أبو نواس والصحة الاجتماعية
نحن نظلم بلا شك أبا نواس حين نزن أدبه بالموازين العصرية، ولكن ما دامت أشعاره تُطبع وتُقرأ في عصرنا، وقد يقرؤها شبابنا وفتياتنا، فإن من حقنا أن نزنه بالموازين العصرية.
ومن حقنا أن نسأل أول ما نسأل: هل يعد أبو نواس أديبًا مسئولًا؟
واعتقادي، على الرغم من الكثيرين الذين يخالفونني، أن الأديب يجب أن يكون مسئولًا، وأن يحس هذه المسئولية في كل ما يكتب، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر.
يحس أنه مسئول عن معاني الشرف والخير والحب أمام المجتمع وأمام الإنسانية.
ولكن الذي أجده أني أستطيع أن أقرأ أبا نواس وأنا منفرد في مكتبي، ولا أجيز لنفسي أن أتحدث عن أشعاره مع شاب أو فتاة، بل لا أحب أن يقرأ شاب أو فتاة هذه الأشعار إلا إذا كان أحدهما يدرسها باعتبارها تاريخًا وليست فنًّا، أي أنه يريد استخراج العبرة السيكلوجية أو الاجتماعية منها.
ولست أعني بقولي هذا أن يمنع طبع هذه الأشعار أو هذه النوادر التي تقص علينا حياته، وإن كنت ألاحظ أن الرقيب الحكومي قد حذف عددًا كبيرًا من الأبيات اشمأز من معانيها وأحس أنه يجب ألا يقرأها شاب أو فتاة، وهو في ذلك معذور؛ لأنه مسئول؛ لأننا لا نحب أن يترنم شبابنا بأبيات لها حلاوة الإيقاع بشأن معانٍ جنسية فاسقة.
ذلك لأن الكلمة فكرة، والفكرة عاطفة، والعاطفة عمل.
ولم يكن أبو نواس يحس أية مسئولية اجتماعية أو إنسانية، ولذلك استهتر.
•••
أظنه برنارد شو الذي قال إن الفنون، مثل الأخلاق، جزء من الصحة الاجتماعية.
وهذا كلام صادق؛ لأن الفنان المسئول يلتزم الأخلاق السامية، بل هو يرسم أخلاقًا تسمو على ما يجد في الأمة ويدعو بها إلى الخير والشرف.
فهل يمكن أن نقول إن أشعار أبي نواس تخدم الصحة الاجتماعية؟ لا، إنما هي تخدم المرض الاجتماعي، وتحبب الفسق والفحش إلى الناس.
وهي — لأنها أشعار — توحي الفسق والفحش لما فيها من إيحاء الإيقاع؛ إذ هي أغانٍ يترنم بها قارئها، وينبعث بالإحساسات الفاسدة التي تعبر عنها نحو الإجرام.
وعبقرية أبي نواس لا ينكرها أديب ناشئ فضلًا عن أديب ناضج، ولكنها عبقرية الصنعة فقط، أما عبقرية الفن الذي يهدف إلى الحياة، ويرى رؤيا الحياة، ويرسم الأخلاق السامية، ويحس المسئولية الإنسانية … فلا شيء منها عند أبي نواس، وإني حين أقرؤه أجد في معانيه بريقًا هو بريق العفن ينمو على النتن، أو أزهار سامة يجب أن نقي الشباب منها. وأدبه هو أدب العاهة الجنسية، أدب الفحش الذي يشمئز منه الرجل الصالح النظيف على الرغم مما فيه من التماعات وومضات.
ولذلك أقول إن دلالة أبي نواس عندي ليست فنية أو أدبية، وإنما هي اجتماعية سيكلوجية.
•••
الدلالة الاجتماعية أن أبا نواس كان يعيش في مجتمع انفصالي قد فصل بين الجنسين ففسدت غريزته الجنسية، وبدلًا من أن يلتفت الشاب إلى الجنس الآخر ويتجه إليه، صار يلتفت إلى جنسه ويتجه إليه.
قد يقال إن هذا الفساد يوجد أيضًا عند الأمم التي يختلط فيها الجنسان، وهذا صحيح، ولكنَّ هناك فرقًا عظيمًا بين أمة يتخصص فيها أذكى شعرائها لتأليف نحو ألفي صفحة من الأشعار في الفحش والشذوذ، وبين أمة يؤلف فيها شاعر من شعرائها قصة أو بيتًا من الشعر في هذه المعاني ينشر في السر.
والمرض النفسي هو، في النهاية، رجع أو استجابة لوسط اجتماعي معين، قد أوجد حرجًا أو ضغطًا أو توترًا لا يطاق، فصار المرض بمثابة العلاج لهذه الأحوال، وهو علاج سيئ بالطبع.
ولا يمكن أن يكون الإنسان سويًّا سليمًا إلا إذا نشأ وتربى وعاش طيلة عمره في مجتمع مختلط، من المهد إلى اللحد، بحيث لا تغيب صورة المرأة عن ذهن الرجل ولا تغيب صورة الرجل عن ذهن المرأة.
أما إذا انفصل الاثنان، فإن الفساد ينشأ ويفكر كلٌّ منهما في جنسه دون الجنس الآخر، وهذا ما نسميه «شذوذًا»، وهذه كلمة صحفية، غير علمية، نتفادى بها من كلمات أخرى فاحشة نشمئز من ذكرها.
وهذا الوسط الذي عاش فيه أبو نواس، هذا المجتمع الذي انفصل فيه الجنسان، ما زلنا نجد مثله في كثير من الأمم، بل أستطيع أن أقول إن هناك من القوانين التي سُنَّت عندنا ما يزيد هذا الانفصال في المجتمع، ويزيد، لطبع هذا الشذوذ النواسي.
- (١)
شذوذ العادة السرية التي تفتت كيانه، وقد تسلمه إلى النورستينيا.
- (٢)
شذوذ الالتفات لجنسه الذي ربما ينتهي به إلى السجن.
- (٣)
شذوذ الكظم الذي قد ينتهي به إلى المارستان.
•••
ما كنت لألتفت إلى أبي نواس لولا أني أريد استخراج العبرة من مجتمعنا، فإن هذا الرجل أرصد حياته، وذكاء عقله، ورؤيا نفسه لتأليف القصائد عن عاهة جنسية نشمئز منها، وهذه ظاهرة عجيبة، ليس في الأدب فقط، بل في الطبيعة البشرية.
والعبرة هي أن مجتمعنا لا يختلف عن المجتمع الذي عاش فيه أبو نواس إلا في الدرجة، وأن ما نهدف إليه من الصحة الاجتماعية لأبناء الشعب لا يمكن أن يتحقق ما دمنا أو — بالأحرى — ما دام بعضنا يقول بالانفصال.
وصحيح أن العلاج الأمثل، العلاج الذي يقينا تلك الانحرافات التي وقع فيها أبو نواس، هو الزواج المبكر، ولكن ظروفنا الاقتصادية في كثير من الحالات لا تساعدنا على ذلك.
وعجيب حقًّا أننا كنا قبل نحو قرن نتزوج مبكرين حوالي العشرين أو قبلها، وكان الأوروبيون والأمريكيون يتأخرون في الزواج إلى ما بعد الثلاثين، أما الآن فقد انعكست الحال: نحن نتأخر وهم يبكرون.
وعلة ذلك أن الفتيات الأوروبيات يعملن ويكسبن مثل الشبان.
يعملون جميعهم حتى وهم طلبة وطالبات.
وإذن يمكنهم أن يتزوجوا في العشرين أو قبل ذلك؛ لأن الزوج لا يرهق بنفقات زوجة عاطلة؛ إذ هي تكسب مثله.
ونستطيع أن نصل نحن إلى مثل هذه الحال، ولكنها لا تزال بعيدة؛ لأن الماضي ما زال ينشب أظفاره في حاضرنا!
•••
إن المجتمعات الأوروبية ليست سيئة كما يتوهم أولئك الذين لم يعيشوا فيها ويختلطوا بأفرادها.
وصحيح أن لهذه المجتمعات عادات تخالف مألوفنا، ولكن هل مألوفنا حسن على الدوام؟
إن اللحن الجديد يبدو نشازًا حتى نتعوده فنسيغه.
وكذلك الشأن في العادات الجديدة.
لقد عرفنا الرقص المصري واشمأززنا منه، وقلنا إنه فحش يجب أن نترفع عنه، ولكن الرقص الأوروبي ليس كذلك؛ إذ هو فن جميل.
ولو أن أبا نواس كان يعيش في مجتمع مختلط، يرى وجه المرأة ولا يفارقه شخصها في البيت والسوق والمتجر والمصنع والمجلس، لما زاغت بصيرته الجنسية إلى الانحراف الذي وقع فيه؛ لأنه عندما كان يصبو إلى حب، كان لا يجد في خياله غير المرأة، ولكن لأنه حرم المرأة، صار خياله صبيانيًّا.
إن شبابنا يعانون الكثير، بل الكثير جدًّا، من التوترات السياسية والاجتماعية والثقافية والحرفية، فلا أقل من أن نخفف عنهم هذه التوترات الجنسية إما بالتيسير لهم في الزواج المبكر، وإما بأي طريق آخر.
وكل شيء يهون في جنب هذه العاهة النفسية التي كان يعانيها أبو نواس واستقطر منها أشعاره، وهي التي نرجو ألا نراها في شبابنا.
إن النقد السديد للأدب هو النقد الاجتماعي؛ أي يجب أن نسأل عن قيمة الأديب: ما هي خدمته للشرف أو للإنسانية؟
وأبو نواس يخلو من الشرف والإنسانية.