أوجهٌ أُخرى لفلسفة إقبال
أساس فلسفة إقبال الذاتية، تدور آراؤه على محورها، وتتفرَّع أفكاره من أصلها، ولكن لفلسفته أوجهًا كثيرةً، منها ما عرفه القارئ فيما عرضتُ عليه من فصول المنظومتين أسرار خودي ورموز بي خودي. ومنها ما يتجلَّى في دواوينَ أُخرى، ومنها ما أبانَه في لغة الفلسفة لا الشعر، في محاضرات ومقالات كثيرة.
ولا يَتَّسع المجال لتفصيل القول في أوجه فلسفة إقبال التي لم يرها القارئ فيما أسلفتُ من فصول هذا الكتاب. وقد تَعمَّدتُ أن يكون هذا الكتاب أقرب إلى الأدب من الفلسفة، كما اختار محمد إقبال الشعر لفلسفتِه في معظم أصولها وفروعها.
وحسبي في هذا الفصل أن أعرضَ على القارئ هذا الإجمال.
ذكرْتُ في سيرة إقبالٍ أنه ألقى محاضرات في مدارس وحيدر آباد وعليكرة سنة ١٩٢٨م. ألقاها باللغة الإنكليزية.
- (١)
العلم والدين.
- (٢)
والوحي الديني في معيار الفلسفة.
- (٣)
وإدراك الله ومعنى الصلاة.
- (٤)
والنفس الإنسانية حرِّيتها وخلودها.
- (٥)
وروح الثقافة الإسلامية.
- (٦)
والحركة في العقائد الإسلامية.
- (٧)
وهل التديُّن ممكنٌ؟
هذه محاضرات لا بد لدارس فلسفة إقبال من قراءتها، ففيها آراؤه في موضوعاتٍ عدة مُجتمعة مُرتَّبة في لغة فلسفيَّة.
الإسلام دينٌ يُعنى بالعمل أكثر مما يُعنى بالفكرة.
لا ريب أن طوائف الصوفية الحقة قد عملت كثيرًا في توجيه تطور الإدراك الديني وتحديده، ولكن المتأخرين من الصوفية جهلوا العقل الحديث، فعجزوا عن تقبل الأفكار الجديدة. إنهم يسيرون على طرائق نشأت في أجيالٍ لها وجهة في الثقافة تُخالف وجهتنا في كثير من الأمور.
مثلًا نجدُ في القرآن الكريم: مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. فإدراك الوحدة الحيوية التي تعنيها هذه الآية يحتاج إلى نظراتٍ طبيعية ونفسانية غير التي ألفوها.
دعت إلى هذه المحاضرة الجمعية الإسلامية في مدراس وألقيتها في مدراس وحيدر آباد وعليكرة. وقد حاولت فيها أن أسد حاجة المسلمين بعض السداد، حاولت أن أُجدد بناء الفلسفة الإسلامية مُراعيًا سنن الإسلام الفلسفية، وأحدث ما بلغته المعرفة الإنسانية. ولا شك أنَّ هذا الوقت ملائم لهذه المحاولة.
إن علم الطبيعة تعلم أن ينقد قواعده. فأدَّى هذا النَّقد إلى أن اختفت هذه المادية التي جعلها العلم الطبيعي ضرورية أول الأمر.
وأحسب أن ليس بعيدًا اليوم الذي يلتقي فيه الدين والعلم على وفاق لم يحزره أحدٌ من قبلُ.
وينبغي أن نتذكر ألا نهاية للتفكير الفلسفي. ولعل تقدم المعرفة واتضاح سبلٍ للتفكير جديدة يُؤديان إلى آراءٍ جديدة. وعسى أن تكون أصح من الآراء التي أعرِضُها في هذه المحاضرات.
إن علينا أن نعنى بمراقبة تقدم الفكر الإنساني، ونقوم منه مقام النَّاقد المستقل.
نظرةٌ في هذه المحاضرات
كان الفيلسوف الشاعر في هم دائم، وحزْنٍ مستمرٍّ مما آل إليه أمر المسلمين في الفكر والعمل.
وقد فكَّر كثيرًا فبيَّن فلسفته التي عرَّفَنا بها آنفًا، ثم خص العقائد الإسلامية بهذه المحاضرات القيمة.
وكان يريد أن يُسمِّيها «الإسلام كما أفهمه»، ثم سمَّاها الاسم الذي شاعت به.
وكان إقبالٌ، حين أدركته المنيَّة، يُعِدُّ العدة لِكتاب وافٍ في التشريع الإسلامي. فأي خسارة خسرها المسلمون بوفاة محمد إقبال قبل أن يُخرج لهم هذا الكتاب.
•••
إنَّ أظْهر ظاهرات التاريخ الحديث سرعة اتجاه المسلمين اتجاهًا روحيًّا شطر الغرب. وليس في هذا خطأ. فثقافة أوروبا، في جانبها العقلي، ليست إلا استمرار التطور في جوانب مهمة من الثقافة الإسلامية. والذي نخشاه أن يقف المسلمون عند المظاهر البرَّاقة في هذه الثقافة الأوروبية، فلا يُدركوا حقيقتها، ويفقهوا بواطنها.
لقد لَبِثَت أوروبا في عصور غفوتنا الفكرية، جادةً تُفكر في المسائل الكبيرة التي عني بها فلاسفة المسلمين وعلماؤهم كل عناية.
وقد تقدم الفكر البشري إلى غير نهاية، منذ العصور الوسطى التي انتهت فيها فرق المتكلمين المسلمين. ثم تَسلُّط الإنسان على الطبيعة أوحى إليه ثقةً بنفسه، وإيمانًا بتفوقه على ما يحيطُ به في العالم، وعرضت للناس أنظار محدثة، وأُعيد النظر في مسائل قديمة في نور التجارب الحديثة، ونشأت مسائل أخرى لم تُعرف من قبل. وكأنَّ عقل الإنسان تفوق على كلياته الأساسية، من الزمان والمكان والحدوث. بل أخذ تصوُّرنا الأشياء يتغير بتقدم العلوم. فنظرية أنشتاين غيرت نظرنا إلى العالم، وبَيَّنَت طرائق جديدة في النظر إلى مسائل يشترك فيها الدين والفلسفة.
فلا عجب إذًا، أن ينتظر ناشئة المسلمين في آسيا وأفريقيا توجيهًا جديدًا لعقائدهم. إن يقظة المسلمين تقتضي أن ننظر، ولكن بعقل مستقلٍّ، ماذا فكَّرَتْ فيه أوروبا؟ وكيف نستعين بالنتائج التي بلغتها، في إعادة النظر في المذاهب الدينية الإسلامية، بل إعادة بنائها إن لم يكن من هذا بُد؟
إن على المسلم اليوم عملًا شاقًّا، عليه أن يُعيد النظر في الإسلام كله دون انقطاع عن الماضي.
لعل شاه ولي الله الدهلوي أول من شعر بالحاجة إلى نظر جديد، ولكن الذي أدرك كل الإدراك خطر العمل وسعته، هو جمال الدين الأفغاني، وكان حرِيًّا أن يكون حلقةً حيَّة بين الماضي والمستقبل بنظره الثَّاقب، ونفاذه إلى حقيقة تاريخ المسلمين وتاريخ ثقافتهم، إلى ما أوتي من إدراكٍ واسع يسَّرته له تجاربه في الناس والأخلاق.
فلو قصر جهاده الدائب على الإسلام من حيث هو نظام للعقائد والأعمال الإنسانية، لكانت قواعد الفكر الإسلامي اليوم أقوى وأقوم.
ليس لنا اليوم إلا أن نقوم من العلم الحديث مقام المُكْبر له القادر على نقده، وأن نقوِّم الفكر الإسلامي في نور هذا العلم، وإن أدى هذا إلى أن نخالف سلفنا.
هذا الشعور بحاجة المسلمين إلى الأخذ من العلم الحديث أخذ الناقد المعتد بنفسه، وإعادة النَّظر في المذاهب الإسلامية، هو الذي أوحى إقبال أن يُفكر التفكير الواسع العميق، ويتناول الموضوعات العسيرة الخطيرة التي تناولها في هذه المحاضرات.
-
(أ)
في المحاضرة الأولى «العلم والإدراك الديني»: يُبين إقبال فرق ما بين المعارف المُستقاة من ينابيع مختلفة. ويقول إن القرآن يُسوي بين نواحي الإدراك الإنساني كلها في الاستمداد منها لمعرفة الحقيقة النِّهائية.
ويقول: ولا بد من أجل إدراك هذه الحقيقة، أن يصحب الإدراك الحسِّي هذا الإدراك الذي يُسميه القرآن القلبَ.
وتكلم إقبال في هذه المحاضرة عن قيمة الإدراك الديني في المعرفة الإنسانية، وبيَّن قدر الإلهام. وللإلهام في فلسفة إقبال مكانة عالية. وهو يرى أنَّ الفكر والإلهام ليسا متنافرَيْن.
-
(ب)
وفي المحاضرة الثانية التي عنوانها «التمحيص الفلسفي للإدراك الديني»: يتحدث إقبال عن الامتحان العقلي الذي يمكن تطبيقه على المدركات الدينية. ويبين أن الإدراك الديني يقبل تمحيصًا مُشابهًا للتمحيص الذي تُعالج به أنواع المعرفة الأخرى.
-
(جـ)
وفي المحاضرة الثالثة التي عنوانها: «تصور الله تعالى ومعنى الصلاة»: يُبين إقبال تصور الله تعالى في القرآن، ويقول إنَّ أكبر عناصر هذا التصور، من وجهة فكرية خالصة، الخلق والعلم والقدرة والبقاء.
ومن أمثلة نظرات إقبال في هذه المحاضرة قوله إن تسمية الله تعالى نورًا في التوراة والإنجيل والقرآن، ينبغي أن تُفسَّر تفسيرًا آخر. قد بيَّن علم الطبيعة الحديث أنَّ سرعة النور لا تمكن الزيادة عليها، وأنها لا تختلف باختلاف طرائق الراصدين. فالنور في العالم المتغير أقرب شيءٍ إلى الوجود المطلق. فتسمية الله بالنور مجازًا ينبغي أن يُفسر، في هدي العلم الحديث، بالإطلاق، لا بالحضور في كل مكان، هذا الوصف الذي يُؤدي إلى عقيدة وحدة الوجود.
ويقول إقبال في هذه المحاضرة كذلك:إن الحقيقة العليا ذاتٌ. ومن هذه الذات العليا تنجلى الذوات الأخرى بالخلق فحسب. والعالَم في كل أجزائه، من الحركة الآلية فيما نُسميه الذرة المادية إلى حركة التفكير الإرادية في الإنسان، ليس إلا تجلِّيًا من الذات العليا. وكل ذرة ذات حركة إلهية هي ذات، مهما انحطت مكانتها في الوجود.
وينتقل إقبال بعد هذا إلى الكلام في الصلاة، فيقول ما خلاصته:الدين لا يقنع بالتصور فحسب، بل يطلب اتصالًا بمقصوده. ووسيلة هذا الاتصال العبادة أو الصلاة. الصلاة وسيلة إلى استنارة روحية تعرف بها الذات الإنسانية — هذه الجزيرة الصغيرة — أنها موصولة بحياةٍ أوسع، وكونٍ أفسح.
وكل طلب للمعرفة هو في حقيقة صلاة. فالباحث في العلم الطبيعي هو كالصوفي في صلاته.
وتزيد الصلاة قربًا من مقصودها بالاجتماع. وكل عبادة هي في جوهرها جماعية. والعبادة فردية كانت أم اجتماعية، هي إعراب عن تلهف الوجدان الإنساني إلى استجابة له في صمت العالم الهائل.
ومن وحدة الذات الكبرى التي تخلق كل الذوات وتمُدها تنشأ وحدة النوع الإنساني. والقرآن الكريم يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.صلاة الجماعة في الإسلام إعراب عن التطلع إلى تحقيق الوحدة الإنسانية برفع كل الحجب بين الإنسان والإنسان.
-
(د)
وفي المحاضرة الرابعة: يتكلم عن الذات الإنسانية حريتها وخلودها، ويبين كيف عمَّتِ المسلمين جبريَّة مشئومة على خلاف ما علَّمه الإسلام ووكده من حرية الذات. ويقول إن هذه الجبرية التي عرفها الأوروبِّيُّون في كلمة «قسمة» ترجع إلى غلبة الفكر الفلسفي وإلى المطامع السياسية وضعف نبض الحياة التي بثها الإسلام في نفوس المسلمين.
ثم يقول إقبال:نشأت، على خلاف دعوة أئمة المسلمين، جبريَّة مُهلِكة، وشاعت نظرية الأمر الواقع لتحصيل منافع لبعض الناس، وتيسير مطامعهم.
وليس هذا أمرًا بدعًا، فقد احتجَّ فلاسفة مُحدثون بحجج عقلية على أن نظام رأس المال في الجماعة نظام أبدي.
حدث مثل هذا في تاريخ المسلمين، ولكن درج المسلمون على التماس أدلة مذاهبهم في القرآن، ولو على خلاف معانيه الواضحة فكان للتأويل الذي يحتج به على الجبرية آثار بالغة في الإضرار بالجماعة الإسلامية.
-
(هـ)
والمحاضرة الخامسة «روح الثقافة الإسلامية»:
يقول فيها إقبال: إن القرآن يُبين أن الإدراك الباطني ينبوع واحد من ينابيع المعرفة الإنسانية. وللمعرفة ينبوعان آخران هما: الطبيعة والتاريخ. وبالاستقاء من هذه الينابيع الثلاثة تبلغ الثقافة الإنسانية أنضر صورها.
ويقول إقبال: إن الفكر الإغريقي لم يحدد خصائص الثقافة الإسلامية.
ويقول: إن فكرةً في الإسلام عظيمة لم تُقدر قدرها، ولم تُعرف قيمتها في الثقافة الإسلامية، وتلكم فكرة ختم النبوة. إن النبوة في الإسلام بلغت أوج كمالها إذ عرفت الحاجة إلى ختمها. لا بد لكمال الوجدان الإنساني من أن يوكل إلى نفسه.
قد أبطل الإسلام سلطان الأحبار والرهبان، وألغى وراثة الملك. ودعا القرآن إلى الرجوع إلى العقل، والاعتبار بالتجاريب. ووجه النظر إلى الطبيعة والتاريخ على أنهما ينبوعان للمعارف البشرية.
وكل هؤلاء أوجه مختلفة للفكرة نفسها، فكرة النهاية والكمال.
ثم يقول المحاضر:وأعظم خصائص الثقافة الإسلامية توكيدها في الأنفس «تصور عالم متحرك» وسنن مستمرة.
ومن قواعد الهدي الإسلامي أن الأمم والجماعات مأخوذةٌ بأعمالها في هذه الحياة. ولهذا يُكثِر القرآن من قصص الماضين، ويأمر بالنظر في تجاريب الأمم غابرها وحاضرها.
ويقوم تعليم القرآن في هذا الشأن على أصلَيْن:- الأول: وحدة الأصل الإنساني. ويُبين القرآن كثيرًا أن الناس خُلقوا من نفسٍ واحدة.
- والثاني: قوة الشعور بأن الزمان حقيقي. وتصور الحياة سيرًا مستمرًّا في الزمان.
وإن يُدرك قادة العقول والأرواح في الأمم حقيقة هذه الأصول الإسلامية، يظفر الإنسان بعالم للمعيشة أفضل من هذا.
-
(و)
والمحاضرة السادسة: «الحركة أصلٌ في التعليم الإسلامي»، تكلم فيها الفيلسوف المسلم عن تصور الإسلام العالم على أنه عالم حركة. وقال إن الإسلام يُنكر أواصر الأنساب، ويعترف بالأواصر الروحية، ويُقرر أن حياة الإنسان روحية في كنهها، ولا يمكن التطلع إلى أساس نفساني تقوم عليه الوحدة الإنسانية إلا إذا عرفنا أن الحياة الإنسانية روحية.
ويُقرر الإسلام أن أصل الوحدة الإنسانية في التوحيد. إن أصل الحياة كلها دائم يتجلى في مظاهر مُتغيرة. والجماعة القائمة على هذا الأصل ينبغي أن تجمع في نفسها هاتين الصفتين: الدوام والتغيُّر. ومن يتصور الأصول الدائمة الأبدية غير قابلة التغير فقد وقَّفَ ما هو متحركٌ بطبيعته.
ومعنى هذه الفقرات التي نقلتها عن إقبال أن حياة الإنسان لا تحدُّها أنساب، ولكنها قائمة على أصول روحية بها وحدة الإنسان، وأن هذه الحياة الروحية دائمةٌ في أصلها متغيرة في مظاهرها. فالجماعة الإنسانية ينبغي أن تقوم عل أصولٍ دائمة من عقائدِها وسُننها، متغيرة في مظاهرها وأحوالها.
ثم يقول:والحركة في الجماعة الإسلامية بالاجتهاد. ويؤسفنا أن هذا الأصل الذي يهب الأمة الحياة لم يعمل عمله في المسلمين. إن من أقوى أسباب ضعف المسلمين إهمال هذا الأصل، أعني إبطال الاجتهاد.
ثم يتكلم إقبال عن الإجماع أصلًا من أصول الشرع الإسلامي، فيقول:والأصل الثالث من أصول الشرع الإجماع. وهو عندي أعظم السنن الشرعية، وعجيب أن هذه السنة الرشيدة نالت كثيرًا من بحث المسلمين وجدالهم، ولكنها لم تعد التفكير إلى العمل. وقلما صارت سنة عملية في بلد إسلامي. ولعل اتخاذها سنة دائمة ونظامًا مُحكمًا لم يلائم مطامع الملك المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد الخلفاء الراشدين. ولعل ترك الاجتهاد لأفراد من المجتهدين كان أقرب إلى منافع الخلفاء من بني أمية وبني العباس، من تأليف جماعة دائمة عسى أن تفوقهم قوة.
ومما يبعث على الرضا والأمل أن سيرة الحوادث في هذا العصر، وتجاريب أمم أوروبا؛ أشعرت الفكر المسلم الحديث بقيمة الإجماع وعرفته أنه ممكن. وشيوع النزعة الجمهورية، ونشوء مجالس التشريع يُمهدان السبيل إلى العمل بسنة الإجماع.
-
(ز)
وفي المحاضرة السابعة: «هل التدين ممكن؟»
يقول إقبال: ذلكم سؤالٌ يشغل الإنسان في كل عصر ولا سيما في عصرنا، والعالم كله يلتمس أساسًا يبني عليه وئام الناس وسلامتهم.
إن الدين في أعلى صوره، ليس أحكامًا جامدة، ولا كهنوتيَّة ولا أذكارًا. ولا يتيسر إلا بالدين تهيئة الإنسان المعاصر لحمل العبء الثقيل الذي يحمله إياه تقدم العلوم في عصرنا. والدين وحده يرد إليه الإيمان والثقة اللذين ييسران له اكتساب شخصية في هذه الدنيا والاحتفاظ بها في الآخرة.
ولا بد للإنسان من الارتقاء إلى تصورٍ جديد لماضيه ومستقبله ليستطيع التغلب على المجتمع المتنافر المتصادم، ويقهر هذه المدنية التي فقدت وحدتها الروحية بالتصادم الباطني بين الدين والمطامع السياسية.
والحق أن سير الدين والعلم، على اختلاف وسائلهما، ينتهي إلى غاية واحدة، بل الدين أكثر من العلم اهتمامًا ببلوغ الحقيقة الكبرى.
أثر إقبال في أفكار المسلمين
في الخمس عشرة سنة التي مضت من وفاة إقبال إلى يومنا هذا، أُلِّفت كتبٌ باللغة الأردية والإنكليزية في سيرته وفلسفته، وفي صلة هذه الفلسفة بالإسلام، وبيان التشابه بين إقبال وبين فلاسفة آخرين أو بين شعره وشعر غيره من كبار الشعراء. كُتب في هذه الموضوعات زهاء أربعين كتابًا.
وكُتبت مقالات كثيرة. وتُنشر في لاهور مجلة اسمها إقبال تنشر مقالات بالأردية والإنكليزية في فلسفة إقبال وشعره.
-
التطور في فلسفة إقبال.
-
الفن في مذهب إقبال.
-
إبليس في تصور إقبال.
-
فلسفة الذاتية عند إقبال.
-
إقبال ومسألة الاجتهاد.
-
معنى العشق في شعر إقبال.
-
معنى الفقر في شعر إقبال.
ولا تكاد تخلو مجلة أدبية في باكستان من مقال عن إقبال.
•••
ونجدُ الكُتَّاب يُبينون عن آراء إقبال إجمالًا وتفصيلًا، ويستشهدون بما كتب في الفلسفة، وبما جاء في شعره. وشعره فصول فلسفية في صورة شعرية، كالأسرار والرموز اللذَين أجملْتُهما آنفًا، أو شعر يتضمن فكرًا متفرقة من فلسفته، ولمعًا مُختلفة من آرائه، ينظمها الكتاب بعضها إلى بعض ليبيِّنوا المذهب الذي نشأت عنه هذه الأقوال.
عرض هذا الشاعر الفيلسوف على العقول ما أيقظها وشغلها، وعلى القلوب ما أنبضها وأثارها.
ولا يزال الباحثون يجدون في فلسفته وشعره ما يشغل أقلامهم، ويملأ صحفهم على كثرة ما كتبوا. فماذا عسى أن أُفضل من فلسفة إقبال؟ وكيف أحاول الإحاطة بها في كتاب هو أول ما كتب في لغتنا العربية عن هذا الشاعر؛ سيرته وفلسفته وشعره.
وإنما قصدت إلى أن يكون هذا الكتاب مقدمة لقراءة دواوين إقبال التي ترجمتُها إلى العربية ما طُبع منها وما يُطبع إن شاء الله.
وقد كتبتُ لهذه الدواوين مُقدمات فيها طرفٌ من فلسفة إقبال، ولا سيما الآراء التي هي موضوع الديوان. فلعل القارئ المُتقصي يضم هذه المقدمات إلى هذا الكتاب ليتبين سيرة إقبال وفلسفته.