الأدب العربي القديم لا يلهمنا
أسوأ ما أعاني ليس السباب أو الخبث، وإنما هو الجهل، أعني الجهل بقيمة الثقافة العصرية، والعلم، والحضارة الأوروبية، وهذا الجهل يصدمني أحيانًا كما لو كان حجرًا يشق رأسي، فأحس دوارًا لا أعرف معه كيف أنطق أو أكتب.
ذلك أن في مصر طائفة تعتمد على أنها تعلمت الأدب، وحذقت أصوله، وأن لها الحق في أن تعين وتقرر ما هو الحسن وما هو السيئ فيه، ومعتمد هذه الطائفة هو الأدب العربي القديم الذي ينأى عن القيم والأوزان الإنسانية العصرية؛ إذ هو أدب الترف الذهني كما يقول الدكتور طه حسين وكما يفهم هو عن معنى الأدب عامة، وهو أدب التسلية للملوك والأمراء، وهو أدب اللذة الجنسية، السوية والشاذة، وهو أدب المنازعات الحربية أو المناقشات الدينية.
هو كل ذلك، ولكنه ليس أدب الشعب الذي يكافح من أجل الحرية والاستقلال، وليس أدب الإنسانية الذي يحمل همومها ويعبر عنها بالقصة والشعر والمقال، بل كذلك ليس هو الأدب الذي يدعونا إلى احترام المرأة وحبها.
ونحن حين نأخذ بهذه المعاني نجد هذه الطائفة التي أشرنا إليها — أي التي لا تعرف غير الأدب العربي القديم — تنهض لمكافحتنا، وهي تكافحنا بالأساليب القديمة، وهي أننا متعصبون، نكره العرب، أي «شعوبيون»، أو نكره الدين، أي ملحدون، والتهمتان كلتاهما تعودان إلى القرنين الثاني والثالث للهجرة، كأن هذه الأسلحة القديمة لم تتغير، وكأننا في القرن العشرين ما زلنا نهتم بالمعارك القديمة ونستعمل الأسلحة القديمة، وكأن معاني الإنسانية، والحرية، والاستقلال، والتطور، ورشد المرأة، وحقوق العيش … كل هذه لا قيمة لها.
لقد اتهمني الدكتور طه حسين بالشعوبية أو كاد، وكأنه نسي كفاحي لأجل الشعب ضد فاروق الفاسق، هذا الفاروق الذي وقف الدكتور طه حسين نفسه في حرم الجامعة، ومن منبرها، يخاطبه بالصوت العالي بقوله: «يا صاحب مصر»!
واتهمني عباس محمود العقاد بأني لست عربيًّا، وهو يعني أني قبطي؛ حتى يستنتج القارئ المسلم ما يشاء، مع أنه هو — وهو التركي النوبي — وصف فاروق بأنه فيلسوف، بل أعظم الفلاسفة!
كان العقاد وطه حسين يصفان فاروق بهذه الأوصاف، حين كنت أنا في السجن أنتظر المحاكمة بتهمة قلب نظام الحكم … أي إيجاد جمهورية بدلًا من الملوكية المتعفنة!
وكلاهما — طه حسين وعباس العقاد — يكبران من شأن الأدب العربي القديم، وكلاهما ألف عنه مع الإعجاب، ولست أعارض في هذا، وإنما موقفي من هذا الأدب أنه لا يلهمنا، أي لا يلهم الكاتب، كما أنه لا يرشد القارئ إلى الحياة السامية، أي إلى العظمة، بل إني أعتقد أنه لولا انغماس العقاد وطه حسين في الأدب العربي القديم لما خاطب طه حسين فاروق بكلمتي: «يا صاحب مصر» ولما وصفه العقاد بأنه فيلسوف؛ ذلك لأن الأدب العربي القديم هو — إلى حدٍّ بعيد — أدب الملوك، وقد استلهمه العقاد وطه حسين في وصف الملك السابق فاروق، ولو أن هذا الأدب كان أدب الشعب، أدب الإنسانية، أدب المجتمع، أدب العامة، أدب التفاؤل، لما نطق أحدهما بما نطق من كلمات المديح الكاذب لفاروق.
والآن أنتقل إلى كاتبٍ آخر أُحب أن أقطع من أدبه قطاعات تدل القارئ على النزعات التي يستلهمها الأديب حين تقتصر دراسته على الأدب العربي القديم دون الأخذ بالقيم العصرية، ودون الانغماس في المشاكل الاجتماعية والإنسانية الحاضرة.
هذا الأديب هو مصطفى صادق الرافعي، ولن أفعل أكثر من أن أنقل إلى القارئ فقراتٍ من مؤلفاته نقلتها السيدة الأديبة نعمات أحمد فؤاد ونشرتها في كتاب بعنوان «في أدب الرافعي»، وهي لم تَرَ الرافعي في حياتها؛ لأنه مات قبل أن تبلغ سن الإيناع في الأدب، ولذلك لا يمكن أن تُتَّهم بشبهة الخصومة الشخصية كما يمكن أن أُتَّهم أنا؛ لأني كنت على معارضة دائمة لما يكتب، حتى إنه كتب مقالًا عني بعنوان «سلامة موسى عدو العروبة والإسلام»، وقد تعبت مع هذا الرجل كثيرًا، فإنه كان جهلًا مكافحًا، يكتب الهذر ولا يطيق أن نقول له إنه هذر.
لو أن الرافعي كان قد درس الآداب الأوروبية، فضلًا عن الآداب العالمية، لعرف شيئًا آخر، فيه من السمو وشرف الغاية وصلاح العيش وحب الحياة، غير ما عرف من الأدب العربي، ولكن جهله حمله على القناعة بأدب العرب، ثم حمله على العنت وسب جميع الذين يعرفون غير هذا الأدب.
وإليك بعض المقتبسات من مؤلفاته، وقد اعتمدت فيها على كتاب السيدة نعمات أحمد فؤاد في كتابها الذي أشرت إليه: «في أدب الرافعي».
لقد نجح سامي، ولكنَّ أخاه تخلف، فالحمد لله أن رد عنا أعين الناس وسمومها.
أنا في غاية السأم الآن، أنفر من كل شيء، ولعل نظرات الناس قد أصابتنا بعد ظهور الكتاب الجديد، وما لقي من التنويه والإقبال.
أنا ناقم أشد النقمة على مبدأ هذه الصحيفة، فأي سفور يريدون؟ أخزاهم الله!
أنا لا أهتم للعلم ولا للغنى ولا للجاه في شخص من الأشخاص، بل الأخلاق قبل كل شيء، ودعاة السفور لا تلائمني أخلاقهم ولو كان فيهم مائة كاتب ومائة شاعر …
إن كل المجددين رجعوا الآن عن رأيهم في المدنية الأوروبية، وأقروا أنها مدنية زائفة، وأنحوا عليها.
لقد كانت المقالة الماضية صاعقة على لطفي السيد أظهرت خباياه ونواياه (كذا) وأبانت لهم أنه فيلسوف سوفسطائي، وستكون الثانية التي تنشر غدًا إن شاء الله، وقد فرغت منه بهاتين المقالتين، وسأحاول الانتهاء من طه أيضًا بمقالتين.
أنا في هذه الأيام أقرأ كتاب زهر الآداب الذي طبعه الدكتور زكي مبارك ويباهي في مقدمته بتصحيحه وما لقيه في سبيل التصحيح، فإذا فيه غلطات تدل على جهل هذا الدكتور، وأنه في النهاية من الغباوة، والخلاصة: أهي ماشية!
فيقوم موضوعه على سبب واحد، حول فلسفة البغض، وطيش الحب، ولؤم المرأة!
أية لغة هذه؟ هل المرأة الحبيبة، الأم، الزوجة، الإنسانة، لئيمة؟!
رجل وقع من بين لا، وليت، وهيهات، ولات، بين التمني بأسلوبين والبعد عما يتمنى بأسلوبين أيضًا، فأحب ليتعذب، وتعذب ليتصل بمعنى نفسه، واتصل بنفسه لينفذ منها إلى طرف من معنى الألوهية، وإن أردت الاختصار قلت لك: إنه أحب ليتأله!
هي يمين حلف الدهر بها ليكذبن كذبة بيضاء ومغشاة، يغر بريقها ويلتمع ماؤها لمع السراب، فتبصر فيها الروح معنى الري لتلتهب منها بالظمأ القاتل يفيضها على رمل ذهبي صبغته الشمس، وأنا … أنا كلمة قد استوى ظاهرها وباطنها، فإما أن تصدق كلها، وإما أن تكذب كلها، كلمة ليس فيها جزء محبوب وجزء مكروه، فلا تحمل أبدًا معنيين.
وهذا الحب حاسة في الروح، فهو — ولا ريب — يستثقل كل ما ينافره من الطبائع طبائع هؤلاء الذين لا يترفقون للعيش بأيديهم وأرجلهم وأبدانهم وقلوبهم وأنفسهم، فيثيرون في كل سبيل غبار الحيوانية على كل قلب روحاني، فلا يكونون عليه إلا ألمًا ومضضًا وشدة من الشدة، وكثيرًا ما يخيل إليَّ فيمن حولي ممَّن أخالطهم اضطرارًا، أنهم ثعالب أطلع عليهم برائحة الأسد الضاري!
… وسرى طيفها في نيتي (ولعله يقصد في خاطري) مسرى الزلزلة الراجفة في بقعتها من أرضها، تشق في الأرض والصخر والجبل ما يشق المقراض في سرفة من الحرير بل أسرع وأقطع وأمضى، ولو حدثت بعد الذي فعل طيفها أن مدفعًا من المدافع ألقى ظله على الأرض فانفجرت من ظله القنابل تخرب وتدمر وتأتي على ما تناله والمدفع ذاته قار ساكت لقلت: عسى ولعله، وأمر قريب، ولعل المدفع كان امرأة!
… وأصبحت أرى الحب كأنه طريقة يفقد بها الإنسان روحه قبل الموت، فيعود كأنه غمرة من الجحيم وهو قار في نسيم الدنيا.
ليس لي والله من شدة حبي إياها إلا أن أبغضها وأتجهمها بالكلام النافر الغليظ وأقول لها … نعم أقول لها، ثم أقول لها: قبح الله الحب إن كان مثل وجدي بك، لا يؤتي الحياة جمالها إلا ليسلبها حريتها واستقرارها معًا! وأقول لها، ثم أقول لها: لقد أوقعتني من حبك وهجرك بين الشر والذي هو شر منه.
قيل لحية سامة: أكان يسرُّك لو خلقت امرأة؟! قالت: فأنا امرأة غير أن سمي في الناب وسمها في لسانها!
كيف كان الرافعي يدرس الأدب؟
… ثم عليك بحفظ الكثير من ألفاظ كتاب نجمة الرائد لليازجي والألفاظ الكتابية للهمذاني.
إن المجاز هو حلية كل لغة وخاصة العربية، ولا أعد الكاتب كاتبًا حتى يبرع فيه، وهذا الذي جعلني أُكثِر منه مع أنه متعب جدًّا، ولكنني أرمي إلى تربية ملكات القراء وإعطائهم أمثلة من التصور إلى آخر ما تعرفه.
لقد أتعبت القارئ في تلاوة هذه المقتبسات، ولكني قصدت إلى أن أوضح أن الأدب العربي القديم الذي كان يعتمد عليه الرافعي لا يكفي لتخريج الأديب الملهم الذي يستطيع أن يطرب ويرشد معًا، وأن الأديب العصري هو الأديب الإنساني المكافح الذي يطابق بينه وبين الأهداف الإنسانية.
ولست أشك في أن الرافعي مثال مسرف في الاقتصار على الأدب العربي القديم وجهل الآداب العالمية، ولكن هذا الأدب العربي القديم هو علة المناقشات المترددة التي تنشأ من وقت لآخر، حين نجد «أديبًا» يحمل على أديب آخر؛ لأنه غير مؤمن، أو لأنه شعوبي، أو لأنه شيوعي، أو لأنه لا يفهم الأدب … إلخ، هذه التهم التي تعود إلى الجهل، ثم العناد في الجهل بالإصرار عليه.
وأخيرًا أقول إننا يجب أن ندرس الآداب العربية، ولكن لا نقتدي بها في أهدافها وأساليبها، وإنما لنعرف منها تاريخنا الثقافي.