًّا.
عُقَد الحياة فيها ورقٌ وثمرٌ كالحبَّة، تفتح عينها على نفسها فإذا هي شجرة. وتلبس الحياة خلعة من الماء والطين، فإذا هي حواس مُدركة.
كذلك سُنَّة ميلاد الأمم، أن تجتمع الحياة في مركز. المركز من الدائرة كالروح من الجسد، إن خطَّها مضمَر في نقطتها.
بالمركز انتظام الأقوام، وبالمركز يقدر لها الدوام. وإنَّ سرَّنا في الحرم، وفيه بكاؤنا وغناؤنا لا جرم.
بستاننا من نداه زاهرٌ، وزرعنا من زمزمه ناضرٌ. وبه علا في الدنيا صوتنا، ووَصَل قديمَنا حديثُنا. إن التئام الملة البيضاء من الطواف بالحرم. به توحَّدت كثرتُنا، واستحكمت بقيد الوحدة عزيمتنا.
إن الاجتماع روح الأمم، والاجتماع هو السر في هذا الحرم.
يا شاكيًا جور الزمان! ويا أسير الوهم والحسبان! اجعل قميصك ثوب الإحرام، وأطلع الصبح في هذا الظلام، واستغرق كآبائك في السجود، حتى تكون سجدة للواحد المعبود. إن المسلم الأول خضع للخلاق، فسيطر على الآفاق. ومشى على الشوك في سبيل الحق، فأنبت الورد في الغرب والشرق.
(٣-٤) الاجتماع الحقيقي بالسعي إلى المقصد ومقصد الأمة المحمدية حفظ التوحيد ونشره
أُعلمك لغة الكائنات، إن أعمال الحياة حروف واضحة وكلمات.
ويُبين الشاعر أثر المقصد في الأمة كما بيَّن أثر المقصد في الواحد في كتاب أسرار خودي. فيقول: إن مقصد الحياة سر بقائها، وبه يأتلف ما تفرق من قُواها. وإذا تنبَّهت الحياة لمقصدها، وجَّهت أسباب العالم إليه. وتوجهت نحوه تجني وتنتقي وترد. إنما هامَ قيس في الصحراء، من أجل محمل ليلى. وقد هجرنا الصحاري حين سكنت ليلانا المدائن.
وإقبال معجب بالصحراء؛ رياحها وشمسها، وسعتها، والضرب في أرجائها يرى فيها قوة النفس، ومضاء العزم.
إن المقصود هو روح العمل يستمد كل عمل منه كيفه وكمه.
إن نغماته كامنةٌ في موسيقى الكون، وإن هذه الموسيقى لتنتظرك أيها العازف … إن في دمك مئات الألحان، فهيا فاضرب على أوتارها … فإن في التكبير سرُّ كيانك، وحفظ «لا إله» ونشرُها مقصود حياتك.
إنَّ فِكْر الإنسان ناحت صنم، وعابد صنم، يخلق في كل زمان صنمًا. وقد جدَّد اليوم لنفسه أوثانًا من اللون والنسب والوطن.
وإن الإنسانية ذُبحت على أقدام هذه الأوثان، فهيا يا ربيب التوحيد!
وامح بسيف التوحيد هذا الباطل اللابس ثوب الحق.
إني لأرعَد من خزيِك يوم يسألك الرسول: قد أخذت منا كلمة الحق، فلماذا لم تسلمها إلى الخلق؟
ويمضي الشاعر إلى فصلٍ عنوانه:
(٣-٥) توسيع حياة الأمة بتسخير قوى العالم وكمالها أن تحس نفسها كالفرد وتحفظ سننها
يقول: إن هذا العالم مُسخَّرٌ للإنسان، وإن للإنسان فيه جهادًا، وإن لذة الإنسان وكماله في هذا الجهاد. ومن سخر المحسوسات فقد أنشأ عالمًا من ذرة. إن الجبال والصحاري والبحار لوح لأرباب النظر! أيها النائم بالأفيون، والمحتقِر عالم الأسباب. افتح عينك واعرف قدر هذا العالم. إن غايته توسيع «ذات» المسلم وامتحان ممكناته. إن الزمان يضربُك بسيفه، ليُشعرك أن في بدنك دمًا.
وإن الله جعل هذه الدنيا نصيب الأخيار، وجلا محاسنها لعينِ المؤمن.
هذه الدنيا طريق للقافلة، هذه الدنيا امتحان لقوة الإيمان. فسخرها لِئلَّا تُسخِّرك.
إن فكر الإنسان يسبح في العالم ليسخر قواه، ويتصرف فيه فنون التصرف. فاركب الهواء، واصدع الجبال، واستخرج اللؤلؤ من البحار.
إن في هذا الفضاء مائة عالَم، وإن شموسًا كامنة في كل ذرة. فاظهر الأسرار، واكشف الخفايا للأنظار. إن هذه النجوم ثابتها وسيارها، هذه التي اتخذها القدماء آلهة، ليست إلا عبيدًا خاضعة لك، مُسخرة لأمرك.
إن القطرة التي تدرك نفسها، تنقلب في عروق الكرم خمرًا. وعلى أوراق الورد ندى، وفي قاع البحر درًّا.
يا من عيَّ حماره في طريق الحياة، ومن غفل عن معركة الحياة! قد بلغ المنزل رفاقك، وأنزلوا ليلى من محملها، وأنت كقيسٍ في الصحاري هائمٌ.
إن في علم الأسماء «قيمة الإنسان، وإن في حكمة الأشياء قوة الإنسان.»
ويمضي إقبال فيُبين أنَّ كمال حياة الأمة أن تحس نفسها كالفرد، وأن نشأة هذا الإحساس وكماله بحفظ سنن الأمة.
فيبدأ بالحديث عن الطفل، لا يدرك ذاته ولا يعرف إلا أمَّه.
مولع بالرضاع والبكاء والنوم، ومغرمٌ بالطلب والسُّؤال.
فكره في كل أمرٍ، وقابل لكل نقش، وهو عالةٌ على غيره.
«هأنذا كما كنت.» «أنا» هذه فاتحة الحياة، ونغمة اليقظة في موسيقاها.
وكذلكم الأمة الوليدة تنشأ كالطفل، ترى غيرها ولا تُبصر نفسها. وتتقلبُ بها الواقعات حتى تعرف نفسها وتصل بالذكر ماضيها وحاضرها. ويُضيء لها الطريق تاريخها … فإن نسيت واقعاتها ارتكست في العدم.
ويمضي الشاعرُ في بيانه وإحسانه حتى يقول:
(٣-٦) بقاء النوع بالأمومة، وحفظ الأمومة وتعظيمها من قواعد الإسلام
يتكلم في هذا الفصل عن الأم، يُعلي قدرها، ويُبين في الأمة خطرها. ومهما يفض شاعرٌ في الإشادة بالأمومة فقدرُها أكبر، وفضلُها أكثر.
إن المسلم الذي لا يقدر المرأة قدرها لم ينل نصيبًا من حكمة القرآن. إن الأمومة رحمة، ولها إلى النبوة نسبة، وإنها لكاتبة سيرة الأمة. ومن يُفكر في لفظ الأمة والأم تبِن له دقائق الحكم. وقد قال سيد الكائنات: «الجنة تحت أقدام الأمهات.» إن الأمة من صلة الأرحام، والحياة بدونها لا تبلُغ المرام.
وبالأمومة تسير الحياة سيرها، وتجلو أسرارها.
ربما تُنجب بنت الزَّارع الجاهلة، التي لا تُحسن الكلام ولا تبين في الخصام؛ مُسلمًا نجيبًا غيورًا، للحق نصيرًا. إن حياتنا من آلام الأم وصبحنا من ظلامها.
إنَّ ثروة الأمة قادتها الهادون، لا الأمتعة والفضة والذهب. وإن رأس مالها نسلٌ شديد، ذو فكر خصب وعزم حديد. الأمهات للإخوة حافظات، وعلى القرآن والأمة قائمات.
(٣-٧) سيدة النساء فاطمة الزهراء أسوة كاملة للمسلمات
ويقول: قد أدَّبها الصبر والرضا، فهي تتلو الكتاب وتُدير الرحى. كم ذرفت في الصلاة الدموع، من القنوت والخشوع.
لولا نهْيُ الدين، وأمر النَّبيِّ الأمين، لطفتُ حول تربتها وسجدتُ على ترابها.
(٣-٨) خطاب إلى المرأة المسلمة
خِلقتك الطاهرة لنا رحمةٌ، وأنت قوة الدين وحصن الملة. يا من تفطمين فينا الوليد، على كلمة التوحيد، إن حبَّك لينحت أطوارنا، ويُصوِّر أعمالنا وأفكارنا. وبرقنا الذي ربَّاه سحابك الوضاء، غشي الجبال وطوى الصحراء.
يا أمينة على الشرع المبين، إن في أنفاسك حياة الدين.
إن هذا العصر ذو فتون، قافلته تقطع طريق الدين، وقد عمي إدراكه فأنكر الخالق، وقيدت سلاسله كل مارق.
صيده يخال نفسه حرًّا، وقتيله يُسمِّي نفسه حيًّا. لا تسلكي إلا سبيل الآباء، ولا تُبالي بما تلقين من عناء.
احذري الزمان في سيرك، وضمِّي أولادك في صدرك.
هذه العصافير بَعُدت من أعشاشها، قبل أن تطير بها أجنحتها.
يا فِطْرةً نزَّاعةً إلى العلاء، لا تُغمضي عينك عن سيرة الزهراء.
لعل حسينًا في حجرك يُزهر، فيترعرع بُستاننا وينضر.
ويختم الشاعر منظومته بفصلٍ عنوانه:
(٣-٩) خلاصة مطالب الكتاب بتفسير سورة الإخلاص
ولا أجدُ حاجةً إلى تلخيصه، على ما فيه من معانٍ قيِّمةٍ وصور رائعة. وحسبي ما أجملت آنفًا من فصول المنظومتين.
•••
عبرتُ مع القارئ منظومتي الأسرار والرُّموز، واستخلصتُ له مقاصدهما، وأجملتُ له مطالبهما، ودللته بالقليل على الكثير، وبالزهرات على الرَّوض النضير.
آثرتُ أن أَصِل التلخيصَ بالأدب أكثر مما أصله بالفلسفة. وكذلك أراد الشاعر أن يُلبِس فلسفته ثوْبًا من الشعر يُجَمِّلُها ويُقرِّبها إلى القراء.