القصة المصرية
يتفشى بيننا هذه الأيام نوعان من المؤلفات، لكليهما دلالة على تطور في المجتمع المصري.
فأما النوع الأول، الذي أذكره عبورًا كي أتركه، فهو المؤلفات السيكلوجية التي تبحث هموم الشبان ومتاعبهم النفسية وأشواقهم وأحزانهم؛ فإن هذه المؤلفات تدل على أن قيم الأخلاق المدنية تغزونا، وأننا قد تركنا القيم الريفية، أي أننا قد أخذنا باستقلال النفس، فلا استسلام ولا تواكل.
وهمومنا الجديدة هي استقلالنا الجديد، استقلال النفس المصرية.
وأنا أذكر هذا للتقرير وليس للمدح.
وأما النوع الثاني من المؤلفات التي تتفشى في مجتمعنا فهو القصص، وتفشيها أيضًا يدل على أننا نعيش في مجتمع جديد لم نكن نعرفه فيما بين ١٩٠٠ و١٩٢٠، أي أننا عرفناه بعد النهضة السياسية حين شرعنا نستقل نفسًا وشعبًا.
ويمكن لذلك أن نربط بين تفشي المؤلفات السيكلوجية والمؤلفات القصصية؛ لأنها جميعًا تعود إلى إحساس بالاستقلال ومحاولة لبناء الشخصية ورغبة في الاستطلاع والارتقاء.
فلم يكن من الممكن مثلًا أن نكتب القصة قبل ١٩١٩؛ لأن القصة تحتاج، أول ما تحتاج، إلى شخصية، ولم يكن الوسط الريفي الذي أجبرنا الإنجليز على أن نعيش فيه كي نتخصص في زراعة القطن، والذي أخذنا بقيمه حتى حين كنا نعيش في المدينة، لم يكن يتيح لنا أن نصف شخصية مصرية، ثم كان الفصل بين المرأة والرجل، أي الفتاة والشاب، تامًّا أو كالتام، فلم يكن ثَمَّ مجال لأن نصف لقاء يؤدي إلى حب إلا إذا كان لقاء الاختلاس الكريه الذي يعزف عنه الكاتب النظيف.
ولكن بعد ١٩١٩ ظهرت الشخصيات، وظهر السفور، فظهرت القصة.
وكانت في الأغلب قصة غرامية، ثم تفشى التعليم الثانوي والجامعي وأحب الشبان أن يقرءُوا ما يلهون به فوجدوا في هذه القصة ما اشتهوا، ولا أستطيع أن أقول إن المؤلفين قد أخرجوا قصصًا عالية، ولكنهم حاولوا، وكانوا رائدين، وحسبهم هذا الفضل.
وأحجم الكتاب القدامى عن التأليف في القصة؛ لأنهم كانوا قد اعتادوا المقالة وثبتوا عليها، ثم كانوا أيضًا على غير وجدان بالتطور الاجتماعي للشباب المصري فلم ينتبهوا إلى قيمة القصة، ومن سوء حظنا أن كثيرًا من الكتاب القدامى غير متطورين.
وإلى الآن لا تزال القصة، أو بالأحرى الأقصوصة الغرامية، هي السلعة العامة في سوق الأدب القصصي، وأنا لا أنتقص قيمة القصة الغرامية؛ لأن المؤلف العظيم يستطيع أن يرتفع بها إلى أسمى المعاني وأجملها في الحب الذي هو حق الشباب وسعادته، ولكن ما يجب أن ننتقص هو الحب الغادر الذي ترتب مؤامرته في الظلام.
وأكبر ما آخذه على كثير من كتاب القصص أنها تخلو من النزعة الإنسانية، فإن الولاء للبشر هو مذهب الأديب، فإذا كفر به فقد كفر بالآداب والفنون جميعًا.
ولا تزال القصة السيكلوجية نادرة، ولكن المحاولات الأولى التي ظهرت من بعض كتابنا تبشر بالخير، ونعني بالقصة السيكلوجية هذا التفطن للبواعث، وهذا الانسلال إلى المركبات الاجتماعية التي تنتهي بإيجاد شخصية ما وتكشف عما يبني ويهدم من الأخلاق، وتسبر الأعماق في الحب والزواج والارتقاء، وتقف القارئ على نزعات النفس أو تشوفات الذهن.
وأخيرًا هناك القصة الاجتماعية، وهي بلا شك سيكلوجية أيضًا، ولكنها تبحث المجتمع أكثر مما تبحث الفرد، وهي عند الشاب الناضج تأخذ مكان القصة الغرامية؛ لأنها تحليل وتأليف ونقد وعرض، كما أنها تتناول السياسة والاقتصاد، والعائلة والحرفة، والفقر والثراء، واعتداءات الاستعمار وحركات التحرير، والحرية والتقاليد، والسلطة والاستقلال.
وأخيرًا هناك القصة العلمية التي لم تُعرَف إلى الآن في مصر، مع أن هذه القوة الجديدة هي أخطر ما رآه الإنسان في تاريخه الماضي والحاضر؛ إذ هي قوة التدمير والفناء كما هي قوة البناء والإنتاج.
ونحن نحتاج إلى القصة العلمية كي يلوك قراؤنا موضوعاتها ويأخذوا بنزعاتها ويشربوا روحها، ولكن مع النزعة الإنسانية السلمية التي نهدف منها إلى إيجاد مجتمع علمي ينهض على النظافة والصحة ومهارة اليد وذكاء العقل وتنظيم الحرية وتوفير الرخاء، وما أجمل أن تؤلف لنا قصة عن الممكنات في استخدام الذرة في المواصلات، أو اختراع بروتين جديد يجعلنا نعيش مائتي سنة أو يكفي ضِعفَي سكان هذا العالم، أو غذاء جديد يزيد الذكاء.
أما إذا كانت القصة العلمية ستصف لنا الطيار «الشجاع» الذي يلقي قنابله على الأطفال والنساء، فإنها تكون عندئذ شرًّا وإجرامًا.
لقد كانت القصة القديمة تؤلف للهو وتحوي امرأة لعوبًا لها صدر ولها ظهر ونحو ذلك، ولكن القصة العصرية يجب أن تعلو على ذلك، وأن يكون موضوعها مشكلة سيكلوجية أو اجتماعية أو فلسفية أو علمية يعرضها المؤلف كي يثير بها ذكاء القارئ ويزيد بها إنسانيته ويخدم بها الرقي البشرى العام.
أجد أحيانًا في أدبائنا الجدد، كتاب القصص، سخطًا ومضضًا لأنهم يعتقدون أنهم مبخوسون، وأن أدب الديباجة بالأسلوب الرصين وبديع الاستعارة، لا يزال يجد التقدير دون أدبهم الجديد.
ولكنهم واهمون؛ لأن هذا التقدير إنما يأتي من «السلطات» كما كانت الحال في العهود الماضية حين كان عند وزارة المعارف أدباء «مسجلون» تشترك في مؤلفاتهم أو تشترك في مجلاتهم بالألوف، ثم تطرح هذه المؤلفات والمجلات على الرفوف ميتة مكدسة لا يفض غلاف أحدها سنة أو سنتين.
والأدب الجديد لم يكن يجد الرواج عند «السلطات» ولكنه وجده عند الجمهور، ومن هنا الثقة بأن المستقبل له، واليقين بأن النصر من نصيبه.
أدباؤنا الجدد، الذين يؤلفون القصة ويعتصرون إحساساتها من قلوبهم، والذين يعلمون الشعب كيف يحيا الحياة الفنية، وكيف يزداد وجدانًا في الآفاق الإنسانية، والذين يترفعون عن أن يؤلفوا للهو والعبث، هؤلاء الأدباء هم قادة الأذهان وبناة الطرز الذوقية لمستقبل شعبنا.
ومهما لقوا من بخس «السلطات»، ومهما حُرموا المكافآت التي تذهب إلى أدباء «الديباجة»، فإنهم سيجدون الرواج من الشعب.
والشعب هو كل شيء أولًا وآخرًا، ولا عبرة بما يصفه به أدباء الديباجة، وما يزعمونه، من أن ما يكتبونه للخاصة أو خاصة الخاصة.
•••
ولكن من أكبر ما يؤخذ على كثير من كتاب القصص أنها تخلو من النزعة الإنسانية.
ولا أعتقد أني أحتاج إلى أن أشرح النزعة الإنسانية في الأدب، ولكنَّ عندنا كثيرين ممن يزعمون أنهم أدباء كبار، وكل تقاليدهم من الأدب مدائح المتنبي لسيف الدولة، وقبائح ابن الرومي الجنسية والبرازية، وخمريات أبي نواس ولوطياته، ونحو ذلك، ولهؤلاء أقول: إن الإنسانية في الأدب تعني مكافحة الظلم والجهل والفقر، والأديب الذي يتخذ هذا المذهب الإنساني تعود حياته نفسها أدبًا؛ لأنه مكافح.
وفي عصرنا الحاضر تتمثل هذه النزعة الإنسانية في المذهب الاشتراكي الذي يحاول دعاته إنصاف المظلومين وإغناء الفقراء ومساواة الجنسين ومحو التعصبات العدوانية، سواء أكانت دينية أم عنصرية أم طبقية، واستخدام العلم لإشعاع النور في الأذهان، والرفاهية في المدن والقرى، وتحطيم القيود التي تحد من الحريات، سواء أكانت قيود الخرافات أم قيود الحكومات، الإنسانية في الأدب هي مزاج نفسي، وأيما أديب خلا منها يعود تافهًا أو شريرًا.
وعندنا، مع الأسف العميق، كثير من الأشرار والتافهين في الأدب، أولئك الذين أيدوا الظلم ودافعوا عن الظلام، وطالبوا بتقييد الحريات، وعارضوا المساواة بين الجنسين، واحتقروا الشعب ووصفوه بأنه رعاع وغوغاء.
هؤلاء الأدباء قد بصقوا على وجه الإنسان وجحدوا الولاء للبشر وكفروا بالقيم العالية في الأخلاق، وهذه القيم العالية في الأخلاق هي في النهاية، القيم العالية في الآداب والفنون.