نزعتان في الأدب والفلسفة
يكابد العالم هذه الأيام ألوانًا من الشقاق والخلاف في اتجاهات السياسة وعقائد الاجتماع ونزعات الأدب والفلسفة، تبعث على التحزب والتعصب، بل لعلها تبعث أيضًا على الحرب.
والأديب، حين ينزع النزعة الفلسفية في أدبه، يكبر خطره وأثره؛ لأنه لا يؤلف هنا للخاصة من المفكرين الذين يتحملون العبارة المعقدة والمعنى الغامض، وإنما هو يكتب لسواد الشعب الذي يجد فيه الإيحاء والإغراء بما يؤلف من قصص أو ينظم من أشعار في أسلوب ميسر وكلمات عذبة ملهمة، وعندئذ ترسب آراؤه وأهواؤه في نفوس الشعب فتعود نزعات للخير أو نزعات للشر.
ولكن ما نظنه ابتكارًا في الأديب إنما هو في النهاية ما تبلور في نفسه من المجتمع الذي يعيش فيه، حتى ولو كان ما يخرج به على المجتمع يناقض وجوده، أي وجود هذا المجتمع، ولا يعدو الأديب أن يكون موسيقيًّا أو مغنيًا حتى ولو لم يعرف الموسيقا أو الغناء، فهو يتقبل ويتلقى من المجتمع الإحساسات والعواطف التي تتبلور في نفسه، فيخرجها فنًّا موضحًا يعرفه المجتمع ويلتذه؛ لأنه يجد فيه التعبير عما كان في نفسه غامضًا غير موضح.
ولهذا أعتقد أن أعظم ما سوف يدل على التغيير في مجتمعنا أن تتغير أغانيه وموسيقاه وأدبه.
وإني ذاكر هنا أديبين هما نقيضان، تبلورت في كلٍّ منهما نزعة حتى كادت تبلغ الجنون، بل بلغته في أحدهما الذي مات في المارستان، في حين أن الآخر قد انتابه الجنون في خفة فكان يشطح ثم يفيق.
أعني بهما «المركيز دوساد» الذي مات في سنة ١٨١٤، و«جان جاك روسو» الذي مات في سنة ١٧٧٨.
كلاهما فرنسي، وكان كلٌّ منهما يعرف الآخر؛ فقد التقيا في سويسرا، وقد قرأ ثانيهما كل ما كتبه أولهما، ولا بد أن روسو قد عرف عن حياة دوساد الكثير الذي اشمأز منه، ولكنه لم يكترث للرد عليه.
ومع أن الهوة الزمنية التي تفصل بين الأدب الحديث وأدب هذين الاثنين كبيرة، فإن إيحاءهما لا يزال قويًّا عميقًا، حتى لتكاد، حين تقرأ نيتشه أو سارتر مثلًا، أن تحس بإلهام المركيز دوساد: أنا وحدي. أنا محور الكون. إني لأفخر بأنانيتي. مذهبي هو أن يسعى الإنسان منفردًا.
وكذلك حين تقرأ لتولستوي أو أناطول فرانس تحس بإلهام جان جاك روسو: إنما دلالة وجودي أن أحيا للمجتمع، وأن أحب الأرض والناس، وأن أدعو للسلام والتعاون للإنسانية.
وإذا شئنا الإيجاز في كلمات قليلة قلنا: إن المركيز دوساد يؤمن بأن الطبيعة البشرية عدوانية، وأن أساسها الرغبة في التحطيم، وأن ما نسميه لذة إنما هو تحطيم وهدم، بل تعذيب.
ومن هنا سمى الشذوذ الجنسي، الذي يفسد الرجل السوي ويتخذ فساده نزعة إلى التعذيب، سميَّ السادية.
ولكن حين نقول إن نيتشه أو سارتر ينزعان إلى المركيز دوساد لا نعني بالطبع أنهما يسيران إلى آخر الشوط الذي قطعه، ولكننا نقصد إلى أن الاتجاه السادي عند المركيز دوساد ينبع من القول بأن أساس الود البشري هو الأنانية العدوانية ونشدان السعادة الفردية التي يجب ألا يخالطها أي اعتبار للمجتمع.
وجميع الوجوديين من أتباع سارتر يعترفون بأن نيتشه كان أحد الآباء الروحيين للمذهب الوجودي.
وما هي دعوة نيتشه؟
العجب في نيتشه أنه أناني؛ لأنه يريد أن يكون إيثاريًّا، وكأنه يقول: يجب على كل إنسان أن يحب نفسه فلا يعين ضعيفًا؛ لأن مصلحة المجتمع في المستقبل إنما هي زوال الضعف، فلنترك الضعفاء يموتون وينقرضون؛ لأن انقراضهم يتيح للمجتمع أن يرقى ويزداد قوة بعد قوة!
وإذن أنت تحب نفسك وتؤثرها على غيرك على سبيل التضحية، بحيث تنكر إحساسات الحب والحنان والعطف وتأخذ بشيء من قوانين الغابة التي لا ترحم ضعيفًا أو كسيرًا أو جريحًا.
هذا نيتشه، وقد قال أندريه جيد: يجب أن تموت البذرة كي تولد مرة أخرى.
ولكن ليس في هذه العبارة ما يمكن أن يحمل على أنه من إيحاء المركيز دوساد، وإن كانت تنحو منحاه؛ إذ هو يقول بأن الحياة تحتاج إلى التحطيم قبل أن تتجدد، ونحن نجد في سارتر دعوة عنيفة إلى الانفرادية تنكر الاتجاهات الاشتراكية وتقول بمسئولية الإنسان أمام نفسه وليس أمام مجتمعه، وقد نجد إنكارًا لهذا القول في بعض كلماته، ولكن منحى فلسفته يؤدي إلى هذا الاستنتاج.
كانت آراء المركيز دوساد، ثم نيتشه، بمثابة من يقول: اعتمادي في هذه الدنيا على عقلي وليس على إحساسي، وقوتي وليس حناني، وكذلك — بدرجة أقل — الحال مع سارتر.
لقد عاش دوساد حياة مليئة بالرذيلة الجنسية «السادية»، وألف في ذلك القصص التي يعزف عنها العقل الاجتماعي السليم، ولكن إيحاء شره يمتد عبر القرن التاسع عشر ويثير من وقت لآخر هاجسًا من أصوات الغابة، ثم هو يخلف آثارًا تدق حتى لتكاد تخفى في صفحات الأدب والفن.
وحين نترك دوساد ونقصد إلى روسو نحس كما لو كنا قد خرجنا من قبو مظلم قد تأكَّلت الرطوبة جدرانه، كذلك القبو الذي سجن فيه هو أكثر من عشر سنوات، إلى الهواء المنعش والشمس الضاحية.
نحس في حياة روسو ومؤلفاته إحساسات الحب، أي الحب للمرأة، زوجة وأمًّا، ونحب الدنيا والطبيعة، ونحب المساواة والإخاء، ونحب الشجر والزهر.
كان دوساد يفكر بعقله في قسوة المنطق، وهو على الدوام منطق الغابة.
وكان روسو يفكر بقلبه في رحمة الحنان وجمال الإنسانية.
ونستطيع أن نقول إن الفساد الذي وقع فيه دوساد هو فساد الحضارة المنحلة التي عاش فيها معظم حياته قبل الثورة الكبرى في ١٧٨٩، كما نستطيع أن نقول إن الصفاء، والرقة، وحلاوة النفس، وجمال الإنسانية، هذه الصفات التي اتسم بها روسو في مؤلفاته، هي ثمرة حياته الساذجة وجهله، في أيام شبابه، ببهارج هذه الحضارة.
بل لقد كان أول مؤلفاته رسالة يقول فيها إن الإنسان سعيد أصلًا، ولكن الحضارة تشقيه، وهو الذي أضاف إلى مبدأ الحرية للثورة مبدأي المساواة والإخاء.
بل، لقد أحب الفقر وأصر على أن يعيش فقيرًا؛ لأنه وجد أن الثراء قيد يحول دون الحرية.
لم يقيد نفسه بعادات الأثرياء وتكاليف المتمدنين!
وهو، على الضد من الانفراديين، كان يدعو، أو بالأحرى نحن نفهم منه، أنه يقول بالاشتراكية المسيحية، ولكنه مع ذلك لم يكن معدودًا من المؤمنين؛ فإن بعض مؤلفاته قد أحرق، كما طورد هو؛ لأنه اتُّهم بالكفر …
وعجيب حقًّا أن يقال عنه إنه نقل الإحساس الديني من المسيحية إلى الطبيعة، وأن يؤلف كتابًا عن التربية يقول فيه بمعاملة الأطفال بالحب بدلًا من العصا، وأن تقول زوجته عقب وفاته: «وإذا لم يكن زوجي قديسًا فلست أعرف من هو ذا القديس!» عجيب أن تُتَّهم هذه الشخصية بالكفر …
وهو يعد رائدًا للأدب الحديث من حيث أسلوبه وأفكاره معًا، فإنه يكتب في بساطة تكاد تكون سذاجة، وفي كتابه «الاعترافات» يكشف عن قلبه، ويقول كل شيء بلا عائق نفسي؛ ذلك لأنه يحب الناس ويأتمنهم على أسراره.
•••
في عالمنا الحاضر — كما قلنا — نزعتان لكلٍّ منهما مركباتها.
الانفرادية، التي وصلت إلى الشطط عند المركيز دوساد، هي المباراة الحرة التي تقول بالموت للمهزوم، والتي يسرف دعاتها في شطط أيضًا حين يتخذون شعارًا: «الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب.»
الانفرادية السادية هي التي عمل بها هتلر في سجونه مع كل من خالفه بالتعذيب.
والانفرادية — السادية — أيضًا هي التي تبعث هذا الروح العدواني وتبصق على وجه الزنجي كأنه ليس إنسانًا.
وهي التي تقول بأن العصا تربي الطفل، وأن المجرم يحتاج إلى التعذيب بالسجن الشاق.
وهي التي تقول، في فلسفتها أو غيبياتها، إن المرأة يجب أن تظل خادمة الرجل وليست زميلته.
هذه الانفرادية تعتمد على مذهب العدوان باعتباره أصيلًا في الطبيعة، أليس تنازع البقاء من قوانين الطبيعة؟ وإذن لا مندوحة عن الحرب ونهب الشعوب وضرب المدن بالطائرات التي تقتل الشيخ والشاب والأم والطفل!
والانفرادية في الأدب هي مذهب الأدب للخاصة التي تسود العامة بتقاليدها وتراثها وميزاتها واحتكاراتها.
وهي مذهب المحافظين والإمبراطوريين.
وهي أشعار «كبلنج» شاعر الإمبراطورية الذي لا يتورع من أن ينصح للجنود الإنجليز أن يبقروا بطون الزنوج وأن يضربوا الهنود، وليس عجيبًا أن يعجب تشرشل بأشعاره.
ونيتشه هو تلميذ دوساد، ولكن التلميذ هنا يفضُل أستاذه، ويتوغل في المستقبل إلى أنانية فلسفية غايتها ارتقاء الإنسان كما توهمه.
•••
هذا هو التراث الذي يمكن أن نعزوه إلى دوساد، أي أننا نجد في مجتمعنا مركبات سيكلوجية ومذهبية وسياسية لها منطق، حين نقرأ وندرس حياة دوساد.
ولكنَّ لنا تراثًا آخر من جان جاك روسو.
هو أن الطبيعة البشرية ليست عدوانية، وأن الحب يغمرنا، ونحن ننزع إلى التعاون والرغبة في مساعدة الضعيف أكثر مما ننزع إلى الأنانية والعدوان.
ثم نجد المركبات لهذا المذهب.
في الطبيعة تعاون كما أن فيها تنازعًا، ولكن التعاون يغلب، وكلما ارتقت الأحياء ازداد اعتمادها على التعاون؛ فإن العائلة توجد في الطيور والرواضع، وهي أرقى الحيوانات، ولا تترك الأطفال عرضة لتنازع البقاء، كما هي الحال في الحيوانات الدنيا، وعند الإنسان مجتمع يكفل التعاون لأفراده فوق تعاون العائلة.
وروح روسو تتضح في مذاهب التربية الحديثة، وهي جميعها تقاطع العصا في تربية الأطفال وتعتمد على الحب.
وكذلك الشأن في معالجة الجريمة بالتعليم والرعاية، وليس بالعقوبة والتنكيل.
وكذلك الشأن في المرأة التي ترتفع بالتعاون إلى الزمالة للرجل.
وكذلك الشأن أيضًا في دعوة المساواة بين الشعوب، سوداء وصفراء وبيضاء وسمراء، وهي دعوة البر والخير ومكافحة الحروب.
وأخيرًا هي في الأدب، أسلوبًا وهدفًا، حركة شعبية سوائية إخائية إنسانية.
أيها القارئ، هل أنت انفرادي النزعة مع دوساد، أم تعاوني النزعة مع جان جاك روسو؟ ما هي فلسفتك الأدبية والاجتماعية؟
هل تقول بالتنازع أم بالتعاون بين الأفراد وبين الأمم في ١٩٥٤؟