أدب الاعتراف
ذلك أن الكاتب حين يؤلف قصة، أو يكتب مقالًا، أو ينقد رأيًا، أو يدعو إلى مذهب، إنما يصدر في كل ذلك — إذا أخلص — عن نفسه، وأبطال قصصه إنما هي تمثيل لبطولته هو، وفضائله ورذائله هو، وهو بالطبع يعمد إلى خياله كي يتعوض به مما كان ينقصه في حياته، أو هو يزيد وينقص في الحوادث كي يلائم بين ما يجب وبين مجرى القصة.
ولذلك قيل بحق إننا نترجم عن أنفسنا ونروي أحداث حياتنا في القصة الخيالية بأكثر صراحة مما نرويها في الترجمة الذاتية؛ ذلك لأن القصة، بما تنطوي عليه معانيها أمام القارئ والمؤلف معًا، تعطينا من الحرية في القول ما لا تعطينا إياه الترجمة الذاتية، ولكن، ومع ذلك، نحن في حاجة إلى الترجمة الذاتية، وأدبنا العربي يحتاج إلى هذا الطراز من الاختبار الفني؛ إذ إن المؤلف، إذا كان على شيء من الجرأة يستطيع أن يقف عريانًا أمام القراء، وإذا كان على حق في مواقفه الاجتماعية أو الإنسانية فإنه لا يبالي أن يعارض ويجابه خصومه ويبرز هذه المواقف العديدة التي وقفها في مجتمعه أو من أحداث العالم.
وما دامت الأحداث والمصادمات التي لقيها هي نفسها أيضًا تلك التي لقيها القراء، فإنه، بالاعتراف، يزيد وجدان الدنيا لهم، وبذلك يزيد إحساسهم وذكاءهم وحملهم على النقد لأنفسهم وللمجتمع.
وحين تكون هناك ثورات أو انقلابات نحس الحاجة إلى الاستنارة بالوقوف على التفاصيل الخفية التي تغير بها الإحساس واتسع بها الوجدان، ومن هنا قيمة الاعترافات التي يدلي بها سياسي كابد الأحداث السياسية وكان على القمة يرى أكثر مما يرى غيره، ومن هنا شوقنا إلى قراءة ما يكتبه الساسة من ذكرياتهم، وقد لا يكون الكاتب هنا أديبًا، ولكنه عندما يكون شجاعًا ومخلصًا يؤدي لنا باعترافاته خدمة عظمى في التنوير الاجتماعي كما قد يؤدي لنفسه توبة يتطهر بها من جرائمه التي ارتكبها عن عمد ووجدان أو عن سهو وغفلة.
وأكاد أقول إن حياة كل إنسان جديرة بأن تروى على حقائقها مهما يكن أسلوبها أو غايتها، فإن الرجل أو المرأة التي تحيا على هذه الدنيا سبعين أو ثمانين سنة جديران بأن يقصا علينا حياتهما في النجاح والخيبة، وأن يصفا لنا الأمل الأول واليأس الثاني، وما لقيا من ارتباك وتوتر وانفراج، بل لعل الخائب هنا أقدر على تنويرنا من الناجح؛ لأنه، حين يقص علينا ظروف خيبته أو خيباته ويحلل أسبابها، إنما ينقل إلينا العوامل البانية والهادمة في تاريخ عصر أو في تاريخ إنسان، ولكن عبارة «يحلل أسبابها» تجعلني أقصر القدرة على الأديب أو المفكر أو العالم الاجتماعي أو الفيلسوف، ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك، حتى من العامة الذين لم يتعلموا، من لا يستطيع رواية الأحداث التي وقعت لهم في حياتهم، وقد ننتفع بجهلهم هذا حين نجد أثره في استصغار أو استكبار بعض الأحداث وفي معانٍ من المعرفة أو من التعليم.
ولكن الأديب هو من يترجم بحياته؛ لأنه أقدر من غيره في التعبير، والقدرة على التعبير هي في النهاية قدرة على التحليل والتعليل والتأليف والبناء، وقد رأى أدباء مصر السواد والظلام في بلادهم، بل رأوا المظالم تترى، والنفاق والخسة والفسق تسير جميعها في ركاب مطهم، كما لو كانت فضائل عليا، بل لعلنا رأينا الجهل يكافأ كما لو كان نورًا تحتاج إليه البلاد.
رأى الأدباء والساسة كل ذلك وأكثر منه، وعليهم لذلك دين يستحق الأداء للشعب؛ هو أن يعمدوا إلى أقلامهم ويرووا قصص هذا الظلام والسواد للعبرة والدلالة والمغزى.
والأديب المخلص لا يستطيع أن يخلص لقرائه إلا إذا أخلص لنفسه؛ لأنه بهذا الإخلاص لنفسه حالات من العيش والتفكير والأهداف والوسائل يؤمن بها ويمارسها، ولذلك يحاول أن يحمل غيره على الأخذ بها.
ولذلك خير ما يؤلف الأديب هو نفسه، هو شخصيته.
وحين نطالبه بالاعتراف إنما نطالبه بأن يرسم لنا هذه الشخصية، كيف صاغها؟ كيف اختار؟ كيف نجح أو لماذا خاب؟
أعتقد أن حياة جان جاك روسو التي وصفها لنا في كتابه «اعترافات» هي خير ما كتب في طراز الأدب هذا؛ فإنه تجرد من جميع الستائر التي كانت تستره ووقف عريانًا يقول في صراحة: هذه هي رذائلي وكوارثي وخيباتي، وهذه هي فضائلي وحظوظي وإنجازاتي، ونحن نقبل عليه، ونصد عنه، في كثير مما يروي، ولكننا في النهاية نحبه؛ لأنه أخلص للحياة، وعاش وفق ضميره، وجرؤ على أن يختار دون خوف من المجتمع الفاسد الذي كان يعيش فيه.
وقصة الحياة ليست، عند الأديب، رواية ما وقع له من حوادثَ ومصادماتٍ أو حظوظٍ فقط، وإنما هي وقع كل ذلك في نفسه، أي، بكلمة أخرى، هي الإحساسات والرجوع والاستجابات التي تلقاها بها.
ولأن روسو كان مخلصًا في رواية حياته، فإننا نرى فيه سيرة شخص هي سيرة أمة كاملة بما فيها من أهواء ومفاسدَ واتجاهاتٍ ومفاخرَ، ومع أنه قد مضى على تأليفه لهذه السيرة قرابة مائتي سنة فإننا ما زلنا نقرؤها ونقف عند سطورها نتأمل ذكاءه وجراءته، ونعجب بالاستقلال الروحي الذي نقله هذا المسيحي من الإنجيل إلى الطبيعة، وحين أَحَبَّ، وحين بغض، وحين تعلم، وحين علم، وحين قال: أؤمن، وحين قال: لا أؤمن …
ألسنا هنا نجد إنسانًا؟
وإنسان آخر كتب ترجمته الذاتية، هو مكسيم جوركي.
فقد نشأ هذا الإنسان العظيم في بيئة منتنة تكفي لتخريج مائة مجرم؛ إذ كان أعضاء أسرته، وأعني الأسرة لا العائلة، أعني الأعمام والأخوال والآباء والجدود، كان أعضاء الأسرة هؤلاء أدنياء أخساء، يتسولون ويسرقون ويقتلون، ولم يكن بينهم غير جدته التي رأى فيها الخير فأحبها، وأحب الخير، وعاش للخير.
وعاش في طفولته وصباه في الظلام والسواد اللذين عشنا في مثلهما تحت طغيان أسرة محمد علي، وكانت أسرة رومانوف في روسيا لا تختلف خسة ودناءة عن أسرة محمد علي في مصر.
وقد توج فسادها راسبوتين، وكانت روسيا تعرف الجوع والعري كما عرفناهما، وكانت تعرف الجهل والدعارة والفقر يستغلها جميعها الأقوياء الطغاة كي يتفوقوا.
وتعلم مكسيم جوركي، أي علَّم نفسه.
علم نفسه في عدة جامعات: في المخبز يعجن ويخبز، وفي الباخرة يمتهن أقذر أعمالها، وفي المتجر والمصنع، وفي خدمة البيوت والمكاتب وتصعلك وتسكع.
أي إنه رأى الدنيا رؤية خطرة.
ذلك أنه كان على جرف الهاوية التي كان يمكن أن تجره إلى حبل المشنقة أو سيبيريا المؤبدة، ولكنها رفعته إلى قمة العبقرية؛ لأنه أحب الناس فاهتم بشئونهم وكتب عنهم.
وليست العبقرية شيئًا آخر سوى هذا الحب، ثم هذا الاهتمام الذي يحملنا على الدرس والتفكير والبحث والتأليف، والكاتب الذي لا يهتم بالمجتمع الذي يعيش فيه لا يمكنه أن يحس ما فيه من فقر وبؤس وحرمان وجهل، ولذلك لا يمكنه أن يكتب عن هذا المجتمع، بل هو يفر منه إلى موضوعات أخرى لا تمس مجتمعه، وتذهب عندئذ طاقته الأدبية ضياعًا وهباءً في بحث موضوعات لا تمتُّ إلى عصرنا بصلة، بل هو ينتهي بأن ينفصل ذهنيًّا وجسميًّا وماديًّا عن مجتمعه حتى ليقطن في حي لا يعرفه ٩٩٩ في الألف من الشعب الذي ينتمي إليه.
لقد تفوق على المجتمع، وانفصل منه.
لقد اختار جان جاك روسو الفقر عن إرادة ووجدان حتى يبقى متصلًا بالشعب، وكذلك فعل مكسيم جوركي، وكلاهما بذلك أكسبنا إحساسًا جديدًا، واستطلاعًا جديدًا، ونظرة ونبرة جديدتين، أي أعطانا كلاهما حياة جديدة.
إن الأديب يخلق طرازًا جديدًا من الحياة؛ لأنه، بما يؤلف، يغير النظرة والنبرة للدنيا.
ولست أنكر أني أكره أشياء في حياة كثيرين ممن ألَّفوا تراجم حيواتهم، ولكني أنكر كذلك أشياء كثيرة في الدنيا والحياة، وحين أطلب الإخلاص من المؤلف لا أعني أن يزوق نفسه ويبدو لي نظيفًا طاهرًا جميلًا؛ فإن الإخلاص يقضي علينا بأن نروي ما رأينا وما كابدنا من قذر ونجاسة وقبح.
ولكن شرطًا واحدًا يبقى؛ هو الإخلاص الذي يزكينا.
إن أدبنا في مصر والأقطار العربية يحتاج إلى الترجمة الذاتية، يؤلفها الناضجون الذين اختبروا الحلو وكابدوا المر، وعرفوا كيف يميزون وينصحون.