حياة الأديب جزء من أدبه
إذا كان الأدب اختيارًا للألفاظ وترتيبًا للمعاني، فهو صنعة فقط.
أما إذا كان حياة يحياها الأديب، وكفاحًا لتحقيق الإنسانية والشرف، فهو عندئذ فن.
وأعظم الفنون في العالم هو فن الحياة.
والفرق بين الصنعة والفن أن الأولى مهارة واختصاص، أما الثاني فتعميم واستيعاب.
اعتبر النجار أو المنجد الذي يصنع أثاثنا، فإن كل ما يعرفه أحدهما ويمهر فيه هو الصنعة، ولكن الذي يعين الأذواق في الأثاث هو الفنان؛ لأنه ينظر النظرة الاستيعابية لطائفة من المعاني العائلية والاجتماعية والذوقية حين يعين لنا الأثاث.
وكثير ممن يسمون أدباء في العصور الماضية لا يمكن أن يوصفوا إلا بأنهم كانوا يحسنون الصنعة، أما الفن، أي النظرة الاستيعابية للحياة، وفلسفة العيش ومعاني الحرية والولاء للبشر، وتقديس الفكر ومكافحة الظلم، كل هذا وأكثر منه، مما تعده في أيامنا من الهموم الأولى للأديب، فلم يكونوا يعرفونه إلا في الأقل أو النادر مثل المعري والجاحظ الأديبين الملهمين.
وعلة ذلك أن الأديب في العصور الماضية كان يكتب للملوك أو الأمراء أو الأثرياء، فكان يحس أنه خادمهم، وأن عليه أن يسليَهم ويرفه عنهم، أو يرصد حياته لتأليف القصائد في مديحهم كذبًا ونفاقًا.
وقد نسأل هنا: ألم يكن المتنبي أديبًا عظيمًا؟
وجوابي: لا، لم يكن أديبًا عظيمًا؛ ذلك أنه أرصد حياته، وهي أغلى ما يملك، كي يؤلف القصائد في مدح الأمراء والأثرياء، وأعظم منه في الأدب ألف مرة المعري، الذي أصر على أن يحيا حياته كما يمليها عليه ضميره، ولذلك تشع جميع قصائده إشعاعات الحرية والشرف والإنسانية.
كان المتنبي، في صنعة الأدب، يتفوق على المعري ألف مرة.
ولكن المعري كان يتفوق على المتنبي في فن الأدب مائة ألف مرة.
كان الأمير سيف الدولة موضوع المتنبي.
وكان البشر، الإنسانية، الشرف، الحرية، مكافحة الظلم، الإحساس الذكي نحو الشعب، موضوعات المعري.
ولو أن المتنبي والمعري كان يعيشان في عصرنا لكان الأول شاعر فاروق بلا حياء، ولكان الثاني داعية الإنسانية، يحارب الاستعمار ويكافح الاستبداد ويؤمن بالديمقراطية ويحطم الخرافات ويلقى الاضطهادات.
لقد كانت حياة المعري أدبًا، وقد أوشك على أن يفقدها لإصراره على الحرية، وهذا هو الشأن في الأديب العصري.
فإن حياته هي مؤلفه الأول في الأدب.
وقد وصلنا في هذا القرن العشرين إلى مواقفَ بشريةٍ جديدة برزت فيها الشعوب، فزاد الوجدان البشري عند الأديب، وصار يربأ بنفسه أن يكون خادمًا لملك أو أمير أو وزير، يسليه ويرفه عنه، أو يملقه ويثني عليه؛ ذلك لأن المشكلات البشرية الجديدة، السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية، قد ألهمته تبعات ثقيلة جديدة، فهو يجد نفسه كالمعري، ولكن في فهم أكبر ووجدان أعمق، مع الشعب، وأدبه هو أدب الكفاح الشعبي.
ولذلك فإن حياته أيضًا هي حياة الكفاح، هي أدب.
لقد ألف أميل زولا عشرات القصص الرائعة، ولكن أروع ما ألفه هو حياته حين هب يناهض الظلم ويكافح الإجرام.
وألف فكتور هيجو عشرات ومئات القصائد، ولكن خير ما ألف هو حياته التي أرصدها لمكافحة الطاغية نابليون الثالث.
ومن هنا هذه الظاهرة الجديدة؛ وهي الترجمة الذاتية؛ فإن الأديب الذي وقف في صف الشعب، وأحس إحساسه، ووجد وجدانه، وكافح كفاحه، يؤلف كتابًا عن تاريخ حياته؛ لأنه يجد فيها رمزًا للمشكلات العديدة التي حاول أن يحملها، وهو حين يكتب تاريخ حياته إنما يرمي من ذلك إلى بعث الحوافز للشباب، وزيادة وجدانهم وإشعال شرارة المستقبل في نفوسهم، حتى يؤلف كلٌّ منهم حياته أحسن التأليف وأروعه.
إني أجد أن كثيرًا من الالتباسات التي تنشأ بيني وبين من لا يروقهم نقدي أنهم يتحدثون عن الصنعة ويعجبون بها حين أتحدث أنا عن الفن؛ ولذلك يبرزون بيتًا أو أبياتًا من الشعر ويتحدونني بها من حيث جمالها أو حلاوتها، في حين أنا أنظر إلى الشاعر كله، حياته وعمله، وأقدر مكانته ودلالته منهما في الأدب.
ألم يفطن هؤلاء إلى أننا اخترعنا كلمة «فن» كي نعبر بها عن معنى لم يعرفه القدامى؟
لقد كان هؤلاء يصفون الشاعر بجودة الصنعة، ولكن هذا الوصف لم يعد يرضينا؛ لأننا نجد أن هذه الجودة تنصب على الكلمات والمعاني في البيت أو البيتين، أما الشاعر ومذهبه، وما له من نظرة ونبرة في الحياة، فلم يكن عندهم أي اهتمام بهما.
بل لقد وصلت إليَّ خطابات بهذا المعنى: ما قيمة حياة الشاعر في أدبه أو شعره؟
وردي الساذج هو: ما قيمة أي شيء في الدنيا، أي شيء إطلاقًا، إذا لم تكن هذه القيمة مقدرة بمقاييس الحياة؟ إذ هل لنا مقاييس أخرى؟
إن الرغبة في أن أبني هرم وجودي، بعد أن أرسيت أساسه، وأن أرتفع به إلى أعلى ما أستطيع في الفضاء، هذه الرغبة تستولي على سائر رغباتي ولا تكاد تخلي عني، ولذلك لا أجرؤ على التأخير؛ فقد تقدمت بي السن، وليس بعيدًا أن يفاجئني الموت وأنا في غمرة عملي دون أن أتم البناء لبرج بابل، وعلى كلٍّ فإني إذا مت فإن الناس سيذكرون التخطيطات الجريئة للبناء، وإذا لم أمت فإني — بمشيئة الله — سأتم البناء.
هذه الكلمات التي كتبها جيته هي إحدى محاولاته العديدة لتجديد حياته التي وصفها بأنها هرم، ثم بأنها برج بابل، بل هو لم يعبأ بأن يموت قبل أن يتم الهرم أو البرج؛ لأنه أحس أن الناس سوف يعجبون به؛ لأنه وضع «التخطيطات» أو كما نقول «التصميمات» للبناء.
ونحس ونحن نقرأ تاريخ حياته أنه تناول هذه الحياة كما لو كانت عجينة يجبلها من وقت لآخر في أشكالها المختلفة، فكان يفر من أصدقائه كي يتوفر على الدرس إلى بيت في الخلاء، بل لقد فر إلى إيطاليا، وكان يؤلف القصائد، ويدرس في الوقت نفسه تشريح الحيوان والإنسان، ويقارن بين النباتات، ويجمع الأحجار الدفينة كي يعرف تاريخها الجيولوجي، وإلى هذا النشاط كان يؤدي أعمالًا وزارية وإدارية وجامعية ومسرحية.
أراد جيته وهو في الثلاثين أن يرتقي، وأن يخرج من أسر الشهوات التي استبدت به وقتًا ما إلى منطق العقل، فوضع لحياته القادمة برنامجًا، حتى لا يعيش جزافًا أو سدًى، ومنذ تلك السن وحياته مليئة بالنشاط، يختبر ويدرس، ويستمتع ويسيح، ويحب ويخدم، ويقرأ ويؤلف إلى أن بلغ الثالثة والثمانين.
لقد عرف عني، منذ نصف قرن في بلادي وخارج بلادي، أني شاعر، وليس هناك من ينكر عليَّ هذه الهبة، ولكن ليس من المعروف عامة، كما ليس هناك من قدروا، أني اهتممت بجد وعناية مدة سنين عديدة بظواهر الطبيعة المادية والفسيولوجية، وأني أكببت على دراستها في مثابرة كانت تمليها عليَّ حماستي، حتى إني عندما أخرجت رسالتي عن تطور النباتات، قبل أربعين سنة، اهتم بها العلميون في سويسرا وفرنسا ولم يبدُ منهم ما يدل على الدهشة من أن شاعرًا قد ند عن طريقه واستطاع أن يهبط على اكتشافٍ خطير، وقد كتبت تاريخ دراساتي كي أنقض هذا الرأي الشائع عني، وهو أني شاعر فقط، وكي أوضح أني أرصدت جزءًا كبيرًا من حياتي لدراسة التاريخ الطبيعي الذي أغرمت به.
إن من يعرفون السحر الذي نحسه عندما نكشف عن أسرار الطبيعة لا يستغربون خروجي من الدائرة التي بقيت إلى الآن داخل نطاقها، وأني ألقيت بنفسي في طرب وحب في دائرة جديدة، ولست أخشى لومًا من أولئك الذين يجدونني متناقضًا؛ لأني تركت التأمل في القلب البشري، بالشعر، إلى التأمل في الطبيعة، بالعلم؛ إذ لا بد من التسليم بأن هناك علاقة حسية بين جميع الأشياء، وأن العقل المستطلع السائل لا يرضى بأن يحرم البحث فيما يمكن بحثه.
ومع أن جيته وجد من عيَّره بالاتجاه نحو العلوم إلى جانب اختصاصه بالآداب، فإنه لم يعبأ بهذا التعيير، بل لم يبالِ بقول «هيردر» عنه إنه يشغل نفسه بدراسة الخضروات والأحجار.
ذلك أن الهم الأول عند جيته كان ارتقاءه، وقد انتهى إلى أن هذا الارتقاء يجب أن يكون استيعابيًّا، يحوي كل شيء مستطاع من خبرة إلى دراسة، ومن أدب إلى علم، ومن هنا قوله: شخصيتي أكبر من فني.
بل إنه لم يتكبر على أن يقول إنه أخطأ، وإنه ألف مؤلفات سيئة يخجل منها، وكان من هذه المؤلفات قصته العاطفية المشهورة «آلام فرتر»، واعترافه بالخطأ هو إرادة جديدة للرقي.
وهنا يقول عنه المترجم بحياته هنري لويس: «لما عاد إلى فيمار تولاه الحزن؛ لأنه وجد كثيرًا من الخطابات بشأن قصته «آلام فرتر»؛ وذلك لأنه عرف أنه قد ترجم العواطف المسرفة أو الكاذبة إلى أشعار، ولم يكن هناك ما هو أبغض إلى طبيعته السليمة من هذه الإحساسات التي جعلته يخجل من قصته هذه، بل إنه شرع يكافح هذا المذهب الفرتري.»
وهناك من القصص ما هو مخاطي خاثر، ينزع بقارئه إلى الضعف والميوعة، مثل أحزان أو آلام فرتر، ومن هنا استنكار مؤلفها لها.
ويستطيع القارئ لحياة جيته أن يستخرج منها العشرات من العبر، أولها وأعظمها عزيمة الارتقاء التي لا تهن، فإنه كان سريعًا إلى تغيير دراساته، كما كان مكبًّا على الاختبارات التي يستمتع بها أو ينتفع، وشعاره في كل ذلك: الارتقاء.
والعبرة الثانية أنه فطن إلى أن الحياة كل يستوعب، وليست جزءًا تتخصص فيه؛ ولذلك هو لا يبالي أن يعيِّره «هِردر» بأنه ترك الأدب كي يدرس الخضروات والأحجار؛ لأنه وجد في العلم قيمة لم يجدها هيردر.
والعبرة الثالثة هي النضج؛ فإنه عندما رأى أن قصته آلام فرتر تجعل الشباب يحلمون ويهيمون في العواطف الكاذبة، سارع إلى الدعوة ضد ما ألفه وإلى أن العقل يجب أن يسود العاطفة.
والعبرة الرابعة أنه كان ينظر إلى الدنيا، بل حياته، النظرة الموضوعية، حتى لنجده في سن الثلاثين يضع التخطيطات لما سماه «هرم حياتي».
وفي كل هذا ما يجب علينا أن نعرفه ونحتذيه.
أي يجب أن نكبر فلا نترك حياتنا لغوًا بلا دلالة، ويجب أن نقف من وقت لآخر تلك الوقفة التي وقفها جيته، يتأمل ماضيه ويستطلع مستقبله ثم يضع البرنامج.
وأخيرًا يجب أن نستوعب الدنيا، بل الكون كله، في عقولنا حتى ننضج، وأن تكون لنا على الدوام إرادة الرقي التي كانت الميزة الأولى في حياة جيته.