شعرُ إقبال
وصف إقبال نفسه
يقول الشاعر المُلهم في فاتحة ديوان أسرار خودي:
ويُكثر إقبال في شعره أنه عالمٌ بالسر، وأنه كُشفت له أسرار الحياة.
ولا ريب أنه شاعرٌ مُلهم، شعرَ في قرارة نفسه أنه أدرك من أسرار الحياة ما لم يُدرك غيره، وأنه يُبلِّغ هذا العالم رسالة يؤمن بها اليوم أو غدًا، وأنه شاعر الغد وصوت المستقبل.
وكثيرًا ما يقول: إن في نفسه معاني لا تعيها الكلمات، وفي قلبه أسرار ليس لها نجي. وقد سأل الله أن يَهبَه نجيًّا يعي عنه أو يسلب قلبه النار التي تضطرم فيه.
وفي رسالة المشرق هذه الأبيات بعنوان «الوردة الأولى»:
وإليك الأبياتُ:
هكذا تحدث إقبال عن نفسه، فهل وفَّى شعر إقبال بهذه الدعوى؟ هل حقق هذا الأمل؟
لا ريب أن إقبالًا أمدَّ الإنسان عقله وقلبه ويده، بزادٍ من الفكر والعشق والأمل والعمل، أفاضه شعرًا مختلفةً طرائقه رائعة صِوَره في تسعة دواوين.
موضوع شعر إقبال
موضوع شعره الحياة والعالم، يبين فيهما الحقائق، ويكشف الأسرار، ويُوقظ الإنسان ويدعوه إلى قدر نفسه، وتقوية ذاته، ويُناديه أنك أعلى الخليقة وأن العالم كله مُسخَّرٌ لك. وأمامه في هذه الدعوة القرآن الكريم كما في الآية: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.
والآية: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ.
وآيات أخرى كثيرة.
يقول مخاطبًا الإنسان:
•••
والجهاد في هذا العالم لتذليل الطبيعة وتسخيرها هو قوة الذات ورُقيها. والإنسان الحر أو المؤمن يسخِّر هذه الكائنات حتى لا تكون أمامه شيئًا. والإنسان العبد، أو غير المؤمن يضل في الكائنات ويذل لها. ففرق ما بين المؤمن والكافر في رأي إقبال أن المؤمن يُسخِّر هذا العالم ويقتحم عقباته إلى مقاصده العليا، لا يحار في الكائنات ولا يضل، ولا يعيا بتسخيرها ولا يذل.
وفرقٌ آخر أن المؤمن أو الحرَّ خلَّاق مبتكرٌ دائم الأمل والعمل. والكافر أو العبد عاجز لا يبتكر ولا يجدِّد.
يقول في أسرار خودي:
وفرقٌ آخر أن العبد يعتلُّ بالقضاء والقدَر، ويرتبك في خيوط الزمان أو ينسج شبكة الزمان على نفسه، والحرُّ مشيرٌ على القضاء والقدر وناسج نفسه على الزمان.
ويرى إقبال أن المؤمن معيار الخير والشر في الدنيا والآخرة، وأنه يبلغ من المكانة أن يسأله ربُّه ماذا يُرضيك؟
يقول في ضرب الكليم في الأبيات التي أولها:
الإنسان في هذا العالم مدرك مُفكر حرٌّ. والخلائق مسخرة مجبرةٌ، يُعلي إقبالٌ قدر الإنسان، ويُبين فداحة الأعباء التي يتحملها، ويمدُّه من القوة والأمل والعزم بما يُؤهله لحمل هذه الأعباء الجسام.
انظر إلى قصيدته التي عنوانها «وحدة» في ديوان رسالة المشرق؛ لترى الإنسان يأتي إلى البحار مسائلًا، وإلى الجبال، ويرتقي إلى البدر، ثم ينتهي إلى الله، يسأل أهو وحده صاحب القلب في هذه الخليقة يحمل الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال؟
فلا يردُّ البحر والجبل والقمر أسئلته، ولا يجيبه الله تعالى إلا بالابتسام. ولعله ابتسام الإعجاب بهذا المخلوق الكبير.
وستأتي القصيدة في التمثيل لشعر إقبال.
•••
هذه أصول فلسفة إقبال، وعمدة آرائه، فالإنسان ذاته وقوته وقدرته وحريته وجهاده، والجماعة التي تتألف من هذا الإنسان، خصائصها ومزاياها، ومسيرها وغايتها، وقوتها التي لا تُحدُّ، وعزمها الذي لا يبعد عليه أمد، كل هؤلاء موضوع شعر إقبال. صوَّره فأحسن تصويره، وبثه في أفكارٍ شتَّى وصور مختلفة، جَهدَ الفكر الفيَّاض، والقلب الجيَّاش، والشعر المتدفق، والبيان الساحر.
•••
والعرب الأولون الذين انتشروا بالإسلام في أقطار الأرض يدعون إلى توحيد الله وتوحيد الأمم، لا تَصُدُّ عزمهم الصعاب والأهوال، ولا تُفرِّق همتهم بين دانٍ وقاصٍ، ولا يُبالون الموت في سبيل الحق — هؤلاء العرب هم مَثَلُ إقبال في هذه الحياة، وتصديق فلسفته فيها.
ذكرهم في شعره تصريحًا وتلميحًا، ووفَّاهم حقَّهم من الإعجاب، وأبان عن نواحي العظمة في مآثرهم، وأبان عن حبه وإعجابه وإعظامه في وصف آثارهم كما في القصيدة الخالدة التي وصف فيها مسجد قرطبة.
ضروب هذا الشعر
- (أ)
فيه القصص: وأعظم قصصه «جاويد نامه»، التي قص فيها رحلته في الأفلاك، كما ذكرت في الفصل الأول من هذا الباب. وقصص أخرى قصيرة متفرقة في دواوينه، مثل: «مجلس شورى إبليس» في ديوان أرمغان حجاز، و«لينين في حضرة الخالق» في ديوان بال جبريل، و«خروج آدم من الجنة» في الديوان نفسه.
والقصص في شعر إقبال كالقصص في شعر جلال الدين الرومي، يتوسل به إلى تبيين مقاصد الشعر، لا يُعنى فيه الشاعر بأكثر من الحوار بين من يتكلم على ألسنتهم من أناسي القصة.
- (ب)
ومن شعر إقبال: الشعر التعليمي، يقصد فيه إلى تعليم فلسفته ومذهبه في نظام شعري تمتزج فيه الفلسفة والشعر. وأبْينُ هذا الشعر المنظومتان اللتان عَبَرتهما عبرًا في الكلام على فلسفة إقبال. ومثلهما منظومات قصيرة في دواوينه الأخرى، منها وصاياه إلى ابنه جاويد، وناشئة هذا الجيل.
- (جـ)
والوصف في شعر هذا الشاعر العظيم كثير، فيه وصفُ الطبيعة ووصف الأبنية، كما وصف جامع قرطبة وتاج محل. والوصف المعنوي يغلب فيه على الوصف الحسِّي، يشرع في وصف الصورة الحسية فتنفتح له عن معانٍ عاليةٍ من الفلسفة والشعر يفيض فيها. لا تشغل الصور الحسيَّة هذا الشاعر الروحي كثيرًا، فإنما تثير في نفسه معاني ينطلق فيها، وإنما هي باب يجوزه إلى عالم غير محدود.
- (د)
وفي شعر إقبال ضروبُ الشعر الأخرى التي تُسمَّى في اصطلاح الأدباء الشعر الغنائي أو الوجداني. وهي فنون شتى في معانيها، ومنها الضرب الذي كلف به شعراء الفرس ومن تبعهم وسمَّوه غزلًا. والغزل أبياتٌ قليلةٌ، بين سبعة واثني عشر في الغالب، ينظم فيها الشاعر خواطر يجمعها موضوع أو لا يجمعها. وهذه الفنون موصولة في معانيها بالأقسام الأخرى التي ذكرتها آنفًا؛ وإن فرَّق بينها هذا التقسيم الصوري. ومن ذا الذي يستطيع تقسيم أمواج البحر بخطوط وحدود.
الأوزان والقوافي
وأما أوزان شعره فهي الأوزان الفارسية كلها، هي أوزان أخذها شعراء الفرس عن الأوزان العربية. وتصرفوا فيها وزادوا عليها. وليس هذا موضع الكلام في أوزان الشعر الفارسي واتصالها بالأوزان العربية وسَيْر شعراء التركية والأردية عليها، واحتذائهم إياها.
والقوافي هي القوافي الفارسية كذلك. ويكثر فيها الردف: وهو أن تكرر كلمة في آخر كل بيت وتلغي في التقفية، ويلتزم روي قبلها. وقد قدمت أمثلة منها في بعض ما ترجمت من شعر إقبال.
وأما أنواع القوافي ففيها الرباعيات، وهي كثيرة في دواوين الشاعر.
ومنها الموشحات على النظام المعروف في الشعر العربي. والشاعر يفتن في القوافي الموشحة، ويصرف الوزن معها بالطول والقصر. وسيجد القارئُ مثالًا منها من بعدُ.
ومن شعر إقبال المثنويَّات، وهي منظومات على القافية المزدوجة، وعلى هذه القافية نظم دواوين الأسرار والرموز وجاويد نامه، وكذلك نظم فيها كثيرًا من منظوماته في الدواوين الأخرى.
ومن منظومات إقبال ضروب أخرى على التقفية المعروفة في القصائد العربية.
هذه نظرة عاجلة في ضروب شعر إقبال من حيث السياق والوزن والقافية.
ولم أرد فيها التفصيل؛ لأني أكتب للقارئ العربي، وليس أمامه شعر الشاعر في لغته، فأطيل له البيان في ضروب الشعر موضوعه وأشكاله وأوزانه وقوافيه.
اللغة والأسلوب
وهذا موضوع لا يعني القارئ العربي كثيرًا. فهو لا يقرأ شعر إقبال في لغتيه الأردية والفارسية، ولكن يقرأ ترجمة عربية لبعض دواوينه، والترجمة إن حفظت المعنى والصورة لا تحفظ اللغة والأسلوب.
وحسبي في التعريف بلغة إقبال وعبارته وأسلوبه هذه الكلمات: كَتَبَ إقبال باللغتين الأردية والفارسية. ولغته الأولى البنجابية ليست لغة علم وأدب، والمكتوب فيها قليل من أدب العامة. فاللغة الأردية هي لغته ولغة الأدباء والمُتأدبين من مسلمي الهند.
ولغته وأسلوبه فيما أنشأ بالأردية، يبلغان في الأصالة والصحة والقوة ما بلغه أكبر شعراء الأردية منذ نشأ الشعر في هذه اللغة إلى أن نبغ إقبال.
والحكم في لغة الشعر وعبارته وأسلوبه يرد إلى ذوق أهل اللغة. ولا يعتد فيه برأي دارسي اللغة من غير أهلها، وإن بلغوا الغاية في علمها وفقهها، ودُرِّبوا على أساليبها في شعرها ونثرها. وأدباء الأردية يرَوْن أن شعر إقبال في جملته يبلغ الذروة من هذه اللغة. ويُسامي شعر أعظم شعرائها، ثم يفوتهم بمعانيه التي لا تُحدُّ وفلسفته التي استولى فيها على الأمد.
•••
وأما منظومات إقبال الفارسية، فقد أخذ عليها أدباء الفرس مآخذ أُجملها، ثم أذكر رأيي فيها: عُرفت اللغة الفارسية في الهند منذ فتح السلطان محمود الغزنوي شمالي الهند في القرن الرابع الهجري، وبلغت مكانة عليَّة أيام المغول، فكانت لغة الدولة ولغة العلم والأدب. وقد اجتمع حول جلال الدين أكبر أحد ملوكهم زهاء خمسين شاعرًا كلهم ينظم بالفارسية، منهم من نبغ في الهند ومنهم من وفد إليها من إيران.
وقد ضعف أمرها بعد اضمحلال الدولة المغولية، ولكنها بقيت حتى عصرنا يعرفها المثقفون، وينظم بها بعض الشعراء، ويكتب بها بعض الكتاب. وأعظم من نظم فيها في هذا العصر محمد إقبال.
وقد أنشأ فيها ستة من دواوينه التسعة، كما بيَّنت قبلُ.
- (أ)
أُخذ عليه أن لغته وأسلوبه ليسا مطابقَيْن للغة الشعر الفارسي العصري وأسلوبه.
- (ب)
وأنه يستعمل أحيانًا عبارات تخالف الفصيح المأنوس في الفارسية.
- (جـ)
وأن له تراكيب لم تُؤثر في الأدب الفارسي من قبل.
وقد أجاب المعترضين ملك الشعراء بهار — رحمه الله — أحد شعراء الفرس، ومجتبي المينوي الذي ألف كتابًا عن الشاعر اسمه «إقبال اللاهوري»، وقد عدَّدَ المؤلف في هذا الكتاب ما أُخذ على إقبال وأجاب عليه.
ويبدو أن لهذا الاعتراض سببين؛ الأول: أن إقبالًا لم ينشأ في بيئةٍ فارسية. فالفارسية ليست لغته، ولكن اكتسبها بالدرس، وطول النظر في دواوين شُعرائها. فاستوى عنده ما استعمله شعراء الفرس القدماء وما استعمله المعاصرون منهم. فرأى بعض النقاد في بعض شعره مخالفةً للغة العصر وأسلوبه.
والثاني: أن اللغة الفارسية استوطنت الهند قرونًا، ونشأ فيها أدُباء ونبغ شعراء لهم بيئتهم وأحوالهم. وهي تخالف بيئة شعراء إيران وأحوالهم، فنشأت في الهند لغة أدبية تخالف مخالفةً ما لغةَ الأدب في إيران.
فأما السبب الأول فلا حرج على إقبال أن يأخذ من كبار شعراء الفارسية في كل العصور، ويسعه ما وسع هؤلاء الشعراء، ولا يضيره ألا يكون شعره مُسايرًا الشعر الفارسي العصري كل المسايرة في لفظه وتركيبه وسياقه.
وأما السبب الثاني ففيه اعتراضٌ باصطلاح بيئة على اصطلاح بيئةٍ أخرى. وقديمًا قال عُلماؤنا: لا مشاحة في الاصطلاح.
وأما أن لشاعرنا العظيم تركيبات لم تؤثر في الأدب الفارسي، فقصاراه أنه ابتكر عبارات في الفارسية. والرجل له فلسفة مُبتكرة، وآراء مبتدعة روَّض لها الشعر وذلَّله. فلا عجب أن يضع ألفاظًا مُفردةً لمعانٍ محدثة أو يُحرِّفها عن معانيها قليلًا، ولا غرو أن يصوغ تركيبًا أو تعبيرًا بدعًا لمعانيه المبتدعة.
ولإقبال الفخر أنه ابتدع وجدد في المعاني والألفاظ والعبارات، ويزيده فخرًا أنه نقل ألفاظًا من معانٍ إباحية مبتذلة تتصل بالخمر والسكْر واللهو والخلاعة وما إليها من الألفاظ التي شاعت في الأدب الفارسي فهوت به، نقل هذه الألفاظ إلى معانٍ روحية عالية واسعة لا تحدُّها حدود المادة. كما ردَّ إلى معانيها الأولى ألفاظًا تَجوَّز فيها الشعراء، فلَبَّسوا على الناس مذاهبهم كالكفر والدين والدير والحرم والكعبة.
وفضلُ إقبال الأعظم وفخرُه الأكبر أنه أودع اللغة الفارسية هذه الثروة من الفلسفة العالية، والآراء السديدة، وذلَّلَها للشعر، ويسَّرها للمتأدبين. وما أعظم حظ اللغة التي يختارُها إقبالٌ لشعره. فهل يُؤخذ على مثل هذا الفيلسوف الشاعر أنه خرج بألفاظٍ عن معانيها، أو استعمل عبارات غير مألوفة في لغة العصر، أو اخترع تركيبات غير مأنوسة في الأدب الفارسي. وهل عمل النَّابغين إلا الخلق والاختراع والتجديد والتصحيح في الأفكار العامة ثم في المعاني الجزئية والألفاظ والأساليب؟!
إن من يعيبون الشاعر العظيم بهذا يغضُّون عن جنَّاته وعيونه، ويصدفون عن أزهاره ورياحينه، ولا يُبصرون إلا شوكةً في غصن ورد أو ورقة ذابلة في شجرةٍ ناضرة، كالذي نظر في ترجمة رسالة المشرق وضرب الكليم إلى العربية فعَبسَ وبَسر، وأعرضَ عن النظم الرائق، والسَّبك الرائع، وذهب يلتمس رباعية جعلتها مِثالًا للقافية المردوفة في اللغة الفارسية، وأنا أعلم أنها غير مألوفة في العربية، وقال هذه لا تُمثل نفس إقبال، وكأنِّي لم أترجم من شعر الشاعر إلا هذه الرباعية. وما للإنسان حيلة فيمن يرون كلف البدر ولا يُبصرون نوره، والذين يعيبون الجواد المطهم الأشهب بشعراتٍ سودٍ في ذيله ولا يُعجبون بشيءٍ من محاسنه. وليت شعري متى يقرأ المُتأدبون بآداب الإسلام قول القرآن الكريم: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
لقد صدق إقبال حين قال في رسالة المشرق:
•••
على أن إقبالًا يقول في مقدمة أسرار خودي:
يقول إنه لم يقصد في هذا الديوان إلى الشعر صوره وأخيلته ومبالغاته، وإنه لم يحكم الفارسية ولا يزال هلالًا كأسه خالية من الشراب.
وهذا تواضع إقبال، وللأدب رأيه في الاعتراف بتبريزه فيما نظم من شعر أُرديٍّ وفارسيٍّ.