الطور الأول: الماسونية١ العملية المحضة
كانت الماسونية في هذا الطور مقصورة على بناء الأبنية وما شاكلها، ولم يكن يُقبَل فيها إلا الذين يمارسون صناعة البناء بأنفسهم، ولا بأس إذا كانوا فوق ذلك على شيء من العلوم والآداب والفضيلة. على أنهم كثيرًا ما كانوا يمارسون هذه الفضائل رسميًّا في اجتماعاتهم كما سترى.
(١) مهد الماسونية ومؤسِّسها
إن مهد هذه الجمعية رومية، وأول اجتماع التئم تحت اسم البناية كان في سنة ٧١٥ق.م بأمر نوما بومبيليوس وتحت عنايته. وتفصيل ذلك أن رومية بعد موت بانيها «روملُّس» أصبحت في احتياج لمَن يحكم فيها وينظم أحوالها، لا سيما وقد كان فيها من الأحزاب المتناظرة في طلب التبوُّء ما كان يُخشَى معه أن تنحط سطوتها، فتذهب فريسة المطامع والانقسام.
وبعد التداول في الأمر أقَرَّ السراة ورجال الدولة على أن يختاروا لهم ملكًا من غير أبناء ملتهم، وأن يكون صابنيًّا.
وكان في ذلك العهد في صابنيا «من إيطاليا» رجل من الأشراف يُدعَى نوما بومبيليوس من الفضل والتقوى على جانب عظيم، وكان محبًّا للعُزْلة، كارهًا لما يسعى إليه الناس حبًّا بالسلطة والأثرة، عاملًا على كبح شهواته، وكانت له زوجة تحب ما يحب وتكره ما يكره، فعاشا ثلاثة عشر عامًا في «كورس»، ثم قضت نحبها فأسف نوما عليها كثيرًا، فزاد كرهًا في الدنيا ورغبة في العُزْلة، فغادر المدينة وأَلِف القفار وأَوَى إلى الكهوف، جاعلًا نصب عينيه ألَّا ينفك عن التعبُّد والتقوى وتعديد صفات الآلهة، والتردد على الينابيع المقدسة.
فأقر الرومانيون على انتخابه ليحكم فيهم، فأنفذوا إليه اثنين من سراتهم ليبلغوه ما كان من إجماع الشعب على انتخابه، فقال لهم: «إني ممَّن يؤثرون هذا القفر على قصور رومية، فضلًا عن أن السلطة — ولا سيما على الشعب الروماني — لَمِن الأمور الصعاب، فقد كان لي أن أعتبر بما صار إليه روملُّس وأنتم تعتقدون أنه سلالة الآلهة، فكيف بي وأنا رجل لم أعتَدْ سياسة الملك، وربما إذا داهمكم سوء من عدو لا أقوى على دفعه، إنما أنتم في احتياج إلى رجل باسل اعتاد الغارات ودَفْع النازلات.» فأخذ الرسولان يستنهضان شعائره إلى إنقاذ رومية من نزاع الأمة، وأنه إذا فعل ذلك إنما يفعله إرضاءً للآلهة التي اختارته، وما زالا على مثل ذلك حتى أجاب الطلب. فنهض للحال وذبح للآلهة ثم سار إلى المدينة، وذهب توًّا إلى رابية طاربيس ليستخير الآلهة، فجلس على حجر موليًا وجهه الجنوب، وجعل على رأسه غطاءً، ورئيس العيافة وراءه جاعلًا يده اليمنى فوق رأسه مصليًّا، فنظر نوما إلى السماء متيمنًا، فإذا ببعض الطيور مارة، فتفاءل الجميع واعتبروا ذلك دليلًا على استحسان الآلهة ذلك الانتخاب، ثم سار نوما إلى البناء المعَدِّ له وأخذ في سياسة الملك وتوطيد الأمن، فوسع المدينة ومدَّ أسوارها.
وكان هذا الملك يعتقد بإله واحد واجب الوجود غير متغير وغير منظور، ولا ريب أنه كان عضوًا لإحدى الجمعيات السرية المقدسة في ذلك العهد، لأن مثل هذا الاعتقاد كان معدودًا من التعاليم السرية لا يباح به إلا لمن يستحقه على ما مَرَّ بك. ويظهر من شدة التقوى والزهد اللذين كان عليهما نوما، أنه كان من المتعمِّقين في تلك الأسرار، ولعله كان من الكهنة العظام، ومما يؤيد ذلك أنه منع الرومانيين من تمثيل آلهتهم بصورة رجل أو بهيمة، وجعل قرابينهم محصورة في الخبز والعسل والخمر واللبن، ثم شاد المعابد ونظم الكهنة وأكثر من الاحتفالات الدينية، وبنى هيكلًا للإله جانس رب الفطنة والتدبير، وأمر أن يُغلَق هذا الهيكل في أيام السِّلْم ويُفتَح في زمن الحرب. وحرم الآباء حق التسلُّط المطلَق على أولادهم بعد الإرشاد، واعتنى بأمر الحراثة اعتناءً خصوصيًّا، فأقام لها دواوين خاصة بها، وفرض على الأهالي الاعتناء بها، وكان يعاقب الذين يهملونها.
ومما يهمنا ذكره هنا أنه جعل للصناعة في رومية شأنًا مهمًّا، فقسَّمها إلى حِرَف وطوائف، وجعل لكل حرفة تمثالًا، وأعطى الجميع امتيازات، وسمح لكل طائفة أن تملك عقارًا وأن تذخر مداخيلها في صناديقها تنفقها في سبيل احتفالات مقدسة تقيمها في أوقاتها. وكان في جملة تلك الطوائف طائفة البنَّائين، جعلها جماعات على نظام جماعات الديونيسيين الذين كانوا منتشرين قبل ذلك العهد بأجيال في سوريا ومصر وفارس والهند، وبنى لها مدارس مختصة بها دعاها «مدارس البنَّائين»، وعهد إليها وحدها بناء الهياكل الدينية، وما تحتاج إليه الدولة من القلاع والأسوار والمحلات العمومية. وجعل لهذه المدارس قوانين خصوصية وامتيازات لم تُعْطَ لغيرها، وجعل لها أن تضع شرائع لنفسها، وأن تُقِيم المعاهدات فيما بينها، وهي معافة من سائر أنواع الضرائب. وجعل على كل فئة من أولئك البنَّائين رئيسًا دعاه «الأستاذ»، وتحته معاونون «منبهون» وكَتَبَة وأمناء الخزنة وأصحاب الختم وغير ذلك. وكان لهم أطباء مخصوصون وخَدَمَة من بينهم، وكانوا يفرِّقون الأعطيات شهريًّا، وكان عدد أعضاء كل مدرسة أو جمعية محدودًا بحسب القانون ومعظمهم من اليونانيين. وكانوا يحافظون على أسرار صناعتهم وأشغالهم محافظةً تامة، ويستعملون الرموز والإشارات، وكانوا يدعون بعضهم بعضًا إخوة.
فكانت الدولة إذا أرادت بناء الهياكل أو القلاع أو الأسوار عهدت ذلك إلى جماعة من تلك الجماعات، فترسل من أعضائها فئة فيها من كافة عَمَلَة البناء، يقيمونه على أحسن أسلوب من الهندسة والمتانة والجمال. فكانوا إذا انتُدِبوا إلى بناء الهيكل مثلًا، تذهب الفئة المنتدَبة لذلك من البنَّائين، ويبنون لأنفسهم بيوتًا من الخشب قريبة من محل البناء يأوون إليها في ساعات الاستراحة، وهناك يلتئمون بصفة رسمية، يتداولون فيما كان من شغل نهارهم ويوزعون شغل الغد فيما بينهم، ويكرسون مَن قد سبق الإقرار على قَبولهم، وكل ذلك يقرر بأغلبية الآراء.
- (١)
التلامذة.
- (٢)
الرِّفَاق.
- (٣)
الأساتذة.
وهي درجات يرتقي فيها العضو بالاستحقاق، وكانوا يقيمون فيما بينهم العهود الوثيقة المؤيدة بالأَيْمَان أن يساعدوا بعضهم بعضًا. أما رؤساء اجتماعاتهم «المحافل»، فكانوا يُنتَخبون كل خمس سنوات ويُلقَّبون بالأساتذة.
وكان الإخوة البنَّاءون لا يبتدئون في أشغالهم إلا بعد تقديم بعض الفروض الدينية، ونظرًا لاختلاف نزعاتهم ومعتقداتهم كثرت أسماء آلهتهم؛ فاتفقوا إذا صلوا أن تكون صلواتهم باسم «مهندس الكون العظيم» إشارةً إلى أن هذا الكون بناءٌ عظيم، فخالقه مهندس عظيم.
وكان تكريس الطالبين المختارين في هذه الجماعات مقصورًا على تلاوة بعض الفروض الدينية، ثم يبلغونهم واجباتهم ويفسرون لهم بعض الرموز، ويعلمونهم إشارات التعارف بعد القَسَم على كتمانها. ومثل ذلك في ترقية التلامذة إلى رتبة الرفاق، إلا أن هؤلاء يتعلمون فوق ذلك كيف يستخدمون المربع والفادن.
أما في ترقية الرفاق إلى درجة الأساتذة، فإنهم كانوا يقيمون الاحتفالات المقدسة والامتحانات المرهبة بما يشبه طريقة المصريين القدماء.
وجماعة البنَّائين على انحصار مهنتهم في البناء، كانوا لا يتركون عِلْمًا من علوم العصر إلا أتقنوه وبرعوا فيه وعلَّموه في محافلهم، بحيث إنهم فاقوا سائر الجماعات الأخرى في العلم والفضل، فانتشروا في أنحاء كثيرة من العالم، وكانت لهم كلمات وإشارات يتعارفون بها.
وكان انتشار هذه الجماعات تابعًا على الغالب لانتشار سطوة الدولة الرومانية، ولا سيما الفئات التي كانت منوطة ببناء الحصون والاستحكامات والمستشفيات والجسور والترع وما شاكل، وكانت تُدعَى «أخويات» إحداها «أخوية»، وكانت تستخدم في مثل هذه الأبنية العساكر وفَعَلَة آخرين من غير جمعياتهم، فبلغت هذه الجمعية درجة عظيمة من العلم والأدب وصناعة البناء، وصار لها شأن عظيم عند الدولة الرومانية، وكانت ترافقها حيث حلَّتْ منتصرة، فأصبحت دعامة هيئتها الاجتماعية علمًا وعملًا. وما زالت هذه حالتها حتى سقوط الدولة الرومانية وتسلُّط البرابرة، فانحطت وضعفت سطوتها، وما زالت تحاول النهوض حتى انتشرت الديانة المسيحية في أوروبا، فعادت هذه الجمعية أو الجمعيات إلى رونقها واتَّسَع نطاقها.
(٢) الماسونية في عهد الدولة الرومانية
ففي سنة ٧١٠ق.م عهد نوما بومبيليوس إلى جماعة البنَّائين بناءَ سور المدينة، ثم أمر بتتميم بناء هياكل الشمس والقمر وزحل وغيرها من المعبودات. وكان روملس والصابنيون قد شرعوا فيها، فعهد هو إلى البنائين إتمامها، ولما أتمُّوها عهد إليهم بناءَ هيكل لكلٍّ من الفضيلة والأمانة وروملس وجانس، وكان نوما يعتبر هذا الإله على الخصوص، وبنى غير ذلك من الأبنية الهائلة.
وفي أيام أنكس ماركس كثر الشعب الروماني فاتسع نطاق رومية، فعهد إلى البنائين بناءَ سورٍ آخَر خارج الأول، ثم بعد ذلك عهد إليهم بناء مينا بحرية في أوستي لتقوية التجارة، وبناء كثير من المراكب البحرية.
وفي أيام تركوين سنة ٦١٠ق.م بنى البنَّاءون هياكل عديدة للآلهة جوبتير ويونون ومنارﭬﺎ، وعهد إليهم بناء سور وترعة تحت الأرض.
وفي أيام سرفيوس طوليوس سنة ٥٨٠ق.م بنوا هيكل ديانا وغيره. وما زالت البنايات تُشَاد حتى سنة ٤٥١؛ إذ وُضِعت الشرائع الرومانية في ١٢ لوحًا، في اللوح الثامن منها شيء يتعلق بجماعة البنَّائين.
وفي سنة ٣٩٠ق.م هدمت بعض بنايات رومية بسبب غارة الغاليين عليها وحرق بعضها، وفي ٣٨٥ رُمِّمت وبُنِيت معابد وبنايات أخرى.
وفي سنة ٢٨٥ق.م بعد استيلاء الرومانيين على غاليا سيسالبين انتشرت أخويات البنائين «كذا كان اسمهم»، في أقسام كثيرة من تلك البلاد المفتتَحة، أخوية في كل مقاطعة. وكانوا يرافقون الجيوش حيث توجهوا لتمهيد السُّبُل وبناء القلع والحصون والخنادق والجسور والترع، شأن فرق المهندسين في جيوش الأمم الحديثة، فإن هؤلاء يرافقون الجيش في الحروب؛ يقيمون لهم الجسور والسكك الحديدية، ويوصلون خطوط المخابرات من تلغرافات وتلفون وإشارات وغير ذلك. وكان الإخوة البنَّاءون يستخدمون العساكر وغيرهم من الفَعَلَة في إقامة تلك الحاجيات الحربية وغيرها، وكانوا على جانب من الانتظام يرأسهم رؤساء عموميون وخصوصيون، وفيهم أرباب الصنائع والعلوم وحقوقهم وامتيازاتهم محفوظة؛ فانتشر بوساطتهم حب الفضيلة والآداب والصنائع الرومانيَّة في سائر البلاد التي افتتحتها الدولة الرومانية، وكانوا يحملون الأمم المقهورة على استعمال الشرائع الرومانية والتخلق بأخلاق الرومان.
وفي سنة ٢٨٠ق.م بعد غلبة الرومان على القرطجنيين في البحر، بنوا هيكلًا لجانوس وآخَر للرجاء.
وفي سنة ٢٧٥ق.م أتم الرومان فتح معظم البلاد الغاليَّة، وأقاموا فيها أخويات البنَّائين يرممون ما هُدِم منها، ويقيمون فيها القلع والأسوار، وبعد يسيرٍ استولوا على إسبانيا، فأقاموا فيها أخويَّة، فأسست مدينة قرطبة سنة ٢٢٥ق.م.
وفي سنة ٢٢٠ق.م هاجم هانيبال الرومانيين، فهزموه وأقاموا في رومية تذكارًا لانتصارهم معبدًا لإلهٍ سخري.
وما زال الرومان يقيمون البنايات والمعابد في بلادهم والبلاد المفتتحة إلى سنة ١٠١ق.م بعد انتصارهم على التيوتينيين. وكانت بنايات الإخوة البنَّائين إلى هذا العهد على النمط الأتروري (نسبة إلى أتروريا من إيطاليا) أيْ أن يقيموها على بساطتها، وإذا أرادوا تزيينها يجعلون فيها تماثيل وأدوات أخرى مغتنَمَة من أعدائهم، أما بعد هذا التاريخ فصار فيهم ميل شديد إلى تقليد اليونانيين في مبانيهم، إلى أن تمكَّنَ ذلك الميل فأهملوا النمط الروماني.
وفي سنة ٧٩ق.م دُمِّرت مدينة هركولانوم، وهي مدينة قديمة العهد بناها الإخوة البنَّاءون، فذهبت فريسة بركان فيزوف.
ومثل ذلك مدينة بومباي، وهذه لم تكن أقل شهرة من هركولانوم، فإنها ذهبت فريسة زلزلة حصلت في تلك السنة، ثم ردم معظمها من متصعدات فيزوف.
وفي سنة ٦٠ق.م تسلط يوليوس قيصر على جميع غاليا الترنسالبانية، وهي الآن فرنسا وبلجيكا وسويسرا، وذلك بعد حرب عشر سنوات. قال بلوتارخس: إن ثمانمائة مدينة غالية دُمِّرت بسبب هذه الحرب. فعهد يوليوس قيصر إلى جميع أخويات البنائين في سائر الأقطار أن يقيموا تلك المدن بمساعدة عساكره، وأن يجعلوها أتقن مما كانت، وأن يجعلوا فيها الهياكل والمعابد، فأجروا ما أمر به وتتبعوا العمل بعد وفاته بأمر من خلفه، حتى أتوا على إتمام ذلك العمل العظيم؛ فكان لديهم مدن كثيرة صار لها شأن، ولا يزال إلى هذا اليوم، منها مون تريف، والريم، وتور، وبوردو، وليون، وﭬﻴﻨﺎ، وطولوس، وباريس، وغيرها من المدن العظيمة، وقد دُرِس بعضها.
وفي سنة ٥٥ق.م حارب الرومان بريطانيا مرارًا وتغلَّبوا على أهلها، لكنهم لم يتسلطوا عليها، وأخيرًا أمر يوليوس قيصر أن تتقدم جيوشه في البلاد البريطانية، وأمر الإخوة البنَّائين أن يرافقوهم ويبتنوا لهم معسكرًا محاطًا بسور يجعلون في ساحته خنادق ومعابد وبيوتًا، ففعلوا ودعوا ذلك المكان «أبوراكم» وهي الآن «يورك»، وهي عظيمة الأهمية في تاريخ الماسونية.
وبينما كان يوليوس قيصر منشغلًا بالفتوحات ويهدم هياكل السلتيين والبروديين سنة ٥٠ق.م كان بومبه منشغلًا في رومية ببناء المرسح الشهير المصنوع من الرخام الأبيض، وهو من السعة بحيث إنه يسع ثلاثين ألفًا من الناس، فبناه الإخوة البنَّاءون وبنوا كثيرًا غيره، ثم لما عاد يوليوس قيصر إلى رومية رمَّم كثيرًا من الهياكل وأمر ببناء هياكل جديدة، منها هيكل لمارس، وآخَر لأبولون، وآخَر للزهرة، وجميع هذه في إيطاليا الحديثة، ولما أتموا ذلك أنفذ منهم فرقة إلى قرطجنة ليرمِّموها. وما زالت البنايات والمعابد تقام في رومية وما تحتها في أيام يوليوس قيصر ومن خلفه إلى أول التاريخ المسيحي.
ففي سنة ٥ب.م كان في رومية بنَّاءون من اليهود، وكانوا تحت حماية الحكومة، وكان مرخَّصًا لهم إقامةُ المعابد من أيام يوليوس قيصر، فانضم منهم جانب إلى أخوية البنائين ليتيسَّر لهم استخدام صناعة البناء في بناء معابدهم، فأدخلوا جانبًا من الأسرار اليهودية إلى الأخوية.
وفي سنة ٥٠ب.م أخذت أخوية البنائين في الضعف لِمَا طرأ عليها من تغيُّر الحكام واختلاف مشاربهم، فسُلِبَ منها كثير من الامتيازات رويدًا رويدًا؛ ولذلك نرى أن المباني التي أقيمت في ذلك العهد لم تكن قويمة العماد كالتي بُنِيت قبلها، ومثل ذلك الانحطاط لوحظ في بنايات اليونان أيضًا، والسبب في ذلك أن يوليوس قيصر كان قد أرسل عدة من كبار البنَّائين في فِرَق من إخوانهم إلى الأنحاء الكثيرة التي افتتحها، لكي ينشروا فيها روح الفضيلة والآداب وحب العدل والإذعان للحاكم. وبالحقيقة إن تعاليم أولئك البنَّائين كانت تؤثِّر في عقول هؤلاء الشعوب تأثيرًا يعجز عنه سيف يوليوس قيصر.
وبين الرؤساء الأساتذة الذين قاموا في ذلك العهد كوسوتيوس وكايوس وماركس ستاليوس ومينالبوس وسيروس وكلوتيوس وكريسيب وغيرهم، وكان بينهم آخرون امتازوا بأنهم كتبوا شيئًا عن علم البناء لكي يُنشَر على الإخوة البنائين الذين كانوا بعيدين من المدارس المركزية، وهؤلاء المؤلفون هم ﭬﻴﺘﺮﭬﻴﻮس يوليو، وﭬﻮﻟﭭﻮتيوس، وفارون، وبوبليوس، وسبتموس.
وفي سنة ٥٤ب.م أحرق نيرون الملك عاصمته، ثم أمر ببناء سرايته المعروفة بقصر الذهب. وفي أيام كلوديوس اتسعت رومية.
وفي سنة ٩٠ب.م بنى البنَّاءون في بريطانيا بأمر القائد إغريقولا استحكاماتٍ في خليجَيْ فورث وكليد.
وفي سنة ١٢٠ب.م في حكم أوديان كثر بناء الهياكل في رومية، ثم إن هذا الملك الهمام طاف في سائر بلاده الشاسعة الأطراف، وبعد عوده أنفذ فرقة من الإخوة البنَّائين إلى بريطانيا لتبني سورًا كبيرًا ممتدًا من «تين» إلى خليج «سلوي»، قاطعًا جميع بريطانيا من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي؛ وقاية للمستعمرات العسكرية من هجمات الاسكوتلانديين المستمرة. وأنفذ فرقة إلى إسبانيا لإتمام الهياكل التي كان شرع في بنائها أوغسطوس، وأقام هياكل كثيرة في أفريقيا ولا سيما في جزائر الغرب وتونس، ولم تُحرَم آسيا أيضًا من مثل تلك البنايات. إلا أن اليونان أحرزت القسم الأكبر من الاعتناء في أمر البناء، فأقيمت فيها هياكل لجوبتير وبانهلينيان وبانثيون، والأول من هذه الهياكل قائم على ١٢٢ عمودًا.
ولما سقطت الجمهورية الرومانية سنة ١٣٠ب.م سقطت معها جميع الجماعات العلمية والصناعية، التي كان أقامها نوما بومبيليوس وخسرت كل امتيازاتها، إلا أن أخوية البنائين نظرًا لحب أولي الأمر للمجد والفخر وداعيات الترف أبقوا لها امتيازاتها كما كانت تقريبًا؛ كل ذلك لينشطوا صناعة البناء، فيبني لهم البناءون القصور والهياكل والتماثيل الهائلة لتحفظ ذِكْرهم إلى الأجيال الآتية بعدهم.
وفي سنة ١٤٠ب.م أنفذ أنطونين جماعة من البنائين إلى بريطانيا لتبني سورًا منيعًا؛ وقايةً من الاسكوتلانديين الذين لم ينفكوا عن مهاجمة مستعمرات الرومان. ونظرًا لعظم ذلك المشروع احتاج البنَّاءون إلى استخدام الوطنيين في بنائه، فأدخلوا في أخويتهم عددًا من رجالهم.
ومِن آثارِ الإخوة البنائين التي أُقِيمت بأمر أنطونين قلعةُ بعلبك الشهيرة، فإنها في الأصل هيكلان أقامهما هذا الملك لعبادة الشمس، وكيفية ذلك أن جماعة من الإخوة البنائين — وهم من بقايا جماعات رومية — هاجروا إلى تلك الأصقاع في أيام اضطهاد نيرون ودميسيان وتراجان للديانة المسيحية، وكانوا في جملة مَن تابعها، فغادروا رومية طلبًا للنجاة، ثم لما جاء على الأحكام مَن رفع الاضطهاد عنهم عادوا إلى بلادهم.
(٣) انتصار الماسونية للديانة المسيحية وما قاسته في سبيل ذلك
وفي سنة ١٦٦ اعتنق الديانة المسيحية كثير من الإخوة البنائين في رومية وجاهروا بالانتصار لها، فشق ذلك على الإمبراطور مارك أورال، فاقتفى آثار أسلافه فأعاد الاضطهاد وشدَّد النكير، فهاجر كثيرون من غاليا وغيرها والتجئوا إلى بريطانيا حيث لاقاهم هناك إخوانهم وأكرموا مثواهم.
أما البناءون المتنصرون في رومية فكانوا يأوون الكهوف والمقابر فرارًا مما كان يتهددهم من المخاوف والاضطهادات، فنجوا من الإعدام الذي كان محكومًا عليهم به، ولم تمضِ عليهم عشر سنوات من الاضطهاد تحت حكم مارك أورال حتى جعلوا المدافن التي كانوا يأوون إليها هياكل بديعة الصنعة مزينة بأنواع النقوش، وأقاموا مذابحها على قبور الذين استشهدوا منهم في سبيل الدين. ثم زاد عدد الشهداء حتى إنهم كانوا يبنون فوق مدافنهم الكنائس العظيمة، وبالغ البناءون في الانتصار للديانة المسيحية حتى إنهم نسوا ذواتهم ومالهم في سبيلها، فكانوا يعرضون بأرواحهم للقتل والاضطهاد الذي كان يتزايد يومًا فيومًا، كل ذلك انتصارًا لما كانوا يعتقدون فيه الصواب والحق.
ولا نظنهم كانوا يفعلون ذلك إلا رغبة في نصرة الحق ونشر المبادئ الصحيحة؛ تخلصًا من عبادة الأوثان المزعجة التي كانت سائدة في ذلك العهد. وسترى أنهم تابعوا سيرهم في هذا السبيل، بحيث إنه لم يَعُدْ لدينا ما يمنع قولنا إنهم كانوا أقوى وسيلة لنشر الديانة المسيحية في تلك الأعصر المظلمة.
وفي عهد الإمبراطور طيت سنة ١٨٠ب.م استؤنف الاضطهاد، وبالغ هذا الإمبراطور في ذلك حتى أباح دماء كلِّ مَن عرف عنه الانتماء أو الانتصار لتلك الديانة، فأقام في البنائين القتل والأسر، ولم يَنْجُ منهم إلا الذين أتيح لهم الفرار إلى المشرق، فانحطت صناعة البناء في رومية.
وفي عهد الإمبراطور إسكندر سافار سنة ١٩٣ عادت تلك الصناعة إلى شيء من الظهور؛ لأن ذلك الإمبراطور كان منشطًا لها، وكان يدافع عن المسيحيين سرًّا، فرمَّمَ عدة هياكل قديمة كانت على وشك الدمار، وكان في نيته إقامة معبد للمسيح، لكنه أوقف عن عزمه بدعوى الشعب أنه إذا فعل ذلك إنما يكون ساعيًّا إلى خراب سائر الهياكل.
وفي سنة ٢٠٠ب.م سعى هذا الإمبراطور إلى بناء سور جديد في بريطانيا شمالي السور القديم حمايةً لأملاكه فيها، غير أن البنائين الرومانيين لم يكونوا كُفْئًا لإتمام ذلك نظرًا لقلة عددهم، فاضطروا إلى التسليم بإنشاء أخوية بريطانية من أبناء تلك البلاد، وأن يجعلوا لهم امتيازات وحقوقًا كالتي كانت لهم في سالف الزمن.
وفي عهد الإمبراطورَيْن ديسيوس وفايريوس عاد الاضطهاد على المسيحيين، فعادت صناعة البناء إلى الخمول؛ لأن البنائين كانوا يلتجئون إلى غاليا وبريطانيا، حيث كان الاضطهاد أخف وطأةً عليهم. على أنهم لم يروا بدًّا من العود إلى الكهوف والمقابر اختفاءً من وجه المضطهدين.
وفي سنة ٢٦٠ب.م أنشأ البناءون فروعًا لجمعياتهم دعوها بجمعيات الفنون تلبسًا لدعواهم، لكي يمكنهم الظهور وممارسة الصناعة، ولا يزال مثل هذه الجمعيات في أوروبا يُعرَف بجمعيات الصنائع والفنون.
وفي سنة ٢٧٠ب.م قام البناءون المسيحيون في غاليا وبريطانيا وكرَّسوا أنفسهم لبناء الكنائس، فأقاموا عددًا منها في أماكن مختلفة من غاليا.
وفي سنة ٢٧٥م بنى الإخوة البناءون بأمر الإمبراطور أورليان هَيْكَلَيْ هليوس وبالمير (تدمر)، وهما مشهوران بعظمهما وإتقانهما؛ لأن أكبرهما قائم على ٤٦٤ عمودًا، بينها من العُمُد ما هو مصنوع من قطعة واحدة من الرخام، ومجمل العُمُد التي أقيم عليها الهيكلان وما يلحقهما من الرواقات وغيرها ١٤٥٠ عمودًا. وكان الإمبراطور أورليان صارفًا جهده في تنشيط البناية في رومية، وكان من جملة البنائين المشهورين في أيامه كليوداماس وأثيناكوس تلميذَا مدارس البناء في بيزانس «القسطنطينية».
وفي سنة ٢٨٠م استدعى الإمبراطور ديوقليتوس فئةً من مشاهير البنائين البريطانيين لإقامة الأبنية في غاليا.
ولما استولى كاروسيوس قائد العمارة الرومانية على بريطانيا في سنة ٢٨٧، وسُمِّي إمبراطورًا عليها، أقرَّ لأخوية البنائين في محل إقامته «سان البان» جميع الامتيازات القديمة الممنوحة لهم من نوما بومبيليوس، ودعاهم من ذلك الحين البنائين الأحرار «فريماسون»، ويزالون يُعرَفون بهذا الاسم إلى هذه الغاية.
فأزهرت الماسونية في عهد ذلك الملك، إلا أن ألبانوس رئيسها الأكبر في ذلك العهد كان مرتدًّا، فقادته منيته إلى أن يعظ الإمبراطور كاروسيوس ويرشده إلى الدين المسيحي، فاغتاظ منه وأمر بقطع رأسه، فكان هذا الرئيس الأعظم أول شهداء الماسونية في بريطانيا في سنة ٢٩٣.
وكانت مدينة يورك من أعمال بريطانيا مرجع المهرة من البنائين، ففي سنة ٢٩٦ اختارها كونستانس نائب الإمبراطور محطًّا لرحاله، فجاء بريطانيا ليتملكها بعد وفاة كاروسيوس الذي ذهب فريسة في يد أشد نصرائه. وكان في رومية في سنة ٣٠٠ خمسمائة هيكل وكثير من الجسور والمراسح والترع والمسلات والتماثيل وغيرها، وكلها من صنع جماعات البنائين.
وفي سنة ٣٠٣ شدَّد الإمبراطور ديوقليتوس الروماني وطأة الاضطهاد على المسيحيين كما هو مشهور عنه، وأهرق منهم دماء غزيرة في جميع مملكته، حتى إن مسيحيي بريطانيا الذين كانوا غالبًا من أخوية البنائين لم ينجوا من ذلك الاضطهاد، فهاجروا إلى اسكوتلاندا وجزائر أركاديا، ونقلوا معهم الديانة المسيحية وصناعة البناء.
أمَّا بنَّاءُو رومية فهاجروا إلى المشرق، والتجئوا إلى المغر والمدافن، وهلك منهم عدد غفير.
الماسونية في القسطنطينية والنمط القسطنطيني
وما زال المسيحيون أو بالحري البناءون في مثل هذا الاضطهاد حتى أيام قسطنطين الأكبر، الذي أمر باتباع هذه الديانة في كل مملكته على الأسلوب الذي رتَّبه مجمع نيقيا سنة ٣٢٥، فعاد البناءون إلى بلادهم، وانتشرت تعاليمهم في سائر العالم، ولا سيما في رومية، حيث أقاموا الكنائس العظيمة بأمر قسطنطين المذكور، وأول كنيسة أُقِيمت سنة ٣٢٣ كانت في لاتران، ثم بنوا كثيرًا غيرها على بقايا الهياكل الوثنية القديمة، من جملتها كنيسة القديس بولس التي أقيمت في الفاتيكان على شكل الصليب.
وفي سنة ٣٣٠ جعل قسطنطين الأكبر بيزانس سريرًا لملكه ودعاها القسطنطينية نسبةً إليه، وجمع إليها البنَّائين ليقيموا معاقلها وحصونها ومعابدها، وأول كنيسة أقيمت فيها كنيسة القديسة صوفيا الشهيرة، ابتدأ في بنائها سنة ٣٢٦، ثم بنى كثيرًا غيرها، وجعل في القسطنطينية مدرسة للبنَّائين يعلم فيها البناء على النمط الروماني ممزوجًا بالنمط العربي، فتولَّد منهما النمط القسطنطيني، وما زال هذا متَّبَعًا إلى الجيل الثامن.
وشُغِف قسطنطين بعاصمته الجديدة، فنقل إليها جميع ثروات رومية وأثينا ورودس وشيوس وقبرص وسيسيليا، فازدهت وعظمت وطار صيتها.
أما الماسونيون الذين هاجروا إلى سوريا وفلسطين أيام الاضطهاد، فلبثوا فيهما إلى أيام قسطنطين، ولما تولَّى هذا — وكان من انتصاره للديانة المسيحية ما كان — استخدمهم في بناء الكنائس في تلك الأنحاء، وأول ما أقيم منها كان في أورشليم وبيت لحم، ثم أمر ببناء القبر المقدَّس في أورشليم وكنائس أخرى في أنطاكية وغيرها.
وانتشرت جمعيات الإخوة البنَّائين إذ ذاك في الشرق، فملأت سوريا وفلسطين، وبلغت شبه جزيرة العرب إلى ما وراء أملاك الدولة الرومانية.
وكانت هذه الجمعيات تعظم في القسطنطينية أيضًا، حتى لم تأتِ سنة ٣٤٠ إلا وفي تلك العاصمة ٢٣ كنيسة من صنعها.
انحطاط الدولة الرومانية وتبعثُر الماسونية
وكان شأنها مثل ذلك في غاليا تحت حكم الإمبراطور جوليان سنة ٣٦٠، إلا أنها لم تأتِ سنة ٣٨٠ حتى تشتَّت شملها لما قاست المملكة الرومانية من غزوات الجرمانيين والسكسونيين، ثم غزوات الألينيين وغيرهم، فانحطت الصناعة ولا سيما البناء، فالتجأ البنَّاءون إلى الأديرة، فدخل في أسرارهم الكهنة وتمكَّنُوا فيها عمليًّا ونظريًّا.
وفي سنة ٤١٠ لم ينفك السكسونيون والبيكت عن سلب راحة الرومانيين في بريطانيا، فهدموا أسوارهم وحصونهم، وما زالوا حتى قهروهم سنة ٤١١، وقال آخرون سنة ٤٢٦، فاضطر الإخوة البنَّاءون — وكانوا عددًا يسيرًا من الوطنيين — أن يلتجئوا إلى غاليا واسكوتلاندا، ولكنهم لم ينفكوا حيث أقاموا عن بث مبادئهم ونَشْر الديانة المسيحية، مع المحافظة على طقوس محافلهم المؤسسة قديمًا.
ثم إن غزوات الشعوب المدعوين بربرًا ما زالت تتوالى على المملكة الرومانية حتى سنة ٤٧٦، إذ جاءوا على تدميرها وإحراق معابدها، فأصبحت الماسونية لا نصير لها، فهاجر أعضاؤها إلى أنحاء المشرق واليونان ومصر، وقطن قسم عظيم منهم في سوريا.
نهضة الماسونية وانتشارها
وفي سنة ٥٠٠ قام بعض مَن بقي في رومية من البنائين وجدَّدوا همتهم، فأنشئوا اجتماعات ونظَّموا حالتهم، ثم اقتدى بهم مَن كان في غاليا وأخذوا في تدمير الهياكل الوثنية وبناء الهياكل المسيحية، وكانوا متمتعين بجميع امتيازاتهم القديمة.
وأما الماسونيون الذين أقاموا في سوريا فعظم أمرهم، وشادوا البنايات العظيمة، واتسع صيتهم فبلغ مسامع العائلة الساسانية في فارس، فانتدبت فئة منهم لبناء المعاقل والمعابد والتماثيل على نمط جديد ناتج عن امتزاج النمط الرومانية واليونانية والبيزانتية، وذلك سنة ٥٣٠.
وفي سنة ٥٥٠ أمر الإمبراطور جوستنيان الأول في القسطنطينية فئةً من البنَّائين الأحرار أن يرمِّموا كنيسة القديسة صوفيا على إثر حريق هدَّ أركانها.
وقد تحوَّلت هذه الكنيسة الآن — بعد أن عُرِفت بكنيسة أجيا وصوفيا — إلى جامع إسلامي ملوكي، وهو بالحقيقة من أعظم بنايات ذلك العصر.
ومن القسطنطينية انتشرت جماعة البنَّائين إذ ذاك إلى سائر أنحاء إيطاليا وسردينيا وسيسيليا وجانب من أفريقيا، فشادوا فيها المعابد المسيحية على مثال كنيسة أجيا وصوفيا، وبثوا مبادئ هذه الديانة بين الشعب، غير أن هذه المباني ذهبت جميعها ضياعًا في أيام الملوك الإيكونوكلاستيين سنة ٧٢٦.
وفي سنة ٥٥٧ جاء إنكلترا القسيس أوستين وكان ماسونيًّا، ومن غرضه التبشير بالمسيحية في تلك الأصقاع، فترأَّس على جماعة الماسون هناك واتحدوا معًا على العمل على نشر تعاليمهم المقدسة، فانتعشت تلك الجمعية في إنكلترا.
ولم تأتِ سنة ٥٨٠ حتى نهض الماسون من غفلتهم في بريطانيا، إلا أنهم لم يكونوا عددًا كافيًا لبناء جميع البنايات التي اقتضتها حالة البلاد من انتشار الديانة المسيحية بينهم، فكانوا إذا ساروا إلى رومية لاستحضار مواد البناء، يأتون معهم بمَن يريد المجيء من البنَّائين والمصوِّرين والنقَّاشين ومَن شاكلهم من ذوي الصناعات.
وفي سنة ٦٠٢ تأسست كنيستَا كنتربري وروشستر المشهورتان في إنكلترا، وبعد ذلك بسنتين تأسست كنيسة القديس بولس في لندرا، وهي من أعظم كنائس تلك العاصمة، ولا تزال مقصودة من المتفرجين إلى هذا اليوم، وكل مَن شاهدها يعجب لهول بنائها وإتقانه. وقد أتيح لي زيارتها منذ يسير، فرأيت فيها من دقة الصنع والارتفاع واتساع قاعة الصلاة ما هو جدير بالالتفات، والقوم هناك يصعدون إلى قبتها للتفرج على العاصمة، حيث يراها الناظر دفعة واحدة لأنها من أرفع مبانيها. أما قاعة الصلاة فقد قدَّرتُ ما فيها من الكراسي والمقاعد، وما يمكن أن تسعه فوق ذلك، فرأيت أنها يمكن أن تَسَعَ عشرة آلاف شخص دفعة واحدة جلوسًا بغير ازدحام.
وفي سنة ٦١٠ توفي أوستين وكان مفتشًا عامًّا للبنَّائين الأحرار، ثم عُرِف بعد ذلك على ما يظن بالقديس أوغسطين.
الماسونية تحت رئاسة الأكليروس
وفي سنة ٦٢٠ زاد اهتمام الجماعات الماسونية في الأمور الدينية، وكانوا يُلقَّبون بألقاب مختلفة حسب الأماكن التي يقيمون فيها؛ فكانوا يُعرَفون في إيطاليا مثلًا بمدارس المهندسين أو البنَّائين أو الأخوية الماسونية، وكانوا يُعرَفون في غاليا باسم الإخوة الماسونيين، أو الإخوة الأحبار، أو الجمعيات الحرة، وفي بريطانيا كانوا يُلقَّبون بالماسون الأحرار إشارةً إلى الامتيازات التي أُعطِيت لهم. وكانت جميع هذه الجماعات يدًا واحدة في بث المبادئ الدينية والأدبية، وكانوا يجتمعون في الأديرة يرأسهم في محافلهم رؤساء روحيون، نعني بهم الأكليروس، ومن ذلك الحين أضيف إلى اسم رئيس المحفل كلمة «محترم»، وهو لقب أكليركي كما لا يخفى، ولا يزال الماسون إلى هذا العهد يدعون الأخ الذي يترأس على المحفل الماسوني «الأخ المحترم»، فكانت الأديرة مأوى الماسونيين في حال اضطراب البلاد على إثر ثورة أو حرب أو اضطهاد، وكان ينضم إليهم كثير من القسس والأحبار. واشتهر بينهم كثيرون عُرِفوا بعد ذلك بألقاب القداسة، ولا تزال تقدَّم لهم شعائر العبادة إلى يومنا هذا. وأما العالميون من الإخوة فكانوا يشتغلون ببناء المعابد.
وفي سنة ٦٨٠ كان الماسون الأحرار في بريطانيا بعد وفاة أوستين لا يزالون بغير رئيس، فاهتَمَّ بذلك ملك موريس وكان من أعظم نصراء الماسونية، فأقام لهم الأب ويرال مفتِّشًا عامًّا.
(٤) الماسون في عهد الخلفاء
وما زالت جمعيات الإخوة البنائين الأحرار تتسع نطاقًا في اسكوتلاندا وغاليا حتى نهاية الجيل السابع وبداية الثامن، إلى أيام الفتوحات الإسلامية سنة ٧١٨، فانحطت وضعفت شوكتها. حتى إذا جاءت أيام الخلفاء العباسيين وبُنِيت بغداد، فازدهت تلك العاصمة وصارت إليها الصناعة برمتها، ولا سيما صناعة البناء، وكأنَّ الماسونية انتقلت في ذلك القرن من أوروبا إلى آسيا على إثر التمدن الإسلامي، وأصبحت جماعات البنائين على جانب من الكثرة والصولة في سوريا والعراق وبلاد العرب، فانتظم في سلكها كثير من العلماء والفقهاء والأمراء. ويُستدَل على شيء من ذلك مما ورد في كُتُب التاريخ عن كيفية بناء مدينة بغداد؛ فقد جاء في تاريخ ابن الأثير عند تكلُّمه عن بناء بغداد ما نصه: «وكتب «المنصور» إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في معنى إنفاذ الصنَّاع والفَعَلَة، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممَّن أُحضِر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة، وأمر فخُطَّتِ المدينة وحُفِر الأساس وضُرِب اللبن وطُبِخ الآجُرُّ.» إلى أن قال: «ووكَّل عليها أربعة من القواد، كل قائد بربع، ووكَّل أبا حنيفة بعدد الآجُرِّ واللَّبِن.»
وقد تقدَّمَ فيما مَرَّ أن من عادة الإخوة البنَّائين إذا تألفوا على بناء بلدة أو سور أو ما شاكل، يجعلون منازلهم من الخشب بجوار ذلك البناء، يقيمون فيها للطعام والرقاد وللاجتماعات السرية لتبليغ الإعلامات ومحاسبة العَمَلَة وغير ذلك، وكانوا لا يسمحون لأحد من الخوارج أن يطرقهم أو يطَّلِع على أعمالهم، ولا يزالون كذلك حتى يتم البناء، فينصرفون عنه بعد أن ينال كلٌّ منهم حقوقه.
فمن مراجعة كيفية بناء مدينة بغداد يُسْتَنْتَج شيء يدل على ما نحن بصدده، وإن يكن بعبارة غير صريحة، من ذلك ما قاله ابن الأثير أيضًا ونصه: «وكانت الأسواق في المدينة (بغداد)، فجاء رسولٌ لملك الروم، فأمر الربيع فطاف به في المدينة، فقال: كيف رأيتَها؟ قال: رأيت بناء حسنًا، إلا أني رأيت أعداءك معك، وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم إلى ناحية الكوخ، وقيل إنما أخرجهم لأن العرباء يطرقونها ويبيتون فيها، وربما كان فيهم الجاسوس …» إلى أن قال: «وكان الأستاذ من البنَّائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين.»
فيستنتج من كل ما تقدَّمَ أن البنائين الذين بنوا مدينة بغداد كانوا من الإخوة البنَّائين الأحرار، الذين كانوا منتشرين إذ ذاك في أقاصي المشرق على ما تقدَّمَ.
وفي سنة ٧٧٥ انتقلت صناعة البناء إلى إسبانيا «الأندلس»، وهي إذ ذاك في حكم المسلمين، وكيفية ذلك أن عبد الرحمن الأول لما افتتح قرطبة وجعلها مقامًا له أرسل إلى الأمصار الشرقية، ولا سيما بغداد، يطلب منها البنَّائين لبناء هذه المدينة، فأقام فيها البنايات الشاهقة بين جوامع ومساجد وحصون وما شاكل على شكل البناء القسطنطيني، وأنشأ فيها مدارس للبنَّائين مع المحافظة على ما لهم من الحقوق والامتيازات. واشتهرت بعد ذلك قرطبة بالعلم والصناعة على العموم، ولا سيما صناعة البناء، وكان الطالبون يَقدمون إليها من سائر أنحاء العالم لاكتساب العلوم والصنائع.
(٥) الماسونية في فرنسا
وفي أيام شارلمان ملك فرنسا الشهير سنة ٧٨٠ انتشرت الماسونية في فرنسا انتشارًا حسنًا؛ لأنه كان منشطًا للعلم والصناعة والفضيلة، كما هو مشهور عنه، وكان البنَّاءون الأحرار يُدعَون في أيامه «ناحتي الحجارة». ورمَّموا كثيرًا من الهياكل والتماثيل التي هُدمت بسبب هجمات قبائل الدانوا.
(٦) الماسونية في بريطانيا
وفي سنة ٨٧٥ في أيام ألفريد الأكبر أشهر ملوك السكسونيين أزهرت الصناعة، ولا سيما البناية، فإنها بلغت شأوًا عظيمًا، فتآلَف البناءون على إقامة البنايات التي تقادم عهدها والتي دمَّرتها يد العدو.
وفي سنة ٩٠٠ أوصى إدوار ملك السكسونيين بعد ألفريد أن يكون الملك بعده لأخيه اثلوارد وصهره اثرد، وكانا عارفين بصناعة البناء، وهما من الإخوة البنائين الأحرار، بل من رؤسائهم.
فلم تأتِ سنة ٩٢٥ حتى إنه لم يَعُدْ هناك مدينة واحدة من المدن التي تستحق الذكر في إنكلترا لم تقم فيها مدرسة بنائية حرَّة. إلا أن الحظ لم يتم لما كان يحصل من الانقسامات المتواصلة؛ مما أوجب الخصام وإشهار السلاح وإقامة الحروب الأهليَّة.
ومما قاسته الماسونية وخسرته إلى ذلك العهد أوراقها الكثيرة التي كانت محفوظة في مكاتبها، مدوَّنة في لغات شتى من لغات العالم، فإنها فقدتها جميعها حرقًا أثناء الحروب مع الدانوا. وكان في جملة أعضاء الماسونية أولستون حفيد ألفريد الأكبر، ولما تولَّى هذا زمام الملك تعمَّق في أسرارها وارتقى في درجاتها، وقد فعل مثل ذلك بابنه إدون، فإنه رقَّاه في أسرارها حتى انتخب أخيرًا أستاذًا أعظم لها.
ولهذا الرجل «إدون» شأن عظيم في تاريخ الماسونية؛ لأنه جمع إليه في يورك جميع الأوراق التي كانت باقية إلى ذلك العهد مما يتعلق بالماسونية، وجمع إليه رؤساء المحافل من أنحاء العالم بالنيابة عن محافلهم، لكي يستخلصوا مما لديهم من الأوراق والمعلومات قانونًا للماسونية يجمع شتاتها ويوحِّد كلمتها.
لائحة يورك
- (١) أول واجباتك أن تُخلِص في احترام الله واتِّبَاع شرائع نوح٥ لأنها الشرائع الإلهية التي يجب أن يتبعها كل البشر، وبناءً عليه يجب أن تجتنب التعاليم الفاسدة، فلا تكون لك معثرة في طريق الله.
- (٢)
كُنْ مخلصًا لسلطانك وأذعن لأوامر حكَّامك حيثما وُجِدت. لا تَأْتِ خيانة وإذا علمت بمَن نواها أعلن القضاء به.
- (٣)
كُنْ نافعًا لكل الذين هم حولك، واشدُدْ معهم عرى المحبة والإخلاص والأمانة، بقطع النظر عن معتقداتهم الدينية.
- (٤)
كُنْ مخلصًا على الخصوص لأخيك الماسوني وعلِّمه وساعده في صناعته، ولا تَسْعَ إلى ضره، بل عامله بما تريد أنت أن يعاملك الآخرون. وإذا رأيت من أخيك عوجًا انصحه، وإذا نصحك أصغ إليه واستفد من مشوراته.
- (٥)
واظب على حضور اجتماعات المحافل، وساعد في البحث في أشغال إخوانك. واكتم الأسرار عمَّن هم ليسوا من الإخوان الماسونيين.
- (٦)
الأمانة واجبة على كل أخ؛ إذ بدونها وبدون الاستقامة لا تقوم الإخوة، ولأن الصيت الحسن خير العقار الخصب؛ فيجب عليك أن تلاحظ مصالح أستاذك الذي تخدمه بكل ثبات، وأن تنجز ما يعهد إليك من الشغل بكل ذمة وشرف.
- (٧)
أَوْفِ ما عليك وبالإجمال لا تَأْتِ أمرًا يحطُّ من قَدْر العشيرة الماسونية.
- (٨)
يلزم ألَّا يعهد شغل لأستاذ ما لم يكن كُفْئًا لإتمامه، وإلا فإن العار عائد على عموم العشيرة. وعلى الأساتذة أن يطلبوا أجورًا معتدلة، وتكون كافية للقيام باحتياجاتهم وبما يدفعونه للرفقاء.
- (٩)
لا يجوز لأحد أن يسعى إلى اختلاس الشغل من يد آخَر، بل يجب أن يتركه في شغله، إلا إذا لم يكن كُفْئًا للقيام به حَقَّ القيامِ.
- (١٠)
لا يجوز لأستاذ من الأساتذة أن يقبل طالبًا أجنبيًّا إلا لمدة سبع سنوات، وألَّا يُدخِله في أسرار الماسونية إلا بعد صرف هذه المدة، وبعد مشورة ومصادقة سائر الإخوان.
- (١١)
لا يجوز للأستاذ أو الرفيق أن يَقْبَل عوضًا في قبول أحدٍ في الماسونية، إذا لم يكن الطالب حر الولادة وحسن السيرة، ذا أعضاء سليمة وأهلية حسنة.
- (١٢)
لا يجوز للماسوني أن يعنِّف أخاه في شغله، إلا إذا كان أرفع منه في مراتب الماسونية.
- (١٣)
إذا عنَّف المهندس (رئيس المحفل) أحد الأساتذة، أو عنَّف الأستاذ أحد الرفقاء، فعلى المعنَّف أن يصغي لما يقال له ويصلح خطأه، ويسير على ما رُسِم له.
- (١٤)
على الماسون عمومًا أن يذعنوا لرؤسائهم وينفذوا كل ما يأمرونهم به بكل نشاط وغيرة.
- (١٥)
وعلى الماسون أن يترحبوا بالرفاق الذين يأتون إليهم من بلاد بعيدة، بعد أن يعطوهم الإشارة الماسونية، وأن يهتموا بمصالحهم، وأن يساعدوا جميع الإخوان عندما يعلمون باحتياجهم إلى المساعدة إذا كانوا على مسافة ربع ساعة.
- (١٦)
لا ينبغي لأحد الإخوة الماسون أن يسمح بدخول أحد إلى المحفل، إذا لم يتأكد كونه ماسونيًّا؛ لكي لا يطلع على صناعة النحت والمربعات والفادن.
هذا وللإخوة البنَّائين الحق في إضافة ما يجدونه مناسبًا من القوانين بإقرار رؤساء المحافل، لكي يكون جميع الإخوان مشتركين بها على السواء.
انتشار الماسونية من إنكلترا إلى العالم
ومن إنكلترا أخذت تنتشر الأخويات الماسونية إلى أنحاء أوروبا والشرق، ففي سنة ٩٣٠ أرسل هنري الأول ملك جرامانيا يطلب من إنكلترا جماعات من الماسون لكي يبنوا له البنايات العظيمة، منها كنيسة مكدمبرج وغيرها.
وفي سنة ٩٣٦ أخذ البنَّاءون في إسبانيا في بناء القصر الملوكي المشهور بأمر الأمير عبد الرحمن، وهي سراي قائمة على أربعة آلاف وثلاثمائة عمود من الرخام النقي الثمين، وكيفية ذلك أن هذا الأمير استجلب من بغداد والقسطنطينية جماعات من مهرة البنَّائين؛ لكي يتعاونوا مع بنَّائي بلاده في بناء ذلك الأثر الشاهق.
وبعد وفاة الملك أدلستون سنة ٩٦٠ كثر انتشار البنَّائين وتفرقهم من إنكلترا، ومضت مدة حكم ادكار ولم ينتج منها عملٌ يُذكَر، وكانت إذ ذاك تحت رئاسة «دنستان» بطريرك كنتر بري الذي أصبح بعدئذٍ القديس دنستان.
فسار جماعة كثيرة من الماسون إلى ألمانيا، واستقرت هناك تحت اسم أخوية القديس يوحنا.