غاية الأدب … الإنسانية وليس الجمال
الرأي القديم، بل العقيدة القديمة، أن هدف الأدب هو الجمال: جمال البيت من الشعر، وجمال القصة، وجمال الجملة، بل كان هذا أيضًا هدف الفنون الأخرى، فكان الرسام يُعنَى بأن يتخيل لنا صورة جميلة للطبيعة أو للمرأة، حتى إنه كان يسرف في التوسل إلى هذا الهدف بأن يزوِّر فيرسم لنا صورة جميلة لملك دميم، كما كان الشاعر يصف الأمير أو الملك بالشجاعة أو الحلم أو العفاف، وهو يدري من أخلاقه نقيض ذلك؛ وذلك لأنه كان يعتقد أنه يجب أن يخرج شيئًا جميلًا ولو كان مزورًا مموهًا.
كان الأدب يهدف إلى الجمال، وكان الأديب يخلص، أو يزور في هذا الهدف، وكثيرًا ما نسمع أن القيم الأدبية خالدة لا تتغير، وأن الجمال من هذه القيم الخالدة، وهذا غرور عند الأدباء لا يقوله السياسي أو الاجتماعي عن نفسه، ولو قاله لما صدقه أحد؛ إذ أين القيم الخالدة في السياسي أو الاجتماعي؟
وكيف يكون خلود في إحدى القيم مع تطور؟ أليس التطور، أي التغير إلى أعلى، هو القانون العام للموجودات أحياء أم غير أحياء؟
لقد دارت هذه الأفكار برأسي وأنا أقرأ كلمة عن الأديب المجري «جورج لوكاتش» ينكر فيها أن الجمال غاية الأدب، وقد جرأني هذا الكاتب على أن أدلي برأي في هذا الموضوع.
•••
إن قيم الأدب، مثل سائر القيم، تتغير كلما تغيرت الظروف، وإذا كان الجمال يتسلط على الأديب، ويشغل ذهنه، حتى ليتوهم أنه خالد، فإن هناك ما هو «أخلد» منه، وهو الإنسانية.
وصحيح أنه ليس هناك أديب يستطيع أن يقول إنه لا يحب الجمال أو لا ينشده في جميع ما صغر وما كبر من نشاطه، ولكن الأديب الذي يحس وجدان عصره، ويدرس مشكلاته الإنسانية والاجتماعية، لا يتمالك الإحساس بأن الأدب تعبير عن الضمير الإنساني، وإذن موضوعه، أو موضوعاته، هي مشكلات هذا الضمير: كيف يميز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والإنسانية والبهيمية؟ وكيف يكافح الشر والظلم والبهيمية؟
وهو يسترشد في كل ذلك بما تكوَّن له من فلسفة بشأن الإنسان ومجتمعه، ولا يمكن أن يكون هناك أديب ناضج بلا فلسفة.
والأديب الحق في أيامنا هو ذلك الذي ينغمس في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم، ونظم الحكم ونظم العدل، ووسائل الثراء الذي يحقق للشعب رفاهية، وليس ترفًا، وأسباب الفقر التي تحدث الجريمة والفضيحة والمذلة، بل كذلك يدرس شئون التعليم وحرية الدراسة، ويضع الحقائق فوق العقائد.
إن جميع هذه الشئون إنسانية، ولا يمكن أديبًا أن يؤثر المجلة المرصعة أو البيت الرقيق على شأن إنساني يتصل بالحقوق الأصيلة عن الحرية أو المساواة أو العدل، ولو فعل لوجب أن نعرض عنه، أو نأخذ منه ونحن على يقين، بلا خداع، بأننا نأكل الحلوى الوقتية المرفهة وليس الطعام الذي يغذو الحياة وينميها ويكبرها.
وفي ظروف الاستقرار أو الركود أو الطمأنينة، يفشو أدب الترف واللذة، وكثيرًا — بل ربما على الدوام — يكون مؤلفو هذا الأدب أنفسهم من المترفين الذين استقروا وارتضوا حالهم الاجتماعية السائدة، فكرهوا التغيير، وقنعوا بلذة مستقرهم ونسوا الإنسانية.
ولا عبرة بأن يقال إنهم عاشوا في عصر مضطرب وكان يجب أن ينعكس اضطراب عصرهم في أدبهم؛ ذلك أنهم في الأغلب نشئُوا على نية الكفاح، فكافحوا فترة من شبابهم، ثم سئموا، أو تعبوا، أو وجدوا أن المكافأة عن الكفاح لا تغري، فتركوا معسكر الشعب إلى معسكر السادة، وأصبحوا يقولون إن غاية الأدب هي الجمال … كلام المترفين … كما كان مترفو عصر النهضة في أوروبا يطلبون من الرسام صورة امرأة جميلة لها صدر ناهد وعينان ناطقتان.
ومع هذا يجب أن نسلم بأن هناك أدباء نشئُوا على نية الكفاح وثبتوا عليها، ثم لما سعدوا لم يتغيروا، ولم ينقلهم هذا الثراء — نفسيًّا وفنيًّا — إلى «الترف الذهني»، وهناك من لم يسعدوا بالثراء أو الهناء، فثبتوا أيضًا راضين بالاضطهاد والسجن إيثارًا لصفوف الشعب الجائع على صفوف السادة المترفين.
وليس العالم في فترة تاريخه الحاضرة في استقرار، فإنا نعيش في وسط يحوي من الحضارات والثقافات والأهداف الاجتماعية، بل يحوي من ألوان الاستعمار والاستغلال والرجعية في الشرق والغرب، ما يحمل كل إنسان إنساني على أن يتعرف مكانه من هذا الاضطراب أو هذه الفوضى ويعينه، وعلى أن «يجتهد» حتى يميز بين الحسن والسيئ، ثم عليه بعد ذلك أن يعرف جبهته وهدفه ومعسكره، فيدافع عن موقفه، ويجهد للوصول إلى هدفه.
على كل إنسان أن يفعل ذلك إذا استطاع، والأديب أولى الناس بأن يفعل ذلك؛ إذ هو يرى أكثر ويفهم أكثر.
نحن في فترة من التاريخ يطالبنا الأدب فيها بأن نكون كفاحيين، وألا نجعل الجمال يستغرق بعض اهتمامنا فضلًا عن كل اهتمامنا.
لقد مرت بحياتي القصيرة أحداث لا أنساها؛ منها حربان قُتِل فيهما نحو ثلاثين مليون شاب لكلٍّ منهم أم وأب، وربما زوجة أو حبيبة كانت تنتظر الزواج منه، ودُمِّرَتْ بيوت، وجُرِح ملايين من الشباب والنساء والرجال، ومنها مجاعة قتلت في الهند نحو ثلاثة ملايين هندي، ومنها كوليرا دخلت بلادنا فقتلت آلاف الحفاة الجائعين، ومنها استعمار دموي في أفريقيا الشمالية وأفريقيا الشرقية، ومنها كنوز من البترول أخرجتها الأرض في هذا الشرق العربي، ولكن الإنسان العربي، في هذا الشرق العربي، لا يزال جائعًا حافيًا، ومنها بهيمية ملوكية تسلطت على أرضنا، وتمرغت، بكل ما فيها من فساد، على مقدساتنا، ومنها برلمان جُمِع عند الظهر ثم طُرِد أعضاؤه في مساء اليوم نفسه، كأنهم مجموعة من الكلاب، ومنها، ومنها.
فهل يجوز لأديب أن يقول إزاء هذه الأحوال إن هدفه من أدبه هو الجمال، وإنه لا شأن له بهذه الأحداث؟
هل يجوز له أن يقول: انظروا لقد صنعت ورصعت هذه الجملة، ونظمت هذا البيت البديع. ثم يترك هذه الكوارث كأنها جرت في عصر غير عصره؟! هل له الحق في أن يعيش في البرج العاجي، بينما الأمة تعيش في البدرومات؟!
بالطبع لا، لا يمكن أديبًا أن يقف على الحياد هنا؛ إذ عليه أن يكون إنسانيًّا، والإنسانية تقتضيه الكفاح.
ولكن ماذا نقول في أدباء لم يقنعوا حتى بالحياد، بل انضموا إلى معسكر السادة، بل الطغاة من السادة، وارتضوا البهيمية الملوكية يمدحونها ويرفعونها إلى السموات؟
هل ينساهم التاريخ، أم يبدي رأيه فيهم؟ هل يقول إن غرامهم بالجمال كان أعظم وأطغى من غرامهم بالإنسانية؟
في ظروف مصر الحاضرة، ومنذ أكثر من ستين أو سبعين سنة، لم يكن مفر للأديب المصري أو العربي من أن يكون سياسيًّا؛ لأن السياسة هي مقدار الخبز الذي يُقرَّر للفقير، وهي الدواء للمريض، وهي الحرية لجميع أبناء الشعب، وهي حرية المرأة على الخصوص، وهي حق التعلم، وفوق كل هذا ينطوي درس السياسة والاشتباك في مركباتها على حق الاستقلال.
إن تاريخ أدبائنا في مصر هو مأساة إنسانية قبل أن يكون مأساة أدبية، وحسبي أن أذكر خمسة أو ستة من هؤلاء الأدباء.
ولست أذكر شوقي الذي طعن في وطنية عرابي ونظم الأشعار في سبِّه، ثم قَصَرَ قلمه — أو كاد — على مدح الخديوي عباس، ولكني أذكر أولئك الذين جاءوا بعده وأوهموا الجمهور أنهم يحسنون الأدب.
وأولهم محمد حسين هيكل الذي أيد عدلي في تحطيمه لوحدة الأمة بقيادة سعد الذي كان شعار هذه الوحدة، ثم بعد ذلك أيد زيور الذي جمع البرلمان في الظهر ثم حله في مساء اليوم نفسه وطرد الأعضاء، ثم أيد محمد محمود في تعطيل البرلمان ثلاث سنوات تقبل التجديد.
لقد بدأ هيكل حياته الأدبية بالتأليف عن داعية الرومانتية في فرنسا؛ أي داعية الشعبية «روسو»، ثم انتهى بمكافحة الديمقراطية في مصر … هذا أديب.
وأديب آخر هو إبراهيم عبد القادر المازني؛ فقد اشترك مع الدكتور طه حسين في تحرير جريدة يومية تخدم زيور في مكافحة الشعب، زيور هذا الذي جمع البرلمان في الظهر ثم حله في المساء، بلا أدنى إحساس بقيمة الشعب المصري الذي كان يمثله هؤلاء الأعضاء.
لقد كان الشعب المصر يكافح في جبهتين: الأولى: هي هؤلاء الملوك الأتراك من سلالة محمد علي، والثانية: هي جبهة الاستعمار البريطاني. وكثيرًا ما كانت هاتان الجبهتان تتَّحدان ضد الشعب، وفي أيام زيور كان الاتحاد بينهما وثيقًا؛ لأن زيور جاء عقب مقتل السردار البريطاني في السودان كي يؤدب الأمة المصرية التي تلجأ إلى العنف في مقاومة الاستعمار، ووجد فؤاد — الملك وقتئذٍ — أنه يمكنه أن يستغل هذه الفرصة؛ أي فرصة الغضب الاستعماري البريطاني، بأن يحطم الحياة النيابية، وحطمها.
وكان طه حسين والمازني القلمين الفصيحين في الدعوة إلى هذا التحطيم، فهل ينسى التاريخ هذا؟
هل ينسى التاريخ أن أديبين مصريين ارتضيا جمع البرلمان المصري في الصباح ثم طرد أعضائه في المساء؟!
ثم بعد ذلك نجد علي الجارم، وهو عجيبة في مأساة الأدب المصري في القرن العشرين، فإنه ألف المجلدات في مدح تمثال النجاسة فاروق، وقد طبعتها له مطبعة المعارف أجمل الطبع وأتقنه، حتى يجد الرواج الذي لا يستحقه، ولا يتسع المجال هنا لنشر إحدى قصائده، ولكن أكتفي بذكر قصة قذرة تدل على العقل القذر والقلب القذر ونصيب علي الجارم منهما.
ذلك أن إحدى الصحف كانت قد ذكرت، كذبًا ونفاقًا، أن جملًا قد أُرسِل للمجزر للذبح، فانتفض من سكين الجزار، وفر من المجزر، ثم ما زال يعدو في الشوارع حتى وصل إلى عابدين — قصر فاروق — وهناك كانت استغاثته حتى لا يُذبح! وأغاثه فاروق فلم يُذبح!
وكُتب هذا الهذر والسخف في بعض جرائد مصر، يا لها من فضيحة! ولكن علي الجارم انتهز هذه الفضيحة، فألَّف عنها قصيدة يشيد فيها بعدل فاروق، كان منها هذه الأبيات:
هل يمكن إنسانًا أن يعبث بعقله، ويلعب بحياة الشعب المصري، بالإنسانية، إلى هذا الحد! إلى حد أن يوصف ملكه بهذا الكذب؟
لقد عاش «ملك مصر» هذا خمس عشرة سنة وهو يتولى العرش، ويفسق، ويسرق، ويفسد، ولكنه بدلًا من أن يجد الأديب الحر الذي يقول له: قف. وَجَدَ من يصفه بأنه من أصحاب المعجزات!
ووجد الدكتور طه حسين، الذي خاطبه أمام الطلبة، شباب الشعب ومعقد آماله، فيقول له في صوت عالٍ: يا صاحب مصر.
إنني لم أسعد من قبل بفرصة كهذه الفرصة الواسعة؛ لاستجلاء طلعة المليك عن كثب والإصغاء إلى جلالته على انفراد في جو لا مثيل له بين أجواء اللقاء والحديث؛ لأنه جو الملك والديمقراطية ممثلين في شخصه الكريم أجمل تمثيل، مجتمعين في سماعه وكلماته وإرشاداته أحسن اجتماع.
لقد سمعت في هذا الحديث الواحد كلام فيلسوف، وكلام وطني غيور، وكلام محدث ظريف، وطاف بخاطري ذكر الإيمان وذكر الوطن …
ثم يؤلف قصيدة، عقب عودة النقراشي من مجلس الأمن، يقول في مطلعها:
ثم ينتقل إلى مدح فاروق فيقول:
إلخ، إلخ …
إن الأدباء هم كهنة الشعب وأئمته ووعاظه العصريون، وهم الذين يرسمون الخطط، ويعينون الأذواق، ويفتحون المستقبل، ويسمون إلى أرقى المستويات في الفكر والعمل، فماذا نقول في هؤلاء «الأدباء» وتاريخهم في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر؟
إني حين أتأملهم أحس أني ظلمت شوقي؛ فإنه قد نشأ على أعتاب القصور لا يعرف الشعب إلا أنه «رعية»، ولا يفهم أكثر من أن الدنيا للملوك والأمراء، أما هؤلاء فما عذرهم؟!
•••
لا، لم تكن الإنسانية غاية الأدب من الأدباء الكبار في مصر طوال النصف الأول من القرن العشرين، ولكن مع ذلك ظهر أدباء الشباب الجدد الذين ألفوا القصة، ودرسوا المذاهب، وشرعوا يبعثون حركة رومانتية بدأت تؤتي ثمارها.