مذهب إقبال في الفنون الجميلة
(١) مقدمة
للفلاسفة والنقاد مذاهب وآراء في الفنون الجميلة عامة وفي الشعر خاصة.
تختلف مذاهبهم وآراؤهم في قدر الفنون وخطرها، وتختلف في مقاصد الفنون وغاياتها، وتختلف في مقاييس الحسن والقبح، والكمال والنقص فيها.
وذلكم موضوع واسع مُفصل لا يتسع المجال لبحثه كله أو بعضه. فحسبي التمثيل ببعض المذاهب وأصحابها تمهيدًا للإبانة عن مذهب إقبال:
الفنُ له مقاصد
يرى كثيرٌ من النقاد أن الفنون محاكاة الطبيعة. وأقدم من أُثرت آراؤهم في هذا أفلاطون وأرسطو؛ قالا: إن الفن محاكاة للطبيعة ولكنهما يختلفان فيما بعد هذا.
فأفلاطون يحقر الفنون بأنها محاكاة الطبيعة، والطبيعة نفسها مظاهر خادعة أو ظلال لا حقائق لها. ومذهبه في عالم الحقائق أو المثل وعالم المادة معروف. ويذمُّ أفلاطون التمثيل لأنه يثير العواطف فيصعُبُ كبحُها، ويحقر الشعراء بأن خيالاتهم الكاذبة في الله والناس سيئة الأثر في عقول الشبان.
ويَستحسنُ أرسطو الفنون بأنها محاكاة الإنسان لأعمال الإله. إنها تحاكي الطبيعة والإله هو المحرك الأول لها. ويحمد أرسطو الفن كذلك بما يُثير العاطفة ويهديها فتسهل السيطرة عليها.
ويُؤخذ من هذه الكلمات أن الفيلسوفَيْن يُقوِّمان الفنون بما تؤدي إليه من خير وشر. فهما ممن يُتبعون الفن المقاصد الأخلاقية. وأكثر النقاد على هذا المذهب يقومون الفن بأثره في الإنسان وصلته بالأخلاق.
ولأفلاطون خاصة عناية بأثر الفن في الأخلاق؛ يرى أن الفن في مادته وصورته، ينبغي أن يقصد إلى الأخلاق والمعرفة، وأن سحر الفن ينبغي أن يُستعان به على خلق المواطن الصالح.
ويرى أن تحظر الموسيقى إلا الألحان التي تدعو إلى الشجاعة والإقدام والألحان التي تنبه الإنسان، وتبث في نفسه حب الاعتدال والنظام وتقديس الآلهة.
وأما السرور الذي يبعثه الفن فهو يعين العقل على هداية الإنسان إلى الصراط السويِّ.
ويذم أفلاطون أصحاب الفنون المفسدين، ويوصي بأن ينفوا من البلاد.
كثير من النقاد، بل أكثرهم يوجبون أن يكون للفن مقاصد، ويقوِّمونه بآثاره في حياة الإنسان، وفي طليعة هؤلاء أفلاطون وفي مؤخرتهم برناردشو.
منهم من يجعل غاية الفن السرور. ويُؤْثر عن أرسطو قوله إن الفن محاكاة لها مقصد نفساني واجتماعي. وهذا المقصد هو اللذة التي تنشأ من انطلاق الانفعال المكظوم.
ويؤثر عن سنت أغسطين في العصور الوسطى، أن مقصد الفن خلق الجمال، والجمال هو ما تسر الإنسان رؤيته. وذهب هذا المذهب نقاد في كل عصر حتى عصرنا هذا. ومنهم العالم النفساني فرويد، يرى أن الفن يُريح فكر الفنان والرائي من التوتر، بإرضاء الرَّغبات المكظومة.
والفريق الثاني من القائلين بأن للفن مقاصد، منهم من يقول إن مقصد الفن الحياة نفسها، ومنهم قائلٌ إن الفنان معلمٌ، وأعلى مقاصده أن ينبض قلب الإنسان. والقلب مركز الحياة. فالفن موصول بحياة الإنسان لا محالة، موصول بكونه المادي والأخلاقي. ويقول آخر إن الفن نقد الحياة. ويقول تلستوي: إن مقصد الفن أن ينقل إلى النفوس أنبل العواطف وأعلاها.
ويذم الفن الفرنسي في عصر الانحطاط لأنه يُعبِّر عن عواطف الحكام الأراذل.
الفن للفن
ومعنى هذه الدعوة أن الفن يُقصد لجماله. وأما الحق والخير وما يتصل بهما فليس لها صلة بالفن، أو هي تابعة وليست المقصد الأصلي … ليس للفن غاية إلا نفسه، لا يقصد إلا إياه.
ليس للفن رسالة إلا أن يُثير في النفس الإعجاب بالجمال، وإن قصد أمرًا آخر كالأخلاق والتعليم والمال والصيت، وضع هذا القصد من قيمة الفن. الفن مقصدٌ لا وسيلة. ومن قصد في الفن إلى غير الجمال فليس بفنان. والشيء إذا صار نافعًا لم يبق جميلًا.
أول شرطٍ للابتكار أن يُدرك النُّقاد أن عالم الفن وعالم الأخلاق متباينان كل التباين.
وكانت هذه الدعوة، من الجهة الاجتماعية، دعوة إلى الفردية المُطلقة أنشأت فنونًا مدمرة كل الفضائل التي عرفتها العصور الماضية.
أصحاب العبارة
وذاعت قبل هذه الدعوة، واستمرت بعدها. دعوة أخرى تُشبهها. هي الدعوة إلى تقويم الفن بصورته لا بمعناه، إلى تقويم الشعر مثلًا بالألفاظ والوزن والأسلوب لا بالموضوع والمعنى. فهي تُميِّز بين القصة — مثلًا — ومعانيها وأشخاصها، ومسارحها، وعواطفها، وبين اللغة والعبارة والسياق والوزن.
وقد ثار من قبلُ الجدال بين أُدبائنا أدباء العرب على البلاغة أهي في الألفاظ أم في المعاني. وكتب في هذا عبد القاهر الجرجاني صاحب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وغيره.
فالمعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى. فلا تحتاج إلى صناعة، وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه، وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التي يُغترف بها الماء من البحر منها: آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها.
ليس الاعتبار بما تعبر عنه بل بما تعبر به، ولا قيمة للمعنى بل للأداء، فربما تعرب عن قبيح أو جميل، وعن حق أو باطل، وعن صواب أو غلط، ولا يدخل شيء من هذه في تقويم الفن، ولكن يُقوَّم الفن بالصورة التي تُبين بها عن هذه الأشياء.
قابل هؤلاء شعارَ «الفن للفن» بشعار «العبارة للعبارة». وكانت هاتان النظريتان شائعتين حينما شرع إقبال ينظم الشعر.
ولكن الشاعر الفيلسوف القوي لم يبال بهذه ولا تلك كما نرى من بعدُ.
(٢) مذهب إقبال في الفنون عامة
إذا نظرنا في تاريخ الثقافة الإسلامية فرأيي أن الفن الإسلامي فيما عدا العمارة «الموسيقى والتصوير بل الشعر» لمَّا يولد، أعني الفن الذي يقصد إلى أن يتخلق الإنسان بأخلاق الله. والذي يمد الإنسان بإلهام لا ينقطع «أجرٌ غير ممنون»، ثم يحقق له خلافة الله في الأرض.
ذلكم طموح إقبال في الفنون وأمله فيها، وذلكم ما اجتهد طول عمره أن يحققه في شعره، وفلسفته.
وفي ديوان زبور العجم منظومة طويلة بيَّن فيها إقبال أثر الحرية والعبودية في الفنون، ووصل الفن بقلب الإنسان وروحه، بل وصله بالله تعالى، إذ جعل الفنان الحق هو الذي يسمو بنفسه محاولًا أن يتصف بصفات الله.
ويرى القارئ في هذا الفصل شواهد من هذه المنظومة حين الكلام في التصوير والموسيقى والعمارة.
يذهب إقبال في الفنون مذهبًا يُلائم فلسفته التي أجملتُها للقارئ في هذا الكتاب: قوام الحياة الذاتية، ومقصود الحياة تقوية الذاتية، وتكميلها وشحذها وإشعالها. وتُقوَّى الذات من تخليق المقاصد والآمال. والذات بعشق آمالها، والسير إليها، واقتحام العقبات من أجلها، واحتقار الأهوال في سبيلها؛ تذلِّل كل صعب، وتيسر كل عسير، وتدني كل قصيٍّ، وتسخر كل شيء.
وقد طبَّق إقبال مذهبه هذا في كل شئون الحياة:
(أ) الخير ما يقوِّي الذات ويُنميها ويكملها، والشر ما يُضعفها ويُنقصها.
وفي القرآن الكريم: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا.
وهذا قياس كل شئون الحياة وعقائد الإنسان وأعماله:
(ب) والفنون تقوم بقوة النفس التي أنشأتها، وقوة إيحائها وقوة تأثيرها في الطبيعة والإنسان. كل فن أنشأته نفس ضعيفة، فكان له في الناس أثرٌ ضعيف، أو أنشأته نفسٌ مفسدةٌ شريرةٌ، فكان له في الناس إفساد، فهو فنٌّ لا قيمة له، بل هو فنٌّ خاسرٌ، يضر ولا ينفع.
ولا يُقوَّم الفن بنفسه، فإن مقصود الفن الحياة.
أرى الفن خادمًا للحياة والشخصية. أَبنْتُ عن هذا الرأي سنة ١٩١٤م في ديواني «أسرار خودي» وأوضحته مرة أخرى بعد اثنتي عشرة سنة في القصيدة الأخيرة من ديوان «زبور العجم»، حيث حاولْتُ تصوير روح الفنان الأمثل الذي يتجلى العشق فيه توحيدًا بين الجمال والقوة.
ويقول في ضرب الكليم:
الخلود للإنسان وللفن بالقوة والحرية والتأثير في الحياة، التأثير القوي الحسن، الذي يقوي الحياة الضعيفة ويزيد الحياة القويَّة قوة:
والفن الذي لا يطبع على الحياة نفسه، ولا يخلد على الدهر آثاره ليس جديرًا باسمه.
لا فن بغير قوة ولا جمال بغير جلال:
لعل إيحاءً واحدًا من نفسٍ مُسفَّة، تستطيع إغواء الناس بغنائها أو تصويرها، شرٌّ على الأمة من جيش لآتيله أو جنكيز.
كما قال نبي الإسلام في امرئ القيس أعظم شعراء الجاهلية: «أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار.»
وهو ينعي نفسه على الهنادك بُعدَ فنهم عن الحياة، واقترانه بالخنوع وتصويره الموت، وقتله الروح. يقول في ضرب الكليم:
(د) والفن الصادق صورة من نفس الفنان، بل هو مصور بدمه وعصبه:
وليس للمُقلد فن، إنه يبني أصنامه من حطام أصنامٍ قديمة.
(ﻫ) مُحاكاة الطبيعة: ويرى إقبال أن الفنان ينبغي ألا يحاكي الطبيعة، بل ينبغي أن يطبع نفسه عليها، ويصور شعوره فيها. ويقول إن الإنسان خلَّاقٌ لا مُقلِّدٌ، وصائدٌ لا صيدٌ، وإن أهرام مصر أعظم من الصحراء المحيطة به!
وفي رسالة المشرق يقف إقبال الإنسان أمام خالقه مُعدِّدًا ما فعل في الأرض:
إن في سيطرة المرئي على غير المرئي، وابتغاء ما يُسمَّى في العلم ملاءمة الطبيعة اعترافًا بسيادة الطبيعة على روح الإنسان. وإنما القوة في مقاومة تأثيرها لا في خضوعنا لعملها. إن مقاومة ما هو كائن طلبًا لما ينبغي أن يكون، لهو صحة وحياة. وكل ما عدا هذا علة وموت. إن حياة الله تعالى والإنسان خلقٌ مستمر. إن الفنَّان الذي هو نعمة على الإنسانية يتحدى الطبيعة. وهو يتخلق بأخلاق الله، ويشعر في روحه باتصال الزمان والخلود. هو كما يقول نطشه: «يرى كل الطبيعة كاملة فسيحة فيَّاضة، لا كمن يرى الأشياء كلها أصغر، وأهزل، وأفرغ مما هي في حقيقتها. الطبيعة كائنة وعملها تعويق سعينا إلى ما ينبغي أن يكون. وهو ما يجب على الفنان أن يجده في قرارة نفسه.»
(و) هذا مذهب إقبال في الفنون عامة، وأزيدُ على هذا الإجمال أمثلة من تطبيق فلسفته على بعض آحاد الفنون:
(١) المصور ينبغي أن يُنشئ، ويُبين عن نفسه ولا يقلد. وقد قلَّد مُصَوِّرو الفرس والهند أوروبَّا فأبطلوا فنهم، ومات خيالهم.
رأيتُ تصويرًا فاترًا، لا ترى فيه إبراهيم ولا آزر «يعني لا نحت الأصنام ولا تحطيمها.»
ويذكر ضروبًا من هذا التصوير إلى أن يقول: ريشة يقطر منها الموت، ليس فيها إلا خرافة الموت وسحره.
ويذكر ثقافة العصر قائلًا: العلم الحاضر ساجد للآفلين، يزيد الشك ويمحو اليقين. ولا تعرف بغير يقين لذة التحقيق، ولا بغير يقين تأتي قوة التخليق. من لا يقين له مضطربٌ رعديدٌ، يتعذر عليه النقش الجديد. عليلٌ، من «الذاتية» بعيد، وهو من ذوق العامة في قيودٍ. يستجدي الطبيعة الجمال، وله في الخيبة مجال.
لا تلتمس الحسن من غير نفسك يا مغبون، واطلب ما يجب أن يكون. إذا أسلم المصور نفسه للطبيعة، فقد أثبتها ونفى نفسه. وإن ظن الإنسان نفسه خلاء، انطفأ نور الله في ضميره انطفاء.
والكليم إذا زال عن نفسه تاه، وأظلمت يده وعثر بعصاه. لا حياة إلا بقوة الإعجاز.
وليس كل إنسان يُدرك هذا السر.
(٢) والغناء حلالٌ إن بعث في النفوس قوة وأملًا وبهجة، وحرامٌ إن بث فيها ضعفًا ويأسًا وحزنًا:
•••
•••
(٣) والموسيقى كذلك. ينبغي أن تبعث في النفس قوةً ووجدًا، وتسمو بها إلى المعالي. فإن لم يكن لها هذا التأثير في النفس فالمُغني بارد الدم، وإن لم يكن الزامر طاهر الضمير فأنفاسه في اللحن سموم.
ولا يزال إقبال يفتقد النغمات المحيية، ويلتمسها فلا يجدها في الشرق ولا الغرب:
وفي آخر ديوانه الذي سمَّاه «زبور العجم» منظومة مثنوية طويلة سمَّاها بندگي نامه «كتاب العبودية»، بيَّنَ فيها جناية العبودية على الحياة كلها، وفضلَ الحرية عليها. وطبَّق رأيه على الفنون في فصل من المنظومة عنوانه «الفنون الجميلة عند العبيد».
نغمة العبودية خالية من نار الحياة، وألحانها مُسِفَّة مثلها. قلب متجمد لا حرارة فيه، حُرم لذة الحاضر والمستقبل. يظهر في مزماره سرُّه والموت الطويل في لحنه. إنه يعُلُّك ويُذلك، ويُنفِّرُك من الحياة ويملُّك.
احذر فما هذه إلا نغمات الموت، إنها الفَناء في لباس الصوت.
إلى أن يقول: لا بد من نغمة ربيبة الجنون، هي حريق في شغاف القلب كمين.
إن في الألحان لمقامًا تَسمع فيه بغير لفظ الكلام. والنغمة المُضيئة هي سراج الفطرة في كل ظلام، معناها يخلق كل صورة. وكل ناغم بغيرها جثةٌ هامدة، ونغماته شرار نار خامدة.
(٤) العمارة: يتكلم عن العمارة في منظومته في آخر ديوان زبور العجم التي ذكرتها آنفًا، فيقول:
ويخاطب الشاعر نفسه:
ويدخل الشاعر بهذا القول إلى ذكر «تاج محل» معجزة البناء الخالدة، فيقول:
الحسن بغير قهر سحر، وهو مع القهر نبوة. وقد مزج العشق الاثنين في الأعمال، وأثار عالمًا من الجلال في عالم من الجمال.