مهرجان سباب وكلمة أديب
بعض الفصول في هذا الكتاب أثارت حولي غبارًا عندما نُشرت في «أخبار اليوم»؛ ولذلك أعتقد أن من حق القارئ أن يقف على مداه، وقد يحب أن يتعرف إلى أسبابه.
وعندي أن أسبابه، بل السبب الوحيد، هو أني مخالف معارض لجميع التيارات الأدبية في مصر باستثناء هذه الطبقة الجديدة الناهضة من الأدباء، التي حاولت ولا تزال تحاول ربط الأدب بالمجتمع، والتي تهدف منه إلى أهداف إنسانية، بل تحاول أن تجعل للأديب رسالة.
في العدد الماضي من الرسالة، قال الأستاذ سلامة موسى: «إنه لا يوجد بين أدباء مصر، أديب واحد يستحق أن يحمل التاريخ آثاره إلى الأجيال القادمة! ولم أجد من أدبائنا من يستحق أن يقرأ له أولادنا وأحفادنا بعد عشرة أعوام!»
وكان ذلك في الحديث الذي دار بينه وبين سكرتير تحرير «الرسالة الجديدة»، وقد أثار هذا الحديث ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية.
وقد سئل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد عن رأيه فيما ذهب إليه سلامة موسى، فقال: إني لا أستطيع أن أبدي رأيي في غير رأي، وما قاله سلامة موسى ليس تعبيرًا عن رأي، لكنه تعبير عن حقد وضغينة وشعور بالفشل والتقهقر.
وكل ما يهدف إليه سلامة موسى من حملاته على الأدب العربي هو تشويه للأدب العربي عامة، ورميه بالقصور والجهل وانحلال مجتمعه.
والذنب الأكبر للأدب العربي عند سلامة موسى هو أن هذا الأدب عربي، وسلامة موسى ليس بعربي!
وقيل للأستاذ الكبير العقاد: أين مكان سلامة موسى بين أدباء العصر الحديث وعلمائه؟ فضحك وقال: «إن الأدباء يحسبون سلامة موسى على العلماء، والعلماء يحسبونه على الأدباء، والواقع أنه ليس أديبًا، ولا عالمًا، ولكنه قارئ لبعض العلم، وبعض الأدب، في بعض الأوقات، وما يفهمه أتفه مما لا يفهمه!»
وقال الأستاذ الفنان توفيق الحكيم: إن سلامة موسى يتصدى للحكم على قضايا لا يملك أسباب التصدي لها، ويخيل لي أنه قد انقطع عن القراءة منذ ربع جيل على الأقل؛ فإني كلما قرأت له لمحت أثر تفكير القرن التاسع عشر في اتجاهات فكره، والتفاتات ذهنه … إنه لا يزال يقيم في فلسفته — إن كانت له فلسفة — على الاعتراف بالمادة، وإنكار الروح، ويحسب أن هذا أقصى ما وصل إليه الفكر الحديث!
كان أينشتين يقول: إن الكون في إطار، والله خارج هذا الإطار … وقد قرأت له أخيرًا كلامًا عن الله جنح فيه إلى الاعتراف بالله، وتحدث عنه في حذر وتهيب وخشية.
وما قرأته لسلامة موسى منذ ثلاثين عامًا، لا يختلف عما أقرؤه له اليوم نزعةً، وأسلوبًا، واتجاهًا حادًّا إلى إنكار كل شيء، والاستخفاف بكل شيء!
لست أدري لماذا يقيمون وزنًا لحكم سلامة موسى على ما سيحمل التاريخ من آثار أدبائنا إلى الأجيال القادمة، وسلامة موسى على ما أظن ليس هو التاريخ، وليس هو الأدباء، وليس هو الأجيال القادمة!
وقيل لكامل الشناوي: ما رأيك فيما قال سلامة موسى عن أدباء مصر؟ فقال: إن سلامة موسى لم يدرس آثار هؤلاء الأدباء، ولم يقرأ لهم حتى يستطيع أن يصدر حكمًا سليمًا، وما ذكره ليس رأيًا وإنما هو كلام عام، وسلامة موسى أولع في السنوات الأخيرة بالتعرض لموضوعات يستحيل عليه أن يفهمها فهمًا صحيحًا، مثل: «الغزالي» و«المعرى» و«شوقي» و«أبي نواس» و«المتنبي» … وهو يحاول جهده في الكتابة عنهم، والقارئ ليس في حاجة إلى كثير من الفطنة لكي يدرك أن ما يكتبه سلامة موسى عن الأدب العربي؛ قديمه وحديثه، شعرائه وكتابه، يدل على أنه لا يعرف عن هذا الأدب إلا عناوين كتبه، وأسماء أدبائه!
وقد حمل منذ أشهر على شوقي الشاعر، واتهمه بالمروق، والخيانة، والتآمر على الشعب! واتضح أنه لم يقرأ لشوقي إلا مطالع قصائده في مدح الخديوي عباس!
وعندما بدأ سلامة موسى حملته على شوقي والشعب العربي والمجتمع الإسلامي، تحدثت مع الأستاذ الدكتور طه حسين في ذلك فقال: «إن جريمة شوقي في نظر سلامة موسى في هذه القصائد التي تغنيها أم كلثوم … أي قصائد شوقي في مدح الرسول!»
وأنا لست أعتقد ذلك؛ فإن سلامة موسى لا يتعصب لشيء ولا هو ضد شيء، وكل ما هنالك أنه حاقد موهوب! وهو حريص على إظهار مواهبه في كل ما يكتب! في السياسة أو الأدب أو الاجتماع، وهو يحقد على الأموات أكثر مما يحقد على الأحياء، وحقده على الضعيف أشد من حقده على القوي، ولست أتجنى عليه، ولكنني أقول الحقيقة، ومن يطالع كتاباته كلها بلا استثناء، يأخذه الإعجاب من قدرته على نفث حقده في كل لفظ وكل معنى؛ فليس صحيحًا أن سلامة موسى يتعصب ضد الأدب العربي، أو ضد المجتمع الإسلامي!
وقيل لكامل الشناوي: ما رأيك في أسلوب سلامة موسى؟ فقال: «إن سلامة موسى يعبر بسهولة عن آراء غيره، ولو كانت له آراء ذاتية، لاستطاع أن يعبر عنها بسهولة أيضًا!»
وقال: «إن سلامة موسى يعرف الموسيقى، ويشعر بالعلم، ولو أنه شعر بالموسيقى وعرف العلم لكان كاتبًا عظيمًا!»
روى لي الأستاذ الأديب حبيب الزحلاوي أن الأستاذ سلامة موسى قد وضع دعاء لإحدى الطوائف باللغة العامية، ومن هذا الدعاء:
يا ألله نحن بلاليص فارغة، املأنا بنعمتك السماوية!
يا ألله أنت الوابور واحنا العربات، جرجرنا لساحة الملكوت.
يا رب أنت الحنفية واحنا الجرادل.
هذا هو ما قاله عني توفيق الحكيم، وطه حسين، وعباس العقاد، وكامل الشناوي، وحبيب الزحلاوي.
وردي عليهم أمام القراء هو هذا الكتاب، وإن لم أقصد الرد عليهم بالذات؛ لأن كل ما قصدت إليه هو شرح الأدب كما أفهمه.
أنا ما أقف الليلة لأمتدح سلامة موسى، فإننا تعودنا ألا يمتدح أحدنا الآخر، بل بالعكس كان أشهى شيء إلينا أن ينقد الواحد منا عمل الآخر نقدًا نزيهًا صريحًا، إني لو صورت سلامة موسى على حقيقته — وأعتقد أني أستطيع — فكأني أصور رجلًا يدور حول نفسه، يبحث عن شيئين: الأول عن عيب فيما صنع، لعله يستطيع تلافيه في المستقبل.
والثاني الذي يبحث عنه، عن ناقد مخلص يستطيع أن يستزيد منه علمًا ومعرفة.
بل أكاد أتخيله، بعدما يفرغ من عمل قضى فيه الليالي الطوال دارسًا باحثًا منقبًا، أتخيله كذلك المثَّال الذي جاء تمثاله آية، وأخذ الجائزة الكبرى في المعرض، لقد شوهد ذلك المثَّال يبكي، يبكي لا من الفرح ولكن من القهر، وهو يدور بعينيه في جوانب التمثال، فلما سئل عن بكائه قال: «لأني أبحث عن عيب فلا أجد …»!
وأتخيل سلامة موسى كذلك بعد أن يفرغ من عمل فني استنفد جهده وأقض مضجعه وأخذ من نور بصره … أتخيله كذلك الكاتب الإغريقي الذي يعلم أن محاولة الكمال من المحال، فيصيح يائسًا، يائسًا من العمر ألَّا يتسع لتمام الكمال في أي عمل مهما كان صغيرًا: «لم يعد من المجهود إلا سبيل من اثنين: إما أن أحرق ما صنعت، وإما أن ألقي به للسوق.»
هذا هو سلامة موسى في صورة مجملة، أما التفاصيل فتذكرني بتفاصيل «ﻫ.ج. ولز» قطعة قطعة، حتى لقد قلت حين علمت أن سلامة موسى في بدء حياته تتلمذ على عالم من علماء إنجلترا، وكان يلازمه ملازمة الظل، إن هذا العالم ليس إلا ولز.
ولز بدأ حياته عالمًا في البيولوجية، وهكذا فعل سلامة.
ولز أخذ يبني الكوارث على أسباب اقتصادية، كما يتضح لنا من كتاب «سعادة البشر ومالهم ورخاؤهم»، وسلامة موسى هو أول مصري تكلم عن أهمية الأرقام الاقتصادية في تاريخ مصر والمصريين.
أجل يا سادتي، لقد كنت أقرأ له بعض الأحايين مقالات عن القطن المصري، أو العامل المصري، والتعطل المصري، فيعتريني دوار، يعتريني شيء كمن عاش في حلم فأفاق على حقيقته، فأقتطع المقال، وقد خُيِّل إليَّ أن عليه أثر العرق والتعب والدموع، أقتطع المقال وأحتفظ به كما أحتفظ بقصيدة جميلة سأعود إليها مرة واثنتين.
وكان ولز مدرسًا في حقبة من عمره، وسلامة موسى يمارس التدريس والتعليم، لا في المدارس، بل في الحياة.
هنا في هذه الجمعية الموقرة كنت أستمع إليه محاضرًا ومعلمًا، وهو في ارتجاله كان أروع مما هو في مقالاته المحضرة؛ لأن ارتجاله يغرف من مخ موسوعي، أما مقالاته المحضرة، فرغم جودتها، كانت تتحدد بالموضوع الذي أراد أن يتحدث عنه.
هذا الأسلوب التعليمي هو أروع ما في سلامة موسى الرجل، هذه الرسالة التي وجد نفسه ملزمًا بها هي الخاصة الظاهرة في حياته وأسلوبه.
إن هذا الأسلوب الذي يعلمك، بغير أن يتعالم عليك، هو الصفة الكبيرة التي تجعل سلامة في جانب، وكل الكتاب في جانب آخر.
ولعل هذه النزعة التعليمية، هذه «الرسالة»، هي التي طبعت سلامة موسى بطابعه الذي تعرفونه، فأولًا قد كلفته الرسالة ما تكلف الرسالة، وما كلفت من قديم أهلها والقائمين بها.
- أولًا: كلفته أن يضحي، فضحى بكل شيء، إن الرسالة في صميمها ضرب من الهواية
القاتلة، الهواية التي تجعلك تحتمل الآلام، تجعلك تحتمل كل شيء إلا أن
تتحول عن تأديتها، وقد كلفته أن يندمج في غمار الذين يحمل إليهم
الرسالة، ولا عيب في هؤلاء الذين يحملها إليهم إلا أنهم، كغيرهم، يجدون
التبديل صعبًا والتغيير قاسيًا، فيشيرون إلى صاحب الرسالة.
«من هذا الشخص الغريب الذي يتكلم كلامًا غريبًا؟!»
كلفته أن يكون صريحًا، وأن يكون صارمًا في الحق، وأن يقول ما يعتقد، وكلفته فوق كل ذلك أن يعادي بغير أن يعرف كيف يعادي.
- وثانيًا: كلفته أن يذيعها وأن يكتب عنها، وأن يتحدث، وأن يؤلف، وأن يسمعها للناس بأية الطرق، فلهذا سار يكتب في مجلات يعرف سلامة وتعرفون أنتم أن أصحابها لا يرقون إلى فهم سلامة، فإذا أنت آخذت سلامة، أجابك في هدوئه المعتاد: ورقة واحدة يقرؤها شخص واحد تشعرني أني قمت بواجبي.
وما هي هذه الرسالة التي تقلق جوانب سلامة موسى وتحيك في صدره؟
هذه الرسالة هي: التغيير في الأسلوب القديم، أسلوب التفكير، أسلوب الكتابة، أسلوب الحياة.
أما عن أسلوب التفكير فهو قد علَّم الكُتَّاب أن ينهجوا النهج العلمي من حيث الدقة ومن حيث الإحاطة ومن حيث البساطة.
هذه البساطة في التفكير والعرض معجزة لا يمكن أن تقلد بسهولة، يحكى أن أحد وزراء الصين أراد أن يمتحن الرسامين في رسم أبو جلنبو، فلما جاءوه بالصور الملونة والمزركشة رفضها، حتى جاءه رسام متواضع بصورة مكونة من ثلاثة خيوط، فأعطاه الجائزة قائًلا إن هذه البساطة هي أعمق شيء، وأصعب شيء.
ولقد يجوز أن نصف هذه البساطة بالسهل الممتنع، ولكن الذي يجيء به سلامة أكثر من السهل الممتنع، وأعمق وأدخل في باب الإعجاز.
وأما عن الأسلوب الأدبي فقد اتُّهم ظلمًا بأنه لا يجيد اللغة حتى صار يؤلف الكتب في كيفية دراسة اللغة العربية، وحتى صار يخترع الألفاظ اختراعًا ويضعها للاصطلاحات الجديدة أحسن وضع وأعجبه.
ولقد سمعت ذات يوم في إحدى الجرائد التي يحرر بها، والتي لا يمكن أن يُقرأ فيها شيء يستحق القراءة — غير مقالاته هو — أنهم يتهمونه بعدم إتقان اللغة العربية، وأنهم يعيدون كتابة مقالاته، فذهبت لرئيس التحرير وخاصمته وقطعت صلتي بالجريدة، وإن استمر هو يكتب بها؛ لأنه يؤثر أن يستمر في تأدية الرسالة مهما كلَّفته التأدية.
أما أسلوب الحياة، فهو أول من جاء بهذا التعبير العجيب: «إن الإنسان عليه أن يمارس حياته.»
والواقع أن سلامة مارس حياته كما مارسها سقراط من قديم.
وأكاد أتخيله في الأزمنة الطاحنة التي يجتازها بهدوئه الممتاز يتذوق كأسًا مريرة، ولكنها عذبة لنفسه مستساغة في يقينه.
إن شوقي الشاعر يقول:
ولكني أقول: إن الفراشات تتجمع حول المصباح، وسلامة موسى مصباح لا يرهقنا ضوءُه ولا يعنينا ولا يحرق أيدينا، بل ينير السبل ويهذب العقول، فهنيئًا لمصر سلامة الذي ما فتئ يتكلم عن مصر، وما فتئ يحدثنا عن الفراعنة، مقارنًا الماضي بالحاضر، متوسمًا الأمل في المستقبل، ناقدًا للأخطاء، غامزًا للأصدقاء، وفيًّا لنفسه، وفيًّا لمبدئه، ثابتًا راسخًا، مد الله في عمره، وأبقاه للعلم والأدب والفن. والسلام.