الأدب دين والأدباء كهنته
لكل أمة خصائصها التي تستوعب نشاط أبنائها، والشباب والطلبة هم أعظم من يمثلون هذه الخصائص، ففي إنجلترا نجد العناية الكبرى بالرياضة ومبارياتها، وأحيانًا تستوعب أخبارها أكثر من صفحتين في الجرائد اليومية، ولكننا لا نجد في فرنسا مثل هذه العناية بالرياضة، وإنما نجد في مكانها عناية بالأدب.
والمدارس الفرنسية الثانوية هي في صميمها كليات للأدب الفرنسي؛ ذلك أن الطالب يدرس اللغة دراسة وافية، ويدرس أدباء فرنسا القدامى والمحدثين بالروح الوطني والذوق الفني، وبعيد أن تجد طالبًا يخطئ في لغته حين يتكلم، فضلًا عن الخطأ في الكتابة.
وفي باريس هذه الأيام حركة أدبية تندغم فيها السياسة والدين والفلسفة، هي الحركة الوجودية التي يتزعمها بول سارتر.
ولهذه الحركة عبرة، بل عبر كثيرة، فإن وصولها إلى الجماهير، بل إلى العامة، برهان على ارتفاع المستوى الثقافي بين الشعب؛ ذلك أن لها أنصارًا وخصومًا من الشعب، وهي سياسة من حيث أنها تخاصم المذهب الاشتراكي الماركسي، وهي دينية من حيث أنها تلغي الغيبيات التي يرتكز عليها الدين، ثم هي أيضًا تأخذ مكان الدين في تعيين الأخلاق والقيم الإنسانية، ثم هي فلسفية، أو هذا ما تزعمه، من حيث أنها تعالج المشكلات التي يعالجها الفلاسفة، كالمبدأ أو الميعاد، والمصير، والأسلوب، والكائن البشري بين كونه وبين خلاصه، أو بين نشأته وبين نضجه.
ولست هنا أقدح أو أمدح هذه الوجودية، ولكني أستخلص منها هذه العبر التي ذكرت، وأحب أن أؤكد أن أعظم هذه العبر هي أن الأدباء يقومون في فرنسا منذ بداية هذا القرن مقام الكنيسة والكهنة، والشعب يسترشد بأناطول فرانس، وأندريه جيد، وهنري باربوس، وبول سارتر، كما كان يسترشد أسلافه بكهنة الكنيسة وقديسيها.
وهذا طراز آخر من الأدب لم نعرفه نحن في تاريخنا الأدبي، إلا إذا عزونا إلى المعري هذه النزعة، أو هذا الموقف، حين أخذ على نفسه الاضطلاع بتعيين الأخلاق ورسم القيم، وقد فعل ذلك في حذر وتردد، وأحيانًا في مراوغة وتهارب، وقد كان المعري بشريًّا ينكر الغيبيات.
أما أدباء فرنسا فيضطلعون بهذه التبعات دون خوف، وهم يوجهون أدبهم هذه الوجهة منذ بداية القرن العشرين، وكثيرًا ما أقرأ لأحد الناقدين نقدًا موجهًا إليهم فلا أدري هل هو ينتقد ديانتهم أم سياستهم أم فلسفتهم أم أخلاقهم أم فنهم؟
والواقع أنه ينتقد، أو هو يحاول أن يستوعب في نقده كل هذا، وقد سبقت هذه النزعة الأدبية الاستيعابية للحياة محاولات ابتدائية من «بلزاك» و«فكتور هيجو» و«زولا».
فإن بلزاك الذي يعد أعظم القصصيين في القرن التاسع عشر قد استطاع أن يجعل القصة مسرحًا للنقد الاجتماعي، وهو نقد دقيق وبصير معًا، ولكنه لم يكن على وجدان الأدب الفرنسي الحديث، بأن الأديب يجب أن يكون على إيمان وكفاح، كما نجد في هنري باربوس مثلًا، ثم جاء بعد بلزاك فكتور هيجو، فكان مكافحًا في السياسة يدعو إلى الجمهورية كما كان في «البؤساء» بصيرًا بالخفايا الاجتماعية والشقاء البشري.
ثم جاء أميل زولا الذي نهج نهجًا جديدًا في «الطبيعة»؛ أي نقل الحقائق البشرية كما هي بلا تزويق أو مداراة، وشرح الطبيعة البشرية عارية مكشوفة، وقد وجد في أيامه أنصارًا يحبون الصدق ولو آلم، كما وجد خصومًا يكرهون الحقائق لبشاعتها.
وهذه البذرة التي زرعها أميل زولا، وهي التزام الحقائق وتحري الصدق دون القناعات المخفية، هذه البذرة هي التي نبتت في القرن العشرين وجعلت الأدباء الفرنسيين يجابهون المجتمع ويكشفون عن حقائقه في استقلال الرأي وثبات القصد.
ووافق ذلك تقهقر الكنيسة، وفي فرنسا تقاليد — منذ الثورة الكبرى — ضد الكنيسة، وقد انتهت هذه التقاليد إلى فصل الدين من الدولة في أوائل القرن الحاضر، وسار التعليم مدنيًّا بحتًا، حتى إن أمثلة النحو والصرف في الكتب الابتدائية كان يعنى مؤلفوها فيها بحذف الكلمات التي تدل على معنى كنسي أو ديني.
وزاد في تقهقر الكنيسة أن الروح المادي تفشى وساد العقول، ولذلك ما ندهش له نحن في مصر لم يعد له من الخطورة ما يدعو إلى أقل الاستغراب، فضلًا عن الدهشة، في فرنسا، فإن بول سارتر مثلًا يجعل الإلحاد أساس فلسفته، دون مبالاة للرأي العام.
وليس بين الأدباء من هو أحب إلى القلوب من «أناطول فرانس»، ومع ذلك لا يخلو كتاب لهذا الأديب من زندقة، وهو على الرغم من استغراقه في كلمات الشعائر والعبارات الدينية، بل على الرغم من الإحساس الديني العجب الذي يتسم به، يعود على الكنيسة بالثورة ثالبًا جاحدًا، ولكنه يجحد بلا غضب؛ إذ هو يضحك على الدوام، ويضحك في حنان من خصومه.
ثم يجيء «أندريه جيد» وهو بشري الدين، يجحد الغيبيات والأساطير كلها، ويدعو الإنسان إلى أن يرتفع فوق نفسه وينشد الهدف الأعلى بعد الهدف العالي، ثم هو يكافح في السياسة، فيؤلف ضد الاستعمار وضد الاستغلال، وأحيانًا يستهتر، ولكنه في استهتاره يحس بالتبعات الفنية حتى لتكاد تحكم عليه بأنه إنما يستهتر للتجربة الفنية فقط.
وفيما بين ١٩٢٠ و١٩٣٥ نجد كاتبًا عاصفًا هو «أنري باربوس» يكتب، ويعمل، إيمانًا وكفاحًا، وهو يلخص في أدبه، في فلسفته، في سياسته وديانته، كل هذه النزعات التي سبقته، ولكنه يمتاز عن جميع هؤلاء الذين سبقوه أنه مع الشعب، ولذلك كان صحفيًّا كما كان مؤلفًا، وشيعته باريس عند وفاته في سنة ١٩٣٦ كما لم تشيع كاتبًا آخر منذ وفاة فكتور هيجو.
وأخيرًا نجد «بول سارتر» الذي يمكن أن نعده خصمًا سياسيًّا لأنري باربوس، ولكنه فيما عدا السياسة يمتاز على كل من سبقوه من حيث أنه جعل الفلسفة موضوع المقهى والجريدة يناقشها العمال والطلبة كما يدرسها الأثرياء من النساء والرجال.
وليس شك أن هناك نزعات استهتارية في الأدب الفرنسي، كما نرى مثلًا في مارسيل بروست أو بودلير، على اختلافهما، ولكن يجب أن نعترف أن هذا الأدب ينحو في مجمله نحو الجد والإحساس بالتبعات الاجتماعية، ومن هنا هذا الاحترام الذي يجده من الجمهور، وهو احترام يأخذ مكان الاحترام السابق للكنيسة.
وبكلمةٍ أخرى نقول: إن الوجدان الأدبي في فرنسا، بل في الأقطار الأوروبية جميعها، يأخذ مكان الوجدان الديني، والمؤلف العظيم لا يكتب ليُسرِّي عن قارئه همومه، ويرفِّه عنه، بل هو يزيده همومًا ويبعث فيه اهتمامات روحية، ويحمِّله تبعات اجتماعية جديدة، وهو هنا مثل الرسام الجديد؛ فقد كان الرسام القديم يرسم الصورة الجميلة للمرأة الجميلة، أما الرسام الجديد فإنه يعنى برسم المشكلات والأهداف، ولا يبالي أن يحزنك أو يبعث فيك الاشمئزاز، فأنت تنظر إلى الرسم لتدرس وتتألم، وليس لتتسلى وتسر.
وهكذا الشأن في الأدب، فإن رسالته العصرية دينية، ولكنها مع ذلك بشرية.
وهذه الجملة الأخيرة تحتاج إلى تفسير؛ ذلك أن الأديان الغيبية القديمة كانت تحمِّلنا تبعات وتطالبنا بواجبات، ولكن القيم الأخلاقية والاجتماعية في هذه الأديان كانت قيم الآخرة ولم تكن قيم الدنيا، فكان علينا أن نكون صالحين نمارس الفضيلة، ونصلي، ونصوم، حتى نستمتع بالفردوس ولا نتعرض للعقوبة بعد الموت، فالقيم هنا أخروية، ولكن الأدب الفرنسي العصري، بل الأوروبي كله، يحمِّلنا أيضًا تبعات ويطالبنا بواجبات، القيم الأخلاقية والاجتماعية فيه هي قيم الدنيا فقط، فيجب أن نكون صالحين، وأن نمارس الفضيلة؛ كي نخدم المجتمع البشري ونرقى بشخصيتنا أخلاقًا ومعارفَ، ونجعل من كوكبنا فردوسًا نجد فيه السعادة والخير والشرف.
ومن هنا المبدأ الأول في «فلسفة» أو أدب بول سارتر، وهو الإلحاد، ومع أن هذا المؤلف يدعونا إلى التحرر من الديانات الغيبية، ومن المجتمع، فإنه يعترف بأننا في هذه الحالة، أي بعد التحرر، سنعيش في ظلماء عمياء بلا بوصلة وبلا نجوم، وعلينا عندئذٍ أن نشق طريقنا وحدنا دون أن ننتظر أية معونة، ودون أن نستند إلى أي سلطة سوى ضميرنا.