الأدب الملوكي والأدب الشعبي أيضًا
أرسل إليَّ كثيرون من القراء ينتقدون أو يعلقون على بعض ما جاء في مقالي السابق تحت هذا العنوان، وبعض من القراء كانوا مسرفين في إطرائهم وإعجابهم، حتى إنهم لم يقنعوا بالبريد فاختاروا التلغراف.
وهؤلاء المعجبون سأهملهم في هذا المقال، وحسبهم مني الشكر، أما المنتقدون فإني سأتناولهم بالتعليق والتوضيح اللذين أرجو أن يكون فيهما ما ينير ويوجه.
فمن هؤلاء أ.ب. الذي يسأل: «وما دخل الشرف ومقارنته بالقوة البلاغية والتمكن العلمي؟!»
ثم هو يعيب عليَّ سكوتي على القصائد التي أُلِّفت عن الجمل الذي فر من المجزر واستغاث بالعدو السابق فاروق، ويقول: «وسكوتك عن هذه القصائد وقتذاك يعتبر رضاء عنها، وهي ليست ضعيفة في ألفاظها ومعانيها حتى تقول في شأنها: يا للعار! يا للخجل!»
ومن الناقدين أيضًا ع.ع. فإنه يلومني على استعمال كلمة الملوكي بدلًا من الملكي؛ لأنها «أكثر مقابلة لكلمة الشعبي!»
وهو يقول أيضًا: «وَهَبْ شوقي والجارم ممعنين في النفاق … فما شأن هذا بالأدب؟!»
ثم يذكرني أخيرًا بالمثل القائل: «اذكروا محاسن موتاكم.»
ولا يخرج سائر الناقدين الذين تكرموا بإرسال انتقاداتهم إليَّ عن طراز ما ذكرت.
وأخيرًا قرأت للأستاذ عباس خضر مقالًا قال فيه إني أبغِّض إلى القراء الصعوبة في الأدب وأطلب السهولة، وإنني أحب أن يقتل أدب المجاز والاستعارة والتورية، وسألني: لماذا لا أؤلف باللغة العامية؟! ثم زعم أخيرًا أن شوقي كان شعبيًّا حين ألف قصيدة عن البلاد وقال فيها:
وهذا الذي نقلت من الناقدين يدل على أنهم يفهمون من الأدب غير ما أفهم، وأن تصوري للأديب غير تصورهم، أو هو أكبر وأسمى من تصورهم، فإن أحدهم يسألني: ما دخل الشرف في الأدب؟!
وجوابي أنه إذا غاب الشرف عن الأدب فقد غاب كل شيء.
ثم هو لا يرى بأسًا في نظم الشعر عن الجمل ما دامت القصائد ليست ضعيفة في ألفاظها أو معانيها، وبكلمة أخرى يريد أن يكرر علينا قوله إن الأدب لا شأن له بالشرف أو بالهدف.
وحتى إذا كان شوقي والجارم منافقين، فما شأن هذا بالأدب؟! ثم هو يطالبني بأن أذكر محاسن الموتى، مع أنهما لو كانا قد ماتا حقًّا في قلوبنا وعقولنا، لما وجدنا ما ينتقد عليهما، ألسنا نقرأهما إلى الآن؟! وألم يسكتا الشعب المصري الحاضر بما كتباه؟!
أما الأستاذ عباس خضر فيقول إني أطلب السهولة، وكأنه نسي أني قلت إن الكاتب الفذ هو الذي يجمع بين اليسر والعمق مثل تولستوي.
ثم هو ينقل هذه الأبيات ويزعم أن شوقي قد صار شعبيًّا بها، مع أنها تنطق بتعالي شوقي الذي ينشدها من فوق السحاب: غني، قوي، يحسن على الفقراء الضعفاء، وما هذا بالأدب الشعبي، إنما الأدب الشعبي هو أن نحس إحساس الشعب ونكافح كفاحه، ونتكلم بلغته، ونصرخ صراخه، ولا نلقي عليه كلمات كما نلقي للجائع لقيمات الصدقة.
•••
من أحسن ما اقترحه الدكتور طه حسين قبل نحو عشرين سنة أننا يجب أن ننقل إلى لغتنا ترجمة أدبية لأحد الكتاب الأوروبيين، وهذا اقتراح جميل، وأنا أؤيده حتى ولو كنا نجهل هذا الكاتب الذي سنقرأ ترجمته والانتقادات التي وُجِّهت إليه.
لنقرأ تراجم تولستوي، أو جوتيه، أو أندريه جيد، أو برنارد شو، ونعني تلك التراجم التي تشرح لنا التكشفات الأدبية في أحد هؤلاء الأدباء، وكيف كانت تتصل حياته المعاشية والثقافية بهذه التكشفات، وما هو وقع الحوادث فيها.
نحتاج إلى أن نقرأ هذه التراجم ولو لم نكن قد قرأنا شيئًا لهؤلاء الأدباء أنفسهم المترجم لهم؛ وذلك كي نقف على الأوزان والقيم التي يوزن ويقوَّم بها الأديب وأدبه، وعندئذ نعرف أن هناك وحدة بينهما، وأن ما نجد من طرز أو اتجاهات أو أهداف في أدبٍ ما إنما هو ثمرة الحياة والعيش وأثر المجتمع في الأديب نفسه.
ونحن نجهل هذا التصور للأدب والأديب في اللغة العربية؛ ولذلك قصارى ما نجد انتقادٌ للكلمة أو القاعدة في تأليف الكلام.
الأوروبيون ينظرون إلى أدب الكاتب كما ينظر أحدنا إلى المبنى الكامل، بكل ما يحتويه من حدائقَ وطبقاتٍ وموقع، وما يدل عليه من فلسفة المهندس الذي وضع تصميمه وأشرف على تشييده، ولكنَّ الناقدين عندنا يقفون عند إحدى اللبنات ويقولون: هذه رخوة أو في غير موضعها.
النقد في أوروبا هو نقد المبنى الكامل، ونقدنا في مصر هو نقد اللبنات: نقد الفاعل والمستثنى والطباق والجناس والمجاز.
ولست أقول بإهمال هذه الأشياء، ولكن المهندس العظيم يتركها للبنائين.
ذلك أن الأدب فن وصنعة: الفن للمهندس المشرف الذي يصنع التصميم، والصنعة للبنَّاء الذي يضم لبنة على لبنة.
ومن هنا يجب أن يرتفع انتقادنا للأديب إلى حياته التي لا يمكن أن تنفصل من أدبه؛ لأن ما يأخذ به من قيم وأوزان في مجتمعه ودنياه وعيشه، ينتقل إلى ما يؤلف من الأدب، وقد سبق لي أن قلت — لهذا السبب — إن أحسن مؤلفات طه حسين هو حياته؛ إذ ليس هناك كتاب ألفه هذا الأديب المصري، الذي يكتب للخاصة، يبلغ في القيمة الإنسانية ما تبلغه حياته، هذه الحياة العجيبة التي تبدأ في الطفولة العرجاء؛ حيث الظلام واستهزاء الأفراد، والوسط الريفي الراكد، والبداية السيئة في التعليم، ثم الاختلاط بأوساط أخرى في القاهرة، ثم الاحتكاكات الجديدة التي تثير استطلاعه، فيشك، ثم يبحث، ثم يوقن.
ثم ينزع عمامته ويلبس قبعته، وينسلخ من الشرق إلى الغرب، يترك عاصمة أفريقيا ويرحل إلى عاصمة أوروبا، أي يترك القرون الوسطى إلى القرن العشرين، ويعود إلينا، ويكافح، ويتقي ما نرجمه به من أحجار في تجلد وكفاح؛ لأنه واثق من قوته، ثم تحمله الثقة والمثابرة إلى أن يكون وزيرًا للدولة.
أية قصة في الأدب أعجب من هذه القصة؟! ولماذا لا نؤلف عنه مسرحية يرى فيها الشباب مثالًا للكفاح الشريف؟!
إن بعض الناقدين قد بعثوا إليَّ برسالتهم يسألونني: ما شأن الشرف في الأدب؟! وماذا يمنع أن يكون الأديب عظيمًا حتى حين ينافق؟!
وجوابي أن هذا غير ممكن، ولو كان طه حسين منافقًا، وارتضى لنفسه حياة غير شريفة، لما كان أديبًا عظيمًا.
أدب طه حسين هو حياته ومؤلفاته معًا … وأحب أن أقول عن نفسي هذا أيضًا.
وهذا هو الشأن في جميع الأدباء الذين جعلوا الأدب ضرورة اجتماعية في أوروبا، بل أيضًا في مصر.
لا نستطيع أن نفصل أدب تولستوي الذي نقرؤه في قصصه من حياته التي تحدى بها مظالم القيصر ومساوئ الفقر، بل هو حين كان يصنع الأحذية بيديه للفلاحين كان أديبًا لا يختلف في اتجاهه وأسلوبه عما كان يفعل حين كان يتناول القلم لكتابة القصة أو للحملة على شكسبير، وكذلك الشأن في فكتور هيجو، فإني حين أقرؤه أحس الشجاعة والشهامة اللتين واجه بهما الطاغية نابليون الصغير، وهذا إحساسي أيضًا حين أقرأ أندريه جيد أو برنارد شو، كلاهما يحيا حياته في أدبه، ويحيا أدبه في حياته.
فلا تقولوا لي أيها الناقدون: ما شأن حياة شوقي وأخلاقه في فنه وأشعاره؟! لأن لها كل الشأن.
إنها جزء، بل الجزء الأكبر والأعم، من مؤلفاته، أليس الواقع أن كلًّا منا يؤلف نفسه، ويكوِّن شخصيته، ويعين أهدافه، قبل أن يؤلف كتابًا؟ بل أليس الكتاب هو ثمرة الشخصية؟
ولقد فخر شوقي في إحدى مقدماته بأنه عربي يوناني تركي شركسي قوقازي! وأنا بعيد كل البعد عن أية دعوى عنصرية، بل لا أفهمها، ولكن شوقي حين كتب هذه الكلمات، وسجل على نفسه أنه غير مصري، كان يعرف ويحس ويوقن أننا — نحن المصريين — كنا مدوسين، على رءوسنا وحل، وفي قلوبنا يأس، وكان مصطفى كامل يحاول أن يرفع عنا هذا اليأس بقوله: لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا.
فكان يجب على شوقي أن ينسى أنه أجنبي في دمه، ولكنه لم ينسَ، لماذا؟
الجواب: أنه لم يبالِ أن يكون مصريًّا.
ثم هو سب عرابي أكبر شخصية في تاريخنا في الألف سنة الماضية، وكره منه قوله للخائن توفيق: «لسنا عبيدًا.»
ومدح الفاسقة كليوباطرة، وقال عن العدو السابق فاروق:
ليس على الأديب أن يبالي كثيرًا الجناس والطباق؛ لأن صناعته الأصلية هي الحرية والكرامة والإنسانية والشرف، وقد كان توفيق، مثل من جاءوا بعده، يطارد كل هذه الصفات في مصر؛ ولذلك لا يمكن أن يمدح هؤلاء شاعرٌ أو أديبٌ، ثم يزعم بعد ذلك أنه شريف، وقد مدحهم شوقي وغيرهم من المنافقين.
•••
كنا منذ ١٨٨٢ نكابد الاستعمار البريطاني والاستبداد المصري، أي كنا نكابد أثقالًا كأنها الجبال، وكان الشعب في التراب، مغموسًا في الطين، تأكل الديدان أفراده وهم يمشون موتى كأنهم أحياء.
وأيما أديب لم يَثُر على الاستعمار والاستبداد، وأيما أديب لم يحس النار تأكل أحشاءه، بل أكاد أقول: أيما أديب لم يفقد وجدانه وينسى الحذر ويُزَج به في السجن وهو يكافح ظلام الإنجليز ونذالة الخديويين والملوك في مصر؛ لا يمكن أن يوصف بالشرف.
ذلك أن أدبنا كان يجب منذ ١٨٨٢ أن يكون شعبيًّا ثوريًّا، يكافح بالفكرة والكلمة هؤلاء المستعمرين والمستبدين، وكان يجب أن يكون على الدوام مع الشعب، يقف مع الفلاح الذي يحمل الفأس، والحوذي الذي يسوق فرسيه، والصانع الذي يصوغ الأثاث، والطالب الذي يعجز عن أداء المصروفات، والموظف الذي يعمل طول النهار لقاء جنيهات لا تكفي طعام أولاده.
•••
ليس الأدب أن نَصِفَ كأسًا من الخمر في بيت من الشعر، ونقارن هذا الوصف بأبيات أخرى قيلت في هذا المعنى، وليس الأدب أن نصف القصور وأبهة العروش، ولم يكن من الأدب أن نصف فاروق بالحكمة والسداد، وليس الأدب أن نقول: هنا جناس، وهنا طباق.
ولقد عشت حياتي وأنا أفهم أن الأدب كفاح؛ ولذلك كنت أحس المسافة الشاسعة التي تفصل بيني وبين بعض الأدباء المعاصرين في مصر، كانوا أدباء الجناس والمجاز، وكنت أديب البرنامج والهدف والحياة، وكانوا يستلهمون الماضي، وكنت أستلهم المستقبل.
لقد كنت — وما زلت — أكتب لأولئك الشبان، والموظفين، والمحامين، والكناسين، والأطباء، والحلاقين، وعمال المصانع المتنبهين، والنساء الجديدات العاملات، وجميع أولئك الأشراف الذين لا يعيشون سُدًى ولا يكسبون قُوتَهم بالباطل، وإنما يتعبون ويكدون كي ينتجوا سلعة أو يؤدوا خدمة، هؤلاء هم قرائي الذين أغذوهم بالفكرة والنظرة والنبرة، وأعين لهم السلوك والهدف، وأقدم لهم الغذاء الذي يبني، وليس تلك الحلويات التي ترفه عنهم السأم بالأبيات والجمل المزيزة يتلمظون بها في خواء النفس ورخاوة العقل.
والآن دعوني أبكي …
كنت في يوم ٢٣ فبراير من السنة الماضية (١٩٥٢) أمشي في أحد الشوارع في باريس، وإذا بشاب لم يكد يخرج عن سن الصبا يقترب مني وهو يعدو ثم يناولني ورقة، أخذتها وجعلت أقرؤها.
ولشد ما صعقت عندما قرأت فيها أن رابطة الطلبة في باريس تعلن سخطها على الاستعمار البريطاني في مصر بمناسبة الصدام الذي وقع بين الطلبة المصريين والجنود الإنجليز يوم ٢٣ من فبراير من عام ١٩٤٦.
قرأت وأحسست دوارًا، فارتميت على كرسي في مقهى قريب، وجعلت أتأمل وأتنهد.
نحن في مصر نُضرب بالسياط، ونقتل بنار البنادق، ثم نحرم حتى الاحتجاج، وهؤلاء الطلبة يحتجون من أجلنا!
لقد وصل صوت كفاحنا وأنين عذابنا، كفاح الشعب وأنينه، وليس كفاح الأدباء وأنينهم، إلى باريس، وصار الطلبة والشباب يرددون صداه وينبهون الضمير الفرنسي عنه، أما نحن في القاهرة فنلتزم الصمت، ثم يتغنى شعراؤنا بالجمل الذي فر من المجزر وصار يقطع شارعًا بعد شارع حتى دخل قصر عابدين ولجأ إلى عدل الفاجر فاروق حتى لا يُذبَح!