معرفة النفس
«اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحكماء والفلاسفة قد أكثرت في كتبها وفي مذكراتها ذكر النفوس، وحثت تلاميذها وأولادها على طلب علم النفس ومعرفة جوهرها؛ لأن في علم النفس ومعرفة جوهرها، معرفة حقائق الأشياء الروحانية من أمر المبدأ والمعاد، والباري تعالى عز وجل، وملائكته، وخاصةً معرفة البعث وحقيقة القيامة … وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يعلم ذاته، ولا يعلم ما الفرق بين النفس والجسد، تكون همته كلها مصروفة إلى إصلاح أمر الجسد، ومرافق أمر البدن، من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا، وتمني الخلود فيها، مع نسيان أمر المعاد وحقيقة الآخرة. وإذا عرف الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها، صارت همته في أكثر الأحوال في أمر النفس، وفِكرتُه أكثرها في إصلاح شأنها، وكيفية حالها بعد الموت، واليقين بأمر المعاد، والاستعداد للرحلة من الدنيا، والتزود للمعاد، والمسارعة في الخيرات، والتوبة وتجنب الشر والمنكر والمعاصي.
وقد يعلم كل عاقل إذا تأمل وتفكَّر في أمر الجسد، أنه جسم مؤلف من اللحم والدم والعروق والعصب والعظام وما شاكلها، وأصله نطفة ودم انطمس، ثم [يأتي بعد ذلك] اللبن والغذاء والمأكولات والمشروبات [لهذا الجسد من أجل تنشئته]، ثم آخر الأمر الموت، وبعد مفارقة النفس إياه يبلى ويصير ترابًا.
فأما النفس، يعني الروح، فهي جوهرة سماوية، نورانية، حية، علَّامة، فعَّالة بالطبع، حسَّاسة درَّاكة، لا تموت ولا تفنى، بل تبقى مؤبدة إما ملتذة وإما مؤتلمة. فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين، يُعرج بها بعد الموت إلى ملكوت السماوات وفسحة الأفلاك، وتُخلَّى هناك، فهي تسبح في فضاء من الروح وفسحة من النور وروحٍ وراحةٍ إلى يوم القيامة … وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار، فتبقى في عماها وجهالاتها، معذبة متألمة، مغتمة حزينة، خائفة وجلة إلى يوم القيامة» (٣٨: ٣، ٢٨٨–٢٩٠).
«واعلم يا أخي أن العلوم كلها شريفة، ونيلها عزٌّ لصاحبها، وعرفانها نور لقلوب أهلها، وهداية وحياة لنفوسهم … ولكن قيل: بعض العلوم أشرف وأفضل وأكرم. فأشرف العلوم وأجل المعارف التي ينالها العقلاء المكلفون معرفة الله جل ثناؤه، والعلم بصفات وحدانيته وأوصافه اللائقة به. ثم بعد هذا معرفة جوهر النفس، وكيفية تصاريف أحوالها في جميع الأزمان الماضية والآتية والحاضرة، ثم كيفية تعلقها بالأجسام، وتدبيرها للأجساد، واستعمالها الأبدان مدة، ثم كيفية تركها لها ومفارقتها إياها، وتفردها بذاتها ولحوقها بعالمها وعنصرها وجوهرها الكلي. ثم معرفة البعث والقيامة والحشر …
واعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا أردت النظر في هذا العلم الشريف، والبحث عن هذا السر اللطيف، تحتاج إلى أن تقصد إلى أهله وتسألهم عنه، كما يُقصد في سائر العلوم والصنائع إلى أهلها، كما قيل: استعينوا على كل صناعة بأهلها.
واعلم أن أهل هذه الصناعة، وعلماء هذه الأسرار هم إخواننا الكرام الفضلاء [= إخوان الصفاء]. فانظر يا أخي فيما قالوا، وتأمل ما وصفوه من حقائق الأشياء التي أنت مُقرٌّ بها بلسانك، وتؤمن بقلبك، ثم تفكر فيما تسمع، وتأمل ما يوصف لك، وميزه ببصيرتك، واعرضه على عقلك الذي هو حجة الله عليك، والقاضي بينك وبين أبناء جنسك، فإن اتضحت لك حقيقة ما تسمع، وتصوَّرت ما يصفون، وتيقنت ما يخبرون، فبتوفيق من الله وهداية منه … وإن لم يتفق لك يا أخي لقاء أحد من أهل هذه الصناعة، بحيث أن تسأله عن حقيقة هذا السر … فاسلك في هذا البحث والنظر طريقة الحكماء النجباء، واستعمل القياس البرهاني الذي هو ميزان العقول، كما وُصف في المنطق. وقد بيَّنا من علم المنطق، في رسائل شبه المدخل والمقدمات ما فيه كفاية» (٣٨: ٣، ٣٠١–٣٠٣).
وبما أن معرفة النفس التي تقود إلى معرفة الله هي الغرض الأقصى من العلوم، فإليها ندب إخوان الصفاء رسائلهم كلها، وهي غاية كل تعليم فلسفي:
وأما أولئك الحكماء الذين كانوا يتكلمون في علم النفس قبل نزول القرآن والإنجيل والتوراة، فإنهم لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم، واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم، دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية. ولكنهم لما طوَّلوا الخُطب فيها، ونَقَلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهِم معانيها ولا عرف أغراض مؤلفيها، انغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها، وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها، ونحن قد أخذنا لبَّ معانيها وأقصى أغراض واضعيها، وأوردناها بأوجز ما يمكن من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة» (٣٨: ١، ٧٥–٧٧).
واعلم أن النفس بمجردها لا تلحقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحر والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحِدْثان؛ لأن هذه كلها تعرض لها من أجل [= بسبب] مقارنتها للجسد؛ لأن الجسد جسم قابل للآفات والفساد والاستحالة والتغيُّر، فأما النفس فإنها جوهرة روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفة أنفسهم، لتركهم النظر في علم النفس، والبحث عن معرفة جواهرها، والسؤال من العلماء العارفين بعلمها؛ ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلب خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسر الطبيعة …
وإنما قلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء، عليهم السلام، وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء … فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل [= المتغير من حال إلى حال]، وجعلوا سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا … وصيروا نفوسهم عبيدًا لأجسادهم، وأجسادهم مالكة لنفوسهم …
فهل لك يا أخي بأن تنظر إلى نفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلب نجاتها … وأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، وإخوان لك فضلاء [= إخوان الصفاء]، وادِّين لك كرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفسهم … بأن تسلك مسلكهم، وتقصد قصدهم، وتُخْلِص سرك معهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم، لتعرف اعتقادهم … إذا دخلتَ مدينتنا الروحية، وسرت بسيرتنا الملكية، وعملت بسنتنا الزكية، وتفقهت في شريعتنا العقلية، فلعلك تؤيَّد بروح الحياة، لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء، مخلَّدًا مسرورًا أبدًا، بنفسك الباقية الشريفة الشفافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغير المستحيل الفاسد الفاني» (١٥: ٢، ٢١–٢٣).
«واعلم يا أخي أنما ذهب على الذين ينكرون فعل الطبيعة، علمُ النفس، وخفي عليهم معرفتها، من أجل أنهم طلبوا إدراكها بالحواس، فلم يجدوها، فأنكروا وجودها. وأما الذين أقروا بالنفس وأدركوا وجودها، فإنما عرفوا ذلك بالأفعال الصادرة عنها في الأجسام؛ وذلك أنهم اعتبروا أحوال الجسم، فوجوده لمجرده لا فعل له البتَّة، ولا للأعراض الحالة فيه، وإنما الأفعال كلها للنفس؛ وأما الجسم وأعراضه فإنها للنفس بمنزلة أدوات وآلات لصانعٍ يُظهر بها ومنها أفعاله، كما يُرى ذلك من الصُّنَّاع البشريين، فإنهم بأدوات جسمانية يُظهرون صناعاتهم في الأشياء، مثال ذلك النجَّار، فإنه يُظهر أفعاله في الخشب، الذي هو جسم طبيعي، بآلات وأدوات جسمانية، كالفأس والمنشار وما شاكلها، وكلها أجسام صناعية. وأجسام الصُّناع هي أيضًا من الأجسام الطبيعية، وهي آلات لنفوسهم وأدوات لها، يُظهرون بها [= الأجسام] صناعتهم وأفعالهم … إذ قد بان أنَّه لا فعل إلا للنفس، وأنها تفعل أفعالها بقوتها في الأجسام، وأن الأجسام كلها أدوات ومفعولات لها، كما أن الفكر والعلم آلات للنفس في إدراك المعلومات والمعقولات، وإخراجها من القوة إلى الفعل» (١٨: ٢، ٦٣-٦٤).
«ثم اعلم أن لكل شيء من الموجودات قسطًا من السعادة قلَّتْ أم كثُرتْ، وهي أن يبقى ذلك الشيء موجودًا أطول ما يمكن على أحسن حالاته وأتم نهاياته. ولكن أسعد السعادات وأتم النهايات وأرفع المقامات، ما يناله أولياء الله الذين هم صفوته وأهل مودته، وهو ثلاث خصال: أولاها معرفتهم بربهم، والثانية قصدهم نحوه بهممهم، والثالثة طِلابهم مرضاته بسعيهم وأعمالهم. فأما معرفتهم بربهم، فهو أن يعلم أن كل نفس جزئية هي قوة منبجسة فائضة من النفس الكلية؛ ويعلم أن النفس الكلية هي أيضًا قوة منبجسة فائضة من العقل الكلي؛ ويعلم أن العقل الكلي هو أيضًا نور فائض من وجود الباري تعالى؛ ويعلم أن الله تعالى هو نور الأنوار ومحض الوجود ومعدن الجود ومعطي الفضائل والخيرات والسعادات، وهو باقٍ أبدًا سرمدًا، وأن النفس الجزئية هي أيضًا أنوار وضياء وإشراقات فائضة من النفس الكلية منبثة منها في العالم … فهذا أصل علم أولياء الله تعالى ومعرفتهم بربهم. وأما قصدهم نحوه بهمم نفوسهم، فإنه فكرتهم [= تفكرهم] آناء الليل وأطراف النهار في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وأصناف خلائقه، واعتبارهم تصاريف أحوالها، وكيفية الوصول إليها وإلى صانعها وبارئها …» (٣٩: ٣، ٣٤٢).
«واعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أنه لا يمكن الوصول إلى هناك إلا بخلَّتين: إحداهما صفاء النفس، والأخرى استقامة الطريقة. فأما صفاء النفس فلأنها لُبُّ جوهر الإنسان، فإن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والبدن؛ فأما البدن فهو هذا الجسد المرئي المؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد، وما شاكله، وهذه كلها أجسام أرضية مظلمة ثقيلة متغيرة فاسدة؛ وأما النفس فإنها جوهرة سماوية روحانية حية نورانية خفيفة متحركة غير فاسدة، علَّامة درَّاكة لصور الأشياء؛ وإن مثلها في إدراكها صور الموجودات، من المحسوسات والمعقولات، كمثل المرآة، فإن المرآة إذا كانت مستوية الشكل مجلوة الوجه، تتراءى فيها صور الأشياء الجسمانية على حقيقتها … وأيضًا إن كانت المرآة صدئة الوجه، فإنه لا يتراءى فيها شيء البتة.
ويورد الإخوان في الرد على من ينكر وجود النفس هذا الخطاب المنطقي:
«أخبرنا أيها الأخ: هل أنت عالم ومتيقن بأن مع هذا الجسد الطويل العريض العميق، أعني الجسد المركب من اللحم والعظم والعصب والعروق، المؤلف من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمِرَّتان [= المِرة الصفراء والمِرة السوداء]، التي كلها أجسام أرضية مظلمة غليظة منتنة، متغيرة فاسدة، جوهرًا آخر هو أشرف منه وهو النفس التي هي جوهرة روحانية، بسيطة حية، سماوية شفافة، وهي المحركة لهذا الجسم، المدبرة له، المظهرة به ومنه أفعالها وأقوالها وعلومها؟ أو تقول إنه ليس ها هنا شيء آخر غير هذا الجسد المرئي المحسوس، المتغير الفاسد، المستحيل الهالك، الذي إذا أصابه حَرٌّ ذاب، أو إن أصابه برد جمد، وإن نام بطلت حواسه، وإن انتبه لا يشعر بوجوده، وإن نُقل لا يدري أين كان، وإن تُرك لا يتحرك، وإن حُرِّك لا يحس بذاته، جاهل لا يعلم شيئًا، وإن لم يُسْقَ جفَّ عطشًا، وإن لم يُطعم ذبل، وإن طُعم امتلأ من الدم والصديد والبول والغائط، كأنه ربعٌ مجصصٌ ظاهره؛ مملوء من القاذورات باطنه، إن مات نتن، وإن لم يدفن افتُضح، وإن عاش فهو في العذاب والشقاء؟
أترى أن الفاعل لهذه الأفعال المحكمة، والصنائع المتفنِّنة التي تظهر على أيدي البشر هو هذا الجسد وحده؟ والناطق بهذه اللغات المتباينة والمتكلم بهذه الأقاويل المختلفة، والمخبر عن الأمور المنقضية مع الأزمان الماضية … والمستنبط غرائب العلوم من خواص جواهر العدد وأشكال الهندسة، وتأليف اللحون، وتشريح الأجساد، وتركيب الأفلاك، وحساب حركات الكواكب … هل هو هذا الجسد وحده؟ أو تُنسب هذه العلوم والأقاويل والفضائل إلى مزاج الجسد … والمزاج عرَض من الأعراض، وهو أحد الأشياء التي ذكرناها؟ فقد بَعُد مِن الصواب مَن قال هذا القول، وعمي عن معرفة حقائق الأشياء من اعتقد هذا الرأي؛ وأولُ غفلةٍ دخلت عليه جهالته بجوهر نفسه وتركه طلب معرفة ذاته …
… وإن كنتَ مُقرًّا، أيها الأخ البار الرحيم، بأن مع هذا الجسد جوهرًا آخر هو أشرف منه، وأنَّ هذه الأفعال والأقاويل والعلوم والفضائل إليه تُنسب، ومنه تبدو، وهو المُظهر من هذا الجسد هذه الأشياء، فقد قلتَ صوابًا، وأقررت بالحق وأنصفت في الجواب. فخبِّرنا عن هذا الجوهر الشريف، هل يمكن أن يُعرف ما هو؟ وكيف كونه مع الجسد؟ باختيار منه، أو مضطر أن يكون معه؟ أو هل تعرف أين كان قبل أن يُقرن بهذا الجسد، وأين يذهب إذا فارقه؟ أو تقول إني لا أدري؟ وهل ترضى من نفسك الجهل بهذا المقدار من العلم أن تقول: إن هذا العلم ليس في طاقة الإنسان أن يعلمه، وكيف يسوَّغ لك هذا القول، والعلماء مقِرُّون أجمع، وأنت منهم، بأن معرفة الله واجبة على كل عاقل؟ وكيف يستوي للعبد إذًا معرفة ربه وهو لا يعرف نفسه؟ … وأنت تعلم أيها الأخ أن نفس الإنسان أقرب إليه من كل قريب، فكيف يستوي لك أن تقول: لا يمكن أن يعلم الإنسان نفسه ويعلم غيرها من الأشياء البعيدة الغائبة عن حواسه وعقله؟» (٤٨: ٤، ١٩١–١٩٣).
وفي تعريفهم للحياة والموت يرى الإخوان أن الحياة هي استعمال النفس للجسد بعد ارتباطها به، وأنه لا حياة للجسد بمفرده؛ لأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، فإذا فارقته بلي وعاد إلى التراب، بينما تستأنف النفس حياتها إما في مستوى أعلى من الوجود أو في مستوى أدنى تبعًا لأعمالها. فالموت هو فناء للجسد وولادة للروح:
«فاعلم أنه إذا فكر العاقل العالم في تركيب هذا الجسد وما هو عليه من إتقان البنية وإحكام الصنعة … وكيفية ابتدائه من النطفة، وتتميمه في الرحم، ونشوئه في أيام الصبا، وتكميله في أيام الشباب، وتنضيجه في أيام الكهولة، فيرى أنه في غاية الكمال والحكمة والإتقان. ثم إذا تفكَّر في أيام الشيخوخة وفي ذهاب قوته وتغييرات رونقه وإدباره، ثم هدمه بالموت، وتغيره بعد ذلك بالانتفاخ والنتن، وفساده، ثم كيف يبلى في التراب ويضمحل، ولا يعرف ما وجه الحكمة فيه، فيتحير ويتشكك ويضل عن الصواب. فمن أجل هذا احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة الموت والحياة، ونبين ما الحكمة في خلقهما وكونهما.
واعلم أنه إذا فكر العاقل اللبيب في خلقة الرحم وحال المشيمة، وكون الجنين من النطفة، وكيفية ذلك المكان [أي الرحم]، وما قد أُعدَّ هناك من المرافق والمرافل لتتميم الخلقة وتكميل الصورة، فيراها في غاية الحكمة وإتقان الصنعة من الصواب، وما يتعجب منه أولو الألباب. ثم إذا فكر في حال الولادة، وكيف ينقلب [الجنين] في الرحم، وتنخرق المشيمة وتنقطع تلك الأوتار، وتسترخي تلك الرباطات التي كانت تمسك الجنين هناك، وكيف يسيل الدم والرطوبات المُعدَّة التي كانت هناك لمرافِقه، وما تلقاه الوالدة من الجهد والشدة، فإنه يرى شيئًا يدهش العقل ويحير أولي الأبصار والألباب.
ولكن لما كان من حالِ ما يُنقل إليه الجنين من فسحة هذا العالم وطيب نسيمه وإشراق أنواره، وما يستأنف الطفل من العمل في مستقبل العمر من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا، وإذا قدَّر الله ونجَّاه من ذلك المكان الضيق المظلم الناقص الحال [= الرحم]، بالإضافة إلى أحوال هذه الدار من التصرف والتقلب، فيرى أن الحكمة والصواب كان في الخروج من هناك.
فهكذا ينبغي لك يا أخي أن تعتبر لتعلم أن حال النفس مع الجسد كحال الجنين في الرحم، وأن حالها بعد الموت كحال الطفل بعد الولادة؛ لأن موت الجسد ولادة النفس، وكذلك ولادة الطفل ليست شيئًا سوى خروجه من الرحم، وكذلك ولادة النفس ليست هي شيئًا سوى مفارقة النفس إياه [أي للجسد الذي خرج من الرحم].
[أما في ماهية الحياة] فنقول: اعلم أن الموت والحياة نوعان: جسداني ونفساني. والحياة الجسدانية ليست شيئًا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسداني ليس شيئًا سوى تركها استعماله، مثلما أن اليقظة ليست سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئًا سوى تركه استعمالها.
فأما النفس فحياتها ذاتية لها، وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل، علَّامة بالقوة، فعَّالة في الأجسام والأشكال والنقوش والصور طبعًا، وأن موتها هو جهالتها بجوهرها، وغفلتها عن معرفة ذاتها؛ وأن ذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولى، ولِبُعد ذهابها في هاوية الأجسام …
اعلم أن الجسد ميت بجوهره، وأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، كما أن الهواء مظلم بجوهره، وإنما ضياؤه بإشراق نور الشمس عليه والقمر والكواكب. والدليل على أن الجسد ميت بجوهره ما يُرى من حاله بعد مفارقة النفس إياه له، كيف يتغير ويفسد ويتلاشى ويرجع إلى التراب» (٢٩: ٣، ٣٨–٤٠).
وأثناء فترة ارتباط النفس بالجسد، ما بين مسقط النطفة في الرحم وفجوة القبر، يكون الجسد عالة على النفس وعبئًا، لا تستريح منه إلا بمفارقته:
«فمن عيوب هذا الجسد كون النفس كمحبوس في كنيف [= المرحاض]؛ لأن الكنيف بالحقيقة هو هذا الجسد، فهو ينبوع لكل قاذورات من وسخ وبول وغائط ومخاط وبصاق ودم وصديد ولعاب وعرق نتن وبخر وصنان. وإن كل ما يكون في الكنيف من القاذورات فمنه [أي من الجسد] يخرج وفيه يتكون؛ فأوله نطفة قذرة وآخره جيفة منتنة، وما بين الحالتين مملوء عذرةً، والنفس على دوام الأوقات [مشغولة] في تنظيفه وغسله وتنقيته ومداواته وستر عوراته، وحفظه من آفات الحر والبرد والجوع والعطش والصدمة والضربة، والآفات العارضة التي لا يُحصى عددها.
ومن وجه آخر فنقول: الجسد كأنه كافر محجوب عن الله تعالى، لا يعرفه ولا يدري من خلقه ورزقه. ومن وجه آخر، كأنه صاحب بدعة يدعو على هواه، ويريد أن تكون الأمور بمراده. ومن وجه آخر، كأنه جاهل عجول لا ينظر في العواقب. وأيضًا كأنه عدو للنفس يُظهر الصداقة ويكتم العداوة. وأيضًا كأنه شيطان من كثرة الوساوس. وأيضًا كأنه إبليس يدعو إلى العداوة. وأيضًا كأنه ميت على جنازة حملتها النفس على كتفها لا تستريح منه، يا ويلتها، حتى إذا دفنته في التراب. وأيضًا كأنه غيم بين أبصار الناظرين ونور الشمس؛ لأن ظلمات أخلاط الجسد تمنع عن النظر إلى نور العقل، وهو يمطر الآمال ويُنسي الآجال» (٢٩: ٣، ٤٩-٥٠). وأيضًا:
«مثل هذه النفس الجزئية، مع شرف جوهرها، وما هي عليه من غربتها في هذا العالم الجسماني، وما قد ابتليت به من آفات هذا الجسد وفساد هيولاه، كمثل رجل حكيم في بلد الغربة قد ابتلي بعشق امرأة رعناء، فاجرة جاهلة، سيئة الأخلاق، رديئة الطبع، وهي في دائم الأوقات تطالبه بالمأكولات الطيبة، والمشروبات اللذيذة، والملبوسات الفاخرة، والمسكن المزخرف والشهوات المردية؛ وإن ذلك الحكيم، من شدة محبتها لها وعظم بلائه بصحبتها، قد صرف كل هِمته إلى إصلاح أمرها، وأكثر عنايته بتدبير شأنها، حتى نسي أمر نفسه وإصلاح شأنه، وبلدته التي خرج منها، وأقرباءه الذين نشأ معهم أولًا، ونعمته التي كان فيها بديًّا» (٤٨: ٤، ١٨٣).
على أن مثالب الجسد هذه، لا تعني عند إخوان الصفاء رفضه بشكل كلي، وإنما رفض العبودية له والانصياع لكل رغباته. فالإنسان مثنوي في تكوينه مؤلف من جسد ونفس، وكما سنرى فيما بعد فإن هذا الجسد هو الصراط المستقيم الذي تجوز عليه النفس مرتقية نحو الدرجات العليا:
ولما تبيَّن أن أكثر أمور الإنسان، وتَصرُّف أحواله مثنوية متضادة، من أجل أنه جملة مجموعة من جوهرين متباينين، جسد جسماني ونفس روحانية، صارت قِنيته أيضًا نوعين: جسمانية كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية كالعلم والدين. وذلك أن العلم قِنية للنفس كما أن المال قنية للجسد، وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة وبالدين يصل إليها، وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب ينمى الجسد ويزيد ويربو ويسمن. فلما كان هكذا، صارت المجالس أيضًا اثنين: مجلس للأكل والشرب، واللهو واللعب، واللذات الجسمانية من لحوم الحيوان ونبات الأرض، لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعلم والحكمة وسماعٍ روحاني، من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة … فلما كانت المجالس اثنين صار أيضًا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرَض الدنيا لصلاح هذا الجسد ولجرِّ المنفعة إليه، أو لدفع المضرة عنه، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها» (٦: ١، ٢٦٠-٢٦١).
والجسد والنفس مرتبطان إلى درجة أن آلام الجسد ولذَّاته تلحق النفس، ولكن آلام النفس ولذَّاتها لا تلحق الجسد:
«اعلم أن جميع اللذات التي تجدها النفس الإنسانية نوعان: منها ما تجدها بمجردها، ومنها ما تجدها بتوسط الجسد. و[ما تجده بتوسط الجسد] هي سبعة أنواع: أحدها المدركات باللمس بطريق النظر من محاسن الألوان والأشكال والنقوش والتصاوير والأصباغ الطبيعية منها والصناعية جميعًا؛ والثاني المدركات بطريق السمع من الأصوات والألحان والنغم والمدح والثناء وما شاكلها، والثالث المدركات بطريق الذوق من الطعوم الموافقة لشهواتها، والرابع الملموسات المقوية لأخلاط جسدها، والخامس المشمومات الملائمة لمزاج أخلاطه، والسادس لذَّة الجماع؛ والسابع لذة الانتقام. وهذه كلها لذات تجدها النفس بتوسط الجسد مرتين: إحداهما عند مباشرة الحواس لها، والأخرى عند ذكرها [= تذكرها] بعدها. مثال ذلك: إذا رأى المرء وجهًا حسنًا، أو زينة من محاسن الدنيا، فإن النفس تجد عند رؤيتها سرورًا لها ولذة، ثم إذا غابت عن رؤية العين بقيت تلك المحاسن مصورة في فكر النفس، وكلما لمحت هي ذاتها ونظرت إلى جوهرها رأت تلك الرسوم المصوَّرة في فكرها، فسُرَّت بها والتذَّت، وتذكرت تلك المحسوسات، وهكذا سائر المحسوسات … وليس التفكر والتذكر شيئًا سوى لمحات النفس ذاتها ونظرها إلى جوهرها، ورؤيتها رسوم تلك المحسوسات مطبوعة في ذاتها كما ينطبع نقش الفص في الشمع المختوم. فهذه الملاذ والآلام وإن كانت لا تصل إلى النفس إلا بتوسط الجسد، فقد نجدها بعد غيبة المحسوسات عن مباشرة الحواس لها، فيدل هذا على أن النفس لها لذة تجدها بعد مفارقة الجسد أيضًا كما تجد لذة المحسوسات بعد مفارقتها وغيبتها.
أما اللذات الروحانية التي تجدها النفس بمجردها فهي … ما تجده من اللذة والسرور والفرح عند تصورها حقائق الموجودات من المحسوسات والمأكولات جميعًا؛ والثانية ما تجده عند اعتقادها الآراء الصحيحة ومذاهبها الحميدة؛ والثالثة ما تجده عند عذوبة أخلاقها الكريمة وعاداتها الجميلة، والرابعة ما تجده من الفرح والسرور واللذة عند ذكر أعمالها الزكية وأفعالها الخيرة. وهذه اللذات مشتركة بين الإنسان وبين الملائكة، وأضدادها من الآلام، مشتركة بين الإنسان والشياطين.
وهكذا، إذا كانت أخلاق الإنسان جميلة وسجاياه سهلة، ومعاملته طيبة، ومخالطته عذبة، فإن نفسه تكون أبدًا في القلوب محبوبة ومن الغوائل آمنة. وإن كانت أخلاقه شَريَّة، وطباعه وحشية، وهمته سبعية، يكون من يصحبه أبدًا في عناء، وهو من نفسه في جهل وبلاء. فهكذا حكم الاعتقادات والآراء، وذلك أن بعضها مؤلم لنفوس معتقديها ومحيِّر ومشكك … مثل من يعتقد أن ربه قتلته اليهود، ومثل من يعتقد أن إمامه مختفٍ من خوف مخالفيه، ومثل من يعتقد أن رب العالمين خلق خلقًا وناصبهم العداوة وهو إبليس وجنوده، ومثل من يعتقد أن رب العالمين حقودٌ حنقٌ يغتاظ على الكفار والعصاة من خلقه، ومثل من يرى ويعتقد أن أمر العالَم غير منتظم، وأن مدبره وصانعه قد أهمل أمر عالمه حتى يجري فيه أشياء على غير مراده ومشيئته، ومثل من يرى ويعتقد أن رب العالمين الغفور الرحيم يأمر الملائكة بأن يأخذوا الكفار والعصاة ويرموا بهم في خندق من النار، وكلما احترقت جلودهم وصاروا فحمًا ورمادًا أعاد فيها الرطوبة والحياة ليذوقوا العذاب، ومثل من يعتقد أنه يباشر في الجنة مع الأبكار ويلتذ منها ويزيل البكارة، ثم تعود البكارة، ومثل من يعتقد أنه يتمنى في الجنة الطيور المشوية فيتحصل بعد تمنيه في الحال، ثم يأكل منها حتى الشبع، ثم بعد ذلك تطير الطيور كما تطير في حال الحياة، ومثل من يعتقد أن الإنسان إذا مات بطلت نفسه ووجودها، ومثل من لا يرجو الجنة إلا بعد خراب السماوات وطيها كطي السجل للكتب، ومثل من يعتقد أن أعمال الإنسان تُجعل في كفتين من كفتي الميزان، ومثل من يعتقد ويرى أن في الجحيم تنانين وثعابين وأفاعي يأكلون الفُسَّاق، ويصيرون أحياء بعد ذلك، وما شاكل هذه من الاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها. مع أن جميع ما نطق به الأنبياء عليهم السلام، من صفة الجنة ونعيم أهلها وعذاب النار والعقاب وأحوال القيامة كلها حق وصدق ولكن ليس كما يرى هؤلاء، بل أمرٌ وراء ذلك لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
وأما من يرى ويعتقد ويعلم أن للعالم بارئًا حكيمًا، قادرًا حليمًا، جوادًا كريمًا، غفورًا رحيمًا، وأنه قد أحكم أمر عالمه على أحسن نظام، ولم يترك فيه خللًا، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا يرى في خلق الرحمن من تفاوت، فإن نفسه ساكنة هادئة مستريحة من الألم والآراء الفاسدة وأوجاع الاعتقادات الزائفة، ومن وحشة ظلمات الجهالات المتراكمة، وهو في راحة من نفسه والخلق في راحة منه؛ ومن جهة في أمان لا يريد بأحد سوءًا، ولا يرى له فضلًا عليهم، ولا يطالبهم بحق، ولا يشكوهم من جفاء، ولا يصيبهم منه أذًى. فهذه صفة إخواننا الكرام.
فهل لك يا أخي أن ترغب في صحبتهم، وتتبع منهاجهم، وتسير سيرتهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتنظر في علومهم وسياستهم، لتعرف أسرارهم واعتقاداتهم، أو تحضر مجلسهم لتسمع كلامهم وأقاويلهم، أو تقرأ رسائلنا هذه لعلك توفق لفهم معاني ما تضمنته، وتنتبه لنفسك من نوم الغفلة، وتستيقظ من رقدة الجهالة، وتنفتح لك عين البصيرة، فتحيا حياة العلماء، وتعيش عيش السعداء، وتصعد إلى ملكوت السماء» (٣٠: ٣، ٦٨–٧٣).
في الفصل الأول من هذا الكتاب، وفي القسم الخاص بتكوُّن الحيوان أوردنا هذا المقطع لإخوان الصفاء:
وهم يطورون هذه الفكرة في أكثر من موضع:
واعلم أيها الأخ أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وأبصرت ذاتها، وعرفت جوهرها، وأحست بغربتها في عالم الأجسام، ومحنتها وغرقها في بحر الهيولى … وتنسمت بروح عالمها وريحانها، اشتاقت إلى هناك، ومالت إلى الكون في ذلك العالم، ومقتت الكون مع الأجساد، وزهدت في نعيم الدنيا، وتمنت الموت الذي هو مفارقة الجسد والخروج من ظلمة الأجسام، فيكون مَثَلها في ذلك كمثَل قوم خرجوا من الحبس والمطامير مع ضوء الصبح، فشاهدوا هذا العالم بما فيه دفعة واحدة» (٤٨: ٤، ١٨٤-١٨٥).
«الأرض بما عليها من المدن والقرى والجزائر التي في البحار، وما فيها من المساكن، كلها حبوس ومطامير وسجون ومضائق للنفوس الجزئية، وكذلك جميع أشخاصها من النبات والحيوان ذوات النفوس، كلها قيود وأغلال وكبول للنفوس المتعلقة بما يجذبها إلى أسر الطبيعة، وكلها برازخ، ولكنها متفاوتة الصفات ومتغايرة الدرجات، ومتباينة الصور من الضيق والاتساع والاتضاع والارتفاع والآلام واللذات؛ ومنها ما هو في العذاب المهين والذل المقيم، مثل البهائم المستعملة والحيوانات المذبوحة في الهياكل والبيع، والنبات الذي هو في غاية الذل والهوان؛ وأكملها صورة وأتمها بنية وأعلاها منزلة الصورة الإنسانية، فهي صراط مستقيم وكتاب مبين وطريق قويم، وهي المطية التي من سار عليها قاصدًا، وكان في سيره على الحق معتمدًا، فلا شك أنه يصل بها إلى دار السعادة ويفارق دار الهوان؛ ومن خلَّى زمام مطيته وتاه في محجته، يوشك أن تعدل به المطية إذا خلى زمامها، إلى طريق الهلكة» (جا: ٥٣-٥٤).
أما عن ماهية خطيئة النفس الجزئية التي أُهبطت بسببها إلى عالم الأجسام، فلا يحدثنا الإخوان عنها إلا بشكل غامض لا يروي غليل قارئهم:
فقوى النفس الكلية المنبعثة عنها والسارية فيما دونها في عالم الكون والفساد الذي هو دون فلك القمر هي: «آثار جزئية مرتبطة بعالم الكون والفساد، كائنة في محل الأجساد، وهي الأرواح الهابطة للزلة التي كانت منها، والخطيئة التي جنتها، فأُخرجت من الجنة وأُبعدت عن دار الكرامة، فبقيت معذبة مربوطة بالطبيعة الحسية، والتكليفات اللازمة لها في الشرائع الناموسية، جزاءً لها بما أسلفت، وليكون ذلك قربة لها إذا قبلت أوامر الشرع … فعند ذلك يكون رجوعها إلى محلها النوراني» (جا: ٧٩). وأيضًا:
«وإذا قالت الحكماء النفوس الجزئية، فإنما يعنون بها القوة المنبعثة الهابطة إلى المركز السفلي والمشتاقة إلى عالم الطبيعة، المتخلفة عن قبول الإفاضة العقلية، التي لحقها الفتور عن التسبيح والتقديس في محل الأنوار، فأُهبطت إلى قرار المركز، ووقع بها تكليف العبادة وصعوبة الطاعة … وإليه [أي إلى محل الأنوار] ترجع إذا تابت من خطيئتها واستقالت من عثرتها» (جا: ١٩٦-١٩٧).
في هبوطها إلى عالم الكون والفساد، تقطَّعت النفس الجزئية الخاطئة إلى ثلاث فرق: فرقة اتحدت بجوهرية المعدن، وفرقة بجوهرية النبات، وفرقة بجوهرية الحيوان. فعناصر الأرض ومعادنها ونباتاتها تمتلك نفوسًا جزئية مثل التي للحيوان والإنسان:
في كيفية ارتباط النفس الجزئية بالأجسام
لا يكفي لكي تعرف نفسك أن تستنبط أعماق ذاتك وتنظر في الآفاق، بل لا بد أيضًا من أن تعرف تاريخك منذ أن تكونْتَ في الرحم جسدًا وحلت فيك روحك الجزئية. وهنا يأخذنا الإخوان في رسالتهم «مسقط النطفة» في نزهة علمية وأسترولوجية، نقتطف منها ما يلي:
ثم اعلم أنه إذا تمخضت الأركان من تحريك الأشخاص الفلكية لها، واجتمع من لطائف زبدتها شيء، وشخص، وامتاز عن البسائط، رُبطت به في الوقت والساعة قوة من قوى النفس الكلية الفلكية … وتُشَخَّص تلك القوة، وتمتاز عن سائر القوى لتعلقها بتلك الزبدة واختصاصها بتلك الجملة. فعند ذلك تسمى تلك القوة نفسًا جزئية. وعند ذلك تقع الإشارة إلى تلك الجملة؛ لأنها حادث كائن، حيوانًا كان أو نباتًا أو معدنًا.
واعلم يا أخي أنه لا بد من أن يكون في ذلك الوقت وتلك الساعة درجة طالعة من أفق المشرق من الفلك، على أفق تلك البقعة التي حدثت تلك الزبدة هناك، ويكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على هيئة ما … فعند ذلك يضاف إلى تلك القوة قوى روحيات سائر الكواكب، وتجذب معها تلك الزبدة الموادَّ المشكلة لها، ويكون قبولها بحسب ما في طباع أشخاص أنواع ذلك الجنس من الأفعال والأخلاق والخواص، حيوانًا كان أم نباتًا أم معدنًا.
ثم اعلم يا أخي أن للنفس النباتية سبع قوى فعَّالة، وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والمصوِّرة، وأن أول فعلها عند استقرار النطفة في الرحم هو جذبها دم الطمث إلى الرحم وإمساكها لها هناك وهضمها.
ثم اعلم يا أخي بأنه إذا جذبت هذه القوة الدم إلى هناك، أخفته حول النطفة، وأدارته عليها كما يدور بياض البيض حول مُحِّها، فيكون عند ذلك حول النطفة كالمحَّة، ودم الطمث حولها كالبياض. ثم إن حرارة النطفة تُسخِّن رطوبة الدم، فتنضجها، فتسخن وتنعقد تلك الرطوبة، فتصير علقة، كما ينعقد اللبن الحليب من الإنفحة، وتستولي عند ذلك على تلك الجملة قوى روحانيات [كوكب] زُحل، وتبقى في تدبيراتها بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب شهرًا واحدًا ثلاثين يومًا …
واعلم يا أخي بأن ابتداء تدبير النطفة إنما صار لزحل من أجل أنه أعلى الكواكب السيارة فلكًا مما يلي فلك الكواكب [الثابتة] الذي هو مكان الجواهر الشريفة، ومنصب القوى الروحانية …
ثم اعلم يا أخي بأنه ما دام التدبير لزحل إلى تمام شهر، ثلاثين يومًا، فإن تلك العلقة تكون باقية بحالها، غير مختلطة ولا ممتزجة، بل جامدة متمسكة، جارية إليها المواد، لغلبة برد زحل وسكونه وثقل طبيعته، إلى أن يدخل الشهر الثاني، ويصير التدبير للمشتري الذي فلكه يتلو فلك زحل، وتستولي عليها قوى روحانيته، فيولد عند ذلك في تلك العلقة حرارة، وتسخن، ويعتدل مزاجها، ويختلط الماءان، ويمتزج الخلطان، ويعرض لتلك الجملة حركة مثل الاختلاج والارتعاش والهضم والنضج، فلا تزال هذا حالها ما دامت في تدبير المشتري إلى تمام شهرين. ثم يدخل الشهر الثالث ويصير التدبير للمريخ الذي يلي المشتري في الفلك، وتستولي على تلك العلقة قوى روحانيته، ويشتد اختلاجها وارتعاشها، ويتولد فيها فضل حرارة وسخونة، وتصير تلك العلقة مُضغة حمراء؛ فلا تزال تتقلب حالًا بعد حال من النضج والاستحكام بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب للمريخ إلى تمام ثلاثة أشهر. ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس رئيسة الكواكب وملكة الفلك وقلب العالم بإذن الباري جل ثناؤه.
واعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الرابع من مسقط النطفة، وصار التدبير للشمس، واستولت على المضغة روحانياتها، نفخت فيها روح الحياة، وسرت فيها النفس الحيوانية. وذلك لأن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك، وهي المستولية على الكائنات التي دون فلك القمر، وخاصة على مواليد الحيوانات ذوي الرحم، وأشد اختصاصًا بمواليد الإنس؛ وذلك أن جرمها في العالم بمنزلة جرم القلب في البدن … وسريان قوى روحانياتها في العالم كسريان الحرارة الغريزية المنبثة من القلب السارية في أعضاء البدن.
وأما سائر قوى روحانيات الكواكب، فهي لها كالجنود والأعوان … وعند ذلك تكون قد اختلطت الطبائع من الأركان الأربعة في تركيب بنية الجنين، واعتدل المزاج، وانتقشت الصورة، وأُنشئت الخلقة، وظهرت أشكال العظام، ورُكبت المفاصل، وتهندم التركيب، والتفت الأعصاب على المفاصل، وامتدت العروق في خلل اللحم، وظهرت البنية [مُخَلَّقة وغير مُخلَّقة].
فلو رأيته يا أخي لرحِمْته لضيق مكانه وضعف أحواله، ولكنه لا يحس بما هو فيه رفقًا من الله تعالى بخلقه ولطفًا بهم. وتكون سرته متصلة بسرة أمه، تمتص منها الغذاء إلى يوم الولادة، ويكون وجهه إن كان ذكرًا مما يلي ظهر أمه، وإن كان أنثى فعكس ذلك …
ثم اعلم أنه عند دخول الشهر السادس، يصير التدبير لعطارد، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيتحرك عند ذلك الجنين في الرحم، ويركض برجليه ويمد يديه، ويبسط جوارحه، ويضطرب ويحس بمكانه، ويفتح فاه، ويحرك شفتَيه، ويدير لسانه في فيه، فيكون تارة متحركًا، وتارة يسكن، وتارة ينام، وتارة يستيقظ. فلا يزال ذلك دأبه إلى أن يتم الشهر السادس ويدخل الشهر السابع، ويصير التدبير للقمر، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيربو لحم الجنين حينئذٍ، وتسمن جثته وتشتد أعضاؤه … ويحس بضيق مكانه، ويطلب التنقل والخروج؛ فإن قُدِّر له ذلك … وكان الجنين كاملًا عاش وتربى وعمَّر، وإن بقي هناك إلى أن يدخل الشهر الثامن وتدخل الشمس بيت الموت يرجع التدبير إلى زحل، فتستولي عليه قوى روحانياته، عرضَ للجنين ثقل وسكون، وغلب عليه البرد والنوم وقلة الحركة. فإن ولد في هذا الشهر كان بطيء النشوء ثقيل الحركة قليل العمر، وربما كان ميتًا. وإذا دخل الشهر التاسع … ورجع التدبير إلى المشتري، السعد الأكبر، واستولت عليه قوى روحانياته، واعتدل المزاج وقويت روح الحياة، ظهرت أفعال النفس الحيوانية في الجسد … فإذا خرج الجنين بعد ثمانية أشهر، استأنف العمر في الدنيا …
واعلم يا أخي بأن الكائنات التي تحت فلك القمر تبتدئ من أنقص الحالات وأدونها مترقية إلى أتمها وأفضلها. ويكون ذلك في مرِّ الزمان والأوقات؛ لأن طبيعتها لا تقبل فيض أشخاص فلكية دفعة واحدة، ولكن شيئًا بعد شيء على التدريج، كما يقبل المتعلم الذكي من الأستاذ الحاذق.
واعلم بأن فيضات الكواكب من محيط الأفلاك متصلة نحو مركز الأرض في دائم الأوقات، ولكنها مفننة الألوان، متغايرة الأشكال، وذلك بحسب مواضعها من أفلاكها، وموازاتها من فلك البروج، وحدودها …
[ولكن] لا ينبغي لك يا أخي أن تتوهم أو تظن أن هذه الكواكب والأفلاك التي ذكرنا أفعالها وتأثيراتها في تركيب الجسد الإنساني هي آلات وأدوات للباري، جل ثناؤه، يخلق بها الإنسان، بل إنما هي آلات وأدوات للنفس الكلية الفلكية، وهذه النفس هي عبد مطيع للباري تعالى، فقد أيدها بالعقل الكلي الذي هو مَلَكٌ من ملائكته المقربين الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا.
واعلم يا أخي أن هذه الأشخاص الفلكية، لما كانت موضوعة بعضها من بعض على النسبة الموسيقية من ثلاثة أنواع، أحدها نسبة أعظام [= أحجام] بعضها عند بعض، والآخر نسبة أبعاد مراكزها بعضها من بعض ومن الأركان الأربعة، وكذلك الثالث نسبة حركاتها في سرعة وإبطاء، فمن أجل ذلك إذا عرضت لها تلك الحالات المختلفة التي تَقدم ذكرها في الفصل الأول، اختلفت مناسباتها، فعند ذلك تختلف تأثيراتها في الكائنات بحسب اختلاف النسبة، كما تختلف أصوات الموسيقى ونغماتها عند طول الأوتار وقصرها ودقتها وغلظها، وسرعة حركات المضارب وإبطائها، فتختلف عند ذلك تأثيراتها في نفوس المستمعين بحسب اختلاف طبائعهم وآرائهم وأخلاقهم، كما بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة الموسيقى …
ثم اعلم يا أخي بأنه متَّفَقٌ بين أهل صناعة التنجيم في أحكام المواليد، أنه من يوم الولادة إلى تمام أربع سنين شمسية يكون الطفل في تدبير القمر صاحب النمو والزيادة والنشوء، وتشاركه سائر الكواكب في التدبير … ثم يصير في تدبير عطارد ثلاث عشرة سنة، وهو صاحب النطق والحركة والتعاليم والآداب والتمييز والفهم، وتشاركه في التدبير سائر الكواكب … ثم يصير المولود في تدبير الزهرة ثماني سنوات، وهي صاحبة الحسن والزينة والشهوات واللذة والرغبة في النكاح والحرص على السفاح، وتشاركها في التدبير سائر الكواكب، فيظهر من المولود في هذه المدة الرغبة في التزوج والنكاح، وطلب الشهوات والتمتع باللذات، ومحبة الزينة والحسن والجمال … والانهماك في الشهوات إلى مدة ما. ثم يصير في تدبير الشمس، صاحبة العز والرياسة والتدبير والسياسة عشر سنوات؛ ويظهر من المولود الكدخدائية في المنزل، وتربية الأولاد، وتأديب الأهل والجيران، ومراعاة أمر الأقرباء والإخوان، وطلب العز والسلطان والرفعة والعلو والشرف في المنزلة، وما شاكل ذلك … ثم يصير في تدبير المريخ سبع سنوات، وهو صاحب الحزم والعزم والشجاعة … والإنصاف والعزة. وبالجملة كل خصلة لا بد منها لساسة الأمور، وقادة الجيوش، ورعاة الجماعات، ومدبري المُلك والناموس جميعًا …
ثم يصير المولود في تدبير المشتري اثنتي عشرة سنة، وهو صاحب الدين والورع، والتوبة والندامة، والزهد والعبادة، والرجوع إلى الله، جل ثناؤه، بالصوم والصلاة، وطلب الآخرة والرغبة فيها … فإن اجتهد الإنسان وفعل ما رُسم في الشريعة من لزوم أحكامها ومفروضاتها، وعمل بما وُصف في الفلسفة وصبر عليه مدة ما، فعمَّا قليل يخف عليه كل ما هو فيه من تجاذب الطبيعتين المتضادتين، إلى أن يصير التدبير إلى زحل بعد إحدى عشرة سنة، وهو صاحب السكون والهدوء والكسل، وجمود نيران الشهوات الجسمانية، وذهاب القوى الحيوانية، واسترخاء الأعصاب، وذبول الآلات الجسدانية … فعند ذلك تقل رغبته في هذه الدنيا، وينقطع طمعه في المقام في عالم الكون والفساد. ثم يجيئه الموت الطبيعي على التدريج إذا انطفأت الحرارة الغريزية من البدن، وانسلت الروح الحيوانية من الجسد، كما ينطفئ السراج ويذهب الضوء إذا فني الدهن واحترقت الفتيلة.
فإن كان الإنسان قد ارتاض فيما مضى من عمره، وتعلم علمًا من العلوم، وأدبًا من الآداب، أو صناعة من الصنائع، أو تديَّن بمذهب من الآراء، أو عمل عملًا من الأعمال يُهدى به إلى طريق الآخرة وأمر المعاد، فإنه يُرجى لتلك النفس أن تهتدي إلى الرجوع إلى عالمها النفساني ومحلها الروحاني، واللحوق بأبناء جنسها الذين مضوا قبلها، ووصلوا إلى هناك، وتخلصوا من دركات عالم الكون والفساد …
… وقد تبين بما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم مدة ما، إنما هو لكي يتم الجسد وتُستكمل صورة البدن، والغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا بعد الولادة. وكذلك أيضًا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل [في هذه الدنيا، و] الذي هو تحت الأمر والنهي، إما بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس ونواهيه، وفي طول عمره الطبيعي مدة ما، إنما هو لأن تتم فضائل النفس، وتُستكمل أخلاقها المختلفة، ومعارفها الربانية، بالتأمل والبحث في النظر، والسعي والاجتهاد في العمل، كما ذُكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية، أو بما رُسم في الناموس من الوصايا والأوامر والنواهي. كل ذلك لكي تستكمل النفس فضائل الملائكة فيها» (منتخبات من الرسالة ٢٥، م٢، ص٤١٧–٤٥٥).
فالإنسان العاقل يستطيع والحالة هذه معرفة حقائق الوجود باستخدام عقله وبصيرته، والعمل وفق ما جاء به الحكماء والفلاسفة في عمره المديد في هذه الدنيا، لينتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويتهيَّأ لرحلة خلاص النفس من عالم الكون والفساد. ولكن الناس كلهم ليسوا مهيئين لمثل هذا الاعتماد على النفس، وكثير منهم لا يسمح له عمره القصير الذي لا يصل أقصى مداه بتحقيق هذا العرفان. وهنا يأتي دور الأديان المُنزلة من السماء لأمثال هؤلاء:
«اعلم يا أخي أن الله، جل ثناؤه، لما علم بأن أكثر الناس لا يعيشون أعمارًا طبيعية على التمام، ولا يُتركون في الدنيا زمانًا طويلًا تُهذب فيه نفوسهم وتُستكمل فضائلهم، لطف بهم من أجل ذلك، وبعث إليهم الأنبياء، والرسل واضعي النواميس بالوصايا والأوامر والنواهي والسنن الزكية والشرائع المَرْضِيَّة، إذا استعملوها على نحو ما رُسم لهم استتمت فضائل نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم، [حتى] وإن كانوا قصيري الأعمار … فهذا هو حكم نفوس البالغين الذين هم تحت الأمر والنهي. وأما حكم نفوس الأطفال والمجانين [إذا قضوا]، فهي تنجو بشفاعة الآباء والأمهات والأنبياء والمرسلين» (٢٥: ٢، ٤٥٤-٤٥٥).
في معرفة الجسد وأحواله
لما كان الإنسان مثنويًّا في تكوينه، مؤلفًا من جسد ونفس شريفة، فإن معرفته بجسده هي جزء لا يتجزأ من معرفته بنفسه. ومعرفة الجسد تبتدئ عند الإخوان من فهم كيفية تركيبه ووظائف أعضائه، بما فيها الدماغ والجملة العصبية، وتنتهي بآليات الإحساس والإدراك، ونظريتهم في المعرفة.
- أحدها: النظر في حالات الجسد ما هو، وكيف هو من تركيب أجزائه وتأليف أعضائه، وما الصفات المخصوصة به خلوًا من النفس.
- والجهة الثانية: النظر في أمر النفس مجردة من الجسد، وقواها وما هي، وكيف هي، وما الصفات المخصوصة بها.
- والجهة الثالثة: النظر في مجموعهما وما يظهر من جملتهما من الأخلاق والأفعال … وما شاكل ذلك.
ونبتدئ أولًا بذكر حالات الجسد وصفاته بكلام مختصر، كيما يكون دليلًا على أمر النفس وحالاتها؛ لأن الجسد ظاهرة مكشوفة مُخيلة مُدْرَكة بالحواس، وأما أمر النفس وحالاتها فغائب عن إدراك الحواس، وباطن في عمق الجسد، مستور خفي، وإنما يُدرَك بالعقل.
فاعلموا، أيها الإخوان، أن الشاهد من حالات الجسد يدل على الغائب من حالات النفس، والظاهر يدل على الباطن … والمحسوس على المعقول. وقد قلنا في الرسالة الأولى [من قسم: الجسمانيات الطبيعيات]: إن الجسد مؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وما شاكلها. وهذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة ثقيلة متجزئة متغيرة فاسدة. وأما النفس فإن جواهرها سماوية روحانية ناطقة نورانية، غير ثقيلة ولا متجزئة، وغير فاسدة بل متحركة باقية علَّامة درَّاكة لصور الأشياء وحقائقها.
وفي كيفية تركيب الجسد وكيفية أخلاط البدن ومزاج الطبائع، فنقول: اعلم، وفقك الله، أن الباري تعالى لما خلق الجسد وسوَّاه، ونفخ فيه من روحه وأحياه، ثم أسكن فيه النفس وأولاه، وكان مَثلُ أساس بنية الجسد وتركيب أجزائه وتأليف أعضائه كمثل أساس بناء مدينة بُنيت من أشياء مختلفة … فأُحكمت بنيتها، وشُيد بنيانها …
وذلك أن الله تعالى لمَّا أراد تركيب الجسد ابتدأ أولًا فاخترع أربع طبائع منفردات، متعاديات القوى بسلطانها بعضها على بعض، ثم ألَّف بين كل اثنتين منها [وهي: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة]. و(اخترع كذلك) أربعة أركان مزدوجات مؤتلفات الطبائع متناسبات القوى من أركانها [وهي: النار، والهواء، والماء، والأرض]. ثم أسس بنية هذا الجسد من هذه الأركان الأربعة التي هي أساسٌ لبنيانها [أي لبنيان المدينة التي يشبَّه جسد الإنسان بها]، ثم ابتدأ بنيانها من أربعة أخلاط متعاديات طباعها متناسبات قواها، التي هي مجموعات من أصل أركانها [وهي: الصفراء، والدم، والبلغم، والسوداء]. ثم جمع هذه الأخلاط الأربعة، فخلق منها تسعة جواهر مختلفة أشكالها هي ملاك بنيانها [وهي: العظام، والمخ، والعصب، والعروق، والدم، واللحم، والجلد، والظفر، والشعر]. ثم ألَّفها وركب بعضها فوق بعض عشر طبقات متصلات بهندامها [وهي: الرأس، والرقبة، والصدر، والبطن، والجوف، والحقو، والوركان، والفخذان، والساقان، والقدمان]. ثم أسندها وأقامها بمائتين وثمانية وأربعين عمودًا مستويات القدِّ أقرانًا [وهي العظام، ٢٤٨ عظمة]. ثم سمَّرها ومد حبالها وشد أوصالها بسبعمائةٍ وخمسين رباطًا، ممدودات محتويات، ملتفات عليها كالحبال [وهي الأعصاب]. ثم قدَّر بيوتها وقسم خزائنها، وأودع إحدى عشرة خزانة معمورة مملوءة من الجوهر مختلفة أنواعها وألوانها [وهي: الدماغ، والنخاع، والرئة، والقلب، والكبد، والمرارة، والطحال، والمعدة، والأمعاء، والكليتان، والأُنثيان]. وخطَّ شوارعها وأنفذ طرقاتها، وجعل لها ثلاثمائة وستين مسلكًا لسكانها [وهي العروق الضوارب]، واستخرج منها عيونًا، وشق فيها أنهارًا هي ثلاثمائة وتسعون جدولًا مختلفات في الجهات لجريانها [وهي الأوردة]. وفتح على سورها اثني عشر روزنًا [= كوة] مزدوجات المسالك لجريانها [وهي: العينان، والأذنان، والمنخران، والسبيلان، والثديان، والفم، والسرة]. وأحكم بناء هذه المدينة على أيدي سبعة صناع متعاونين، هم خدامها [وهي: القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة النامية، والقوة المصوِّرة]، ووكَّل بحفظها خمسة حراس حرَّاسًا على حفظ أركانها [وهم الحواس الخمس].
ثم رفع هذه المدينة في الهواء على رأس عمودين [هما الرجلان]، وحرَّكها على ست جهات بجناحين [وهما اليدان اللتان تشيران إلى الجهات الست التي هي قدام وخلف ويمنة ويسرة وفوق وتحت]، ثم أسكن فيها ثلاث قبائل من الجن والإنس والملائكة، وجعلهم سكانها [وهي النفس الشهوانية (= النباتية) التي هي في أخلاقها وأفعالها كالجن، والنفس الحيوانية التي هي في أخلاقها وأفعالها كالإنس، والنفس الناطقة التي هي في تمييزها ومعارفها كالملائكة]، ثم رأس عليهم ملكًا واحدًا وعلمه أسماء من فيها وأمره بحفظها، وأمرهم بطاعته [وهو العقل]» (٢٣: ٢، ٣٧٨–٣٨٢).
«اعلم أن النظر في ماهية النفس مجردة من الجسد، والتصور بذاتها خلوًا منه، عسِرٌ جدًّا على المرتاضين بالرياضيات الحِكمية، فكيف على غيرهم؟ ولكنه إذا نظر إلى ما يظهر من أفعالها في الجسد، واعتبر تصرُّف أحوالها مع الجسد، يسهُل عليه ذلك، ويَقرُب من فهم المتعلمين، والتصور في أفكار المتفكرين وجودها، وتبيُّن شرف جوهرها. ونريد أن نُبيِّن من ذلك طرفًا ونضرب أمثالًا، كيما يكون أوضح للبيان وأقرب من فهم المبتدئين، وأبلغ للتصور في أفكار المفكرين، فنقول:
اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها بنيت وأُحكم بناؤها، وقُسمت بيوتها، ومُلئت خزائنها، وسُقفت سطوحها، وفتحت أبوابها، وعلقت ستورها، وأُعدَّ فيها كل ما يحتاج صاحب المنزل في منزله … ثم إن هذا الجسد لهذه النفس، من جهة أخرى، بمنزلة دكان الصانع، وإن جميع أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أدوات الصانع في دكانه، وإن النفس بكل عضو تُظهر ضروبًا من الأفعال وفنونًا من الحركات. [وذلك] كالنجار، فإنه ينحت بالفأس وينشر بالمنشار ويثقب بالمثقب … وعلى هذا القياس سائر الصُّناع، كل واحد منهم يعمل بأدوات مختلفة أعمالًا مختلفة وحركات متباينة.
فهكذا حال النفس، [فإنها] تبصر بالعينين وتسمع بالأذنين، وتشم بالمنخرين … وتتفكر بواسطة الدماغ الأشياء … وتصوِّت بالحلقوم … وبالجملة ما من عضو في الجسد إلا وللنفس فيه ضروب من الأفعال وفنون من الأعمال.
«ثم اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس الساكنة فيه يشبه مدينة عامرة بأهلها مأنوسة بسكانها. وحالات الجسد تشبه حالات المدينة، وتصرُّف النفس يشبه تصرفات أهل المدينة فيها …
ثم اعلم أن في هذه النفس الساكنة في هذا الجسد قوى طبيعية وأخلاقًا غريزية منبثَّة في أعضاء هذا الجسد، تشبه قبائل أهل تلك المدينة وشعوبها النازلين في المحال بتلك المدينة، وأن لتلك القوى وتلك الأخلاق أفعالًا وحركات منبثة في أوعية هذا الجسد، ومجاري مفاصله تشبه أفعال أهل تلك المدينة في منازلهم، وحركاتهم في طرقاتها، وأعمالهم في أسواقهم. فأما القوى الطبيعية والأخلاق الغريزية التي تشبه القبائل والشعوب فهي ثلاثة أجناس:
فمنها قوى النفس النباتية [= الشهوانية]، ونزعاتها وشهواتها، فضائلها ورذائلها، ومسكنها الكبد، وأفعالها تجري مجرى الأوراد إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الحيوانية، وحركاتها وأخلاقها وحواسها وفضائلها ورذائلها. ومسكنها القلب، وأفعالها تجري مجرى العروق الضوارب إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الناطقة، وتمييزاتها ومعارفها، وفضائلها ورذائلها؛ ومسكنها الدماغ، وأفعالها تجري مجرى الأعصان إلى سائر أطراف الجسد.
ثم اعلم أن هذه النفوس الثلاث ليست متفرقات متباينات بعضها من بعض، ولكنها كلها كالفروع من أصل واحد، متصلات بذات واحدة كاتصال ثلاثة أغصان من شجرة واحدة، تتفرع من كل غصن عدة قضبان، ومن كل قضيب عدة أوراق وثمار … فهكذا أمر النفس، فإنها واحدة بالذات، وإنما تقع عليها هذه الأسماء بحسب ما يظهر منها من الأفعال. وذلك إذا فعلت في الجسم الغذاء والنمو، فتسمى النفس النامية، وإذا فعلت في الجسم الحس والحركة والنقلة فتسمى النفس الحيوانية، وإذا فعلت الفكر والتمييز، فتسمى النفس الناطقة» (٢٣: ٢، ٣٨٣–٣٨٧).
«اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من تركيب جسد الإنسان، وبيان أنه عالم صغير، وأن بنية هيكله تشبه مدينة فاضلة، وأن نفسه تشبه ملِكًا في تلك المدينة، فنريد الآن أن نذكر طرفًا من المعلومات فنقول:
إن علم الإنسان بالمعلومات يكون من ثلاثة طرق، أحدها: طريق الحواس الخمس الذي هو أول الطرق، ويكون جمهورَ علم الإنسان، ويكون معرفته بها من أول الصبا، ويشترك الناس كلهم فيها وتشاركهم الحيوانات. والثاني: طريق العقل الذي ينفصل به الإنسان دون سائر الحيوانات، ومعرفته به تكون بعد الصبا عند البلوغ. والثالث: طريق البرهان الذي يتفرد به قوم من العلماء دون غيرهم من الناس، وتكون معرفتهم بها بعد النظر في الرياضيات الهندسية والمنطقية» (٢٤: ٢، ٣٩٦-٣٩٧).
«[أما] وقد بيَّنَّا لمَ صارت طرق العلوم ثلاثة … فنريد أن نذكر الآن طرق الحواس الخمس، ونصِف كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها … فنقول أولًا: ما الحواس الخمس؟ وما القوى الحساسة؟ وما الحس؟ وما الإحساس؟ وما المحسوسات؟ جواب ذلك:
فاعلم أن الحواس هي آلات جسدانية، وهي خمس: العين، والأذن، واللسان، والأنف، واليد. وذلك أن كل واحد منها عضو من الجسد.
وأما القوى الحساسة فهي قوى روحانية نفسانية، يختص كل منها بعضو من أعضاء الجسد.
وأما المحسوسات، فالأشياء المُدركة بالحواس. والمدركة بالحواس هي أعراض حالَّةٌ في الأجسام الطبيعية، مؤثرة في الحواس، مغيرة لكيفية مزاجها.
والحس هو تغيير مزاج الحواس عن مباشرة المحسوس لها. والإحساس هو شعور القوى الحساسة لتغييرات كيفية أمزجة الحواس.
بيان ذلك أن القوة الباصرة مجراها في العينين، وهي مستبطِنة الحدقتين في الرطوبة الجلدية. والقوة السامعة مجراها في الأذنين، وهي مستبطنة الصماخين مما يلي البطن المؤخر من الدماغ. والقوة الشامة مجراها في المنخرين، وهي مستبطنة الخياشيم مما يلي البطن المقدم من الدماغ. والقوة الذائقة مجراها الفم، وهي مستبطنة في رطوبة اللسان. والقوة اللامسة مجراها في عامة سطح بدن الحيوان الرقيق الجلد، ولكنها في الإنسان أظهر وخاصة في الأنمُلة، وهي مستبطنة في الجلدين اللذين أحدهما ظاهر البدن والآخر مما يلي.
واعلم أن المحسوسات كلها خمسة أجناس، منها المدركات بطريق اللمس … والجنس الثاني المدركات بطريق الذوق التي هي الطعوم … والجنس الثالث هي الروائح المدركة بطريق الشم … والجنس الرابع هي الأصوات المدركة بطريق السمع … والجنس الخامس هي المبصرات المدركات بطريق البصر» (٢٤: ٢، ٣٩٧–٤٠٢).
بعد ذلك ينتقل الإخوان إلى شرح كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها واحدًا واحدًا. ولسوف نقتصر هنا على ذكر كيفية إدراك القوة السامعة والقوة الباصرة. والإخوان هنا يتفقون مع كل ما نعرفه حاليًّا عن هذا الموضوع، ويستخدمون مصطلحات ما زالت الفيزياء الحديثة تستخدمها:
«أما إدراك القوة السامعة لمحسوساتها التي هي الأصوات … [فإن] كل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام. وذلك أن الهواء لشدة لطافته، وخفة جوهره، وسرعة حركة أجزائه، يتخلل الأجسام كلها؛ فإذا صادم جسم جسمًا انسل ذلك الهواء من بينهما بحميَّةٍ وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، فحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزَّجاج [= صانع الزجاج] فيها، أو الماء الساكن إذا أُلقي فيه حجر فيتزاحم الماء حتى يبلغ أطراف الغدير، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل. فمن كان حاضرًا من الناس وسائر الحيوانات التي لها أذن بالقرب من ذلك المكان، تموج ذلك الهواء الذي هناك، فأحست عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة والتغير.
واعلم أن كل صوت له نغمة وصيغة وهيئة روحانية خلاف الصوت الآخر، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل الأصوات بهيئتها وصيغتها، ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض فتفسد هيئتها، إلى أن يُبلغها أقصى مدى غاياتها عند القوة السامعة، لتؤديها إلى القوة المتخيلة …
أما كيفية إدراك القوة الباصرة لمحسوساتها التي هي عشرة أنواع: أولها الأنوار والظُّلُم، والألوان، والسطوح، والأجسام أنفسها، وأشكالها، وأبعادها، وحركاتها، وسكونها، وأوضاعها. فالمدرَك من هذه الأنواع بالحقيقة والذات [هما] النور والظلمة حسب، إلا أن الظلمة شيء يُرى ولا يُرى بها شيء آخر، والنور هو الذي يُرى ويُرى به شيء آخر …
ثم اعلم أن النور والظلمة لونان روحيان، وأن السواد والبياض لونان جسمانيان، وأن النور مُشاكل للبياض، وأن الظلمة مُشاكلة للسواد. وذلك أن البياض يلوح على سائر الألوان كما أن في النور تُرى سائر المرئيات، وعلى السواد لا تتبين الألوان وفي الظلمة لا يُرى شيء.
ثم اعلم أن النور والظلمة يسريان في الأجسام المُشفَّة كسريان الروح في الجسد، وينسلَّان منها بلا زمان. ولكن الضوء إذا سرى في الأجسام المُشفة حمل معه ألوان الأجسام وأوصافها حملًا روحانيًّا، وحفظها بهيئتها، حتى لا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئتها، كما حمل الهواء الأصوات بهيئتها، كما وصفنا قبل، حتى يُبلغها أقصى مدى غايتها عند القوة الباصرة المستبطَنة في الرطوبة الجلدية التي في الحدقتين.
ثم اعلم أن الحدقتين هما أحد الأجسام المشفة، وهما مرآتا الجسد. وذلك أنَّهما رطوبتان مغطاتان بغشاءَينِ شفافين، وهما غشاءا القرنية. فإذا سرى الضوء في الأجسام المشفة، وحمل معه ألوان الأجسام الحاضرة، واتصل بحدقتي الحيوان الحاضرة هناك، وسرى فيهما كسريانه في سائر الأجسام المشفة، انطبعت الجليدية بتلك الألوان كما ينطبع الهواء بالضياء، فعند ذلك تحس القوة الباصرة بذلك التغيير، فتؤدي خبره إلى القوة المتخيلة، كما تؤدي سائر القوى الحساسة أخبار محسوساتها …
وقد ظن كثير من أهل العلم أن إدراك البصر المُبصرات إنما يكون بشعاعين يخرجان من العينين، وينفذان في الهواء وفي الأجسام المشفة، ويدركان هذه المبصرات؛ وهذا ظنُّ من لا رياضة له بالأمور الروحانية، ولا بالأمور الطبيعية، ولو ارتاض فيها لبان صحة ما قلنا ووصفنا …
[أما] في كيفية وصول آثار المحسوسات إلى القوة المتخيلة، فنقول: إنه ينتشر من مقدم الدماغ عُصبات لطيفة لينة تتصل بأصول الحواس، وتتفرق هناك، وتنسج في أجزاء جرم الدماغ كنسج العنكبوت. فإذا باشرتْ كيفيةُ المحسوسات من أجزاء الحواس وتغيَّرَ مزاج الحواس عندها، وغيَّرتها عن كيفياتها، وصل ذلك التغيير في تلك الأعصاب التي في مقدم الدماغ، والتي منشؤها من هناك كلها، فتجتمع آثار المحسوسات عند القوة المتخيلة، كما تجتمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة، فيوصل تلك الرسائل كلها إلى حضرة الملك. ثم إن الملك يقرؤها ويفهم معانيها، ثم يسلمها إلى خازنه ليحفظها، فيحفظها إلى وقت الحاجة إليها.
فهكذا حكم القوة المتخيلة إذا اجتمعت عندها آثار هذه المحسوسات التي أدتها إليها القوة الحساسة، دفعتها إلى القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، لتنظر فيها وترى في معانيها، ثم يسلمها إلى خازنه ليحفظها، فيحفظها إلى وقت الحاجة إليها.
فهكذا حكم القوة المتخيلة إذا اجتمعت عندها آثار هذه المحسوسات التي أدتها إليها القوة الحساسة، دفعتها إلى القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، لتنظر فيها وترى في معانيها، وتعرف حقائقها ومضارها ومنافعها، ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار …» (٢٤: ٢، ٤٠٧–٤١١).
هذه القوى الثلاث يميزها إخوان الصفاء عن القوى الحساسة بكونها روحانية، ويضيفون إليها قوتين أخريين هما الناطقة والصانعة:
«اعلم وفقك الله، أن للنفس الإنسانية خمس قوى أُخر روحانية، سيرتُها غير سيرة الخمس الحساسة الجسمانية، وهي القوة المتخيلة والمفكرة والحافظة والناطقة والصانعة وذلك بإدراكها رسوم المعلومات إدراكًا روحانيًّا من غير هيولاها. فأما الحساسة فلا تدرك محسوساتها إلا في الهيولى. وأيضًا فإن هذه القوى الروحانية تتناول رسوم المعلومات بعضها من بعض، على غير سيرة الحساسة. وذلك أن القوى الحساسة كل واحدة منها مختصة بإدراك جنس من المحسوسات؛ وذلك أن الباصرة لا تدرك الأصوات ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات إلا الألوان. وهكذا الشامة والذائقة واللامسة، كل واحدة لا تشارك غيرها في محسوساتها.
وأما القوى الخمس الروحانية، فإنها كالمتعاونات في إدراكها رسوم المعلومات. وذلك أن القوة المتخيلة إذا تناولت رسوم المحسوسات كلها، وقبلتها في ذاتها كما يقبل الشمع نقش الفص، فإن من شأنها أن تناولها كلها إلى القوة المفكرة من ساعتها، فإذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، بقيت تلك الرسوم مصورة صورة روحانية في ذاتها، كما يبقى نقش الفص في الشمع المختوم مصوَّرًا بصور روحانية مجردة عن هيولاها، فيكون عند ذلك لها كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
ثم إن من شأن القوة المفكرة أن تنظر إلى ذاتها وتراها [أي رسوم المحسوسات] معايَنة، وتتروى فيها وتميزها، وتبحث عن خواصها ومنافعها ومضارها. ثم تؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار. ثم إن من شأن القوة الناطقة التي مجراها على اللسان، إذا أرادت الإخبار عنها والإنباء عن معانيها والجواب للسائلين عن معلوماتها، ألقت لها ألفاظًا من حروف المعجم، وجعلتها كالسمات لتلك المعاني التي في ذاتها، وعبَّرت عنها للقوة السامعة من الحاضرين.
ولما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظها [منها]، ثم تضمحل، احتالت الحكمة الإلهية بأن قيدت معاني تلك الألفاظ بصناعة الكتابة. ثم إن من شأن القوة الصانعة أن تصوغ لها من الخطوط الأشكال بالأقلام، وتودعها وجوه الألواح وبطون المطامير، ليبقى العلم مفيدًا فائدة من الماضين للغابرين، وأثرًا من الأولين للآخرين» (٢٤: ٢، ٤١٤-٤١٥).
والآن، إذا كانت هذه هي القوى التي يحصل بواسطتها الإنسان على معلوماته، وأنواعها خمسٌ حسية وخمسٌ روحانية، فإلى أي حد تبلغ طاقته في المعارف؟ وإلى أي حد مبلغه من العلوم؟
ثم اعلم أن العلم غذاء للنفس وحياة لها، كما أن الطعام وجميع المتناولات غذاء وشراب للجسد وحياة له.
ثم اعلم أن العلم بالأشياء، بعضه طبيعي غريزي مثل ما يدرَك بالحواس ومثل ما في أوائل العقول [= البديهات]، وبعضها تعليمي مكتسب مثل الرياضيات والآداب، وما يأتي به الناموس. فمن الناس من لا يرغب في التعلم والتأدب، بل يتكل على ما تدركه الحواس أو ما في قرائح العقول، ومنهم مَنْ يرغب في التعلم والتأدب، لكن من الناس من لا يقبل من العلم إلا ما يتصور في نفسه أو يقوم عليه برهان هندسي أو منطقي، ومنهم طائفة لا تقبل إلا ما يدل عليه قول الشاعر، وطائفة لا تقبل إلا برواية وخبر، ومنهم طائفة لا تقبل إلا بالاحتجاج والجدل، ومنهم مَنْ يرضى بالتقليد ويقنع بذلك.
وينبغي لنا أن نبين مبلغ قوة الإنسان في إدراك المعلومات والمحسوسات إلى أي نهاية، وهي جهده وطاقته في معرفة حقائق الأشياء، وإلى أي حد ينتهي؛ لأن في الناس طائفة من العقلاء لمَّا تفكروا في حدوث العالم، وبحثوا عن العلة الموجبة لكونه، بعد أن لم يكن، لم يعرفوها ولم يتصوروا في عقولهم بدء كون العالم، فدعاهم جهلهم عند ذلك إلى القول بقدم العالم. ومنهم مَنْ لاح له شيء غير ما لاح للآخر، فاختلفت أقاويلهم في حدوث العالم والعلة الموجبة لكونه …
ثم اعلم أن من تفكَّر في كيفية حدوث العالم وعلة حدوثه بعد أن لم يكن، ويريد أن يعرفها أو يتصور كيف كان ذلك، وهو جاهل لا يعرف كيفية تركيب جسده، ولا يتفكَّر في بنية هيكله، ولا يدري كيف كان بدءُ كونِ ذاتها، ولا يعلم ماهية جوهر نفسه ولا كيفية ارتباطها بجسده، ولا لأي علة رُبطت به بعد أن لم تكن مربوطة، ولا لأي علة تفارق الجسد في آخر العمر … هو يريد أن يعرف بدء كون العالم وكيفية حدوثه، وما تلك العلة الموجبة لكونه، مع جهله بما ذكرنا من هذه الأشياء التي هي أقرب إلى فهمه وأسهل لتعليمه، وأمكن لتصوره، فمثله كمثل رجل لا يطيق حمل مائة رطل، فهو يتكلف حمل ألف رطل، أو كمثل من لا يقدر على المشي، وهو يريد أن يعدو …
ثم اعلم أنه إذا اعتُبر أحوال الإنسان ومجاري أموره من ذلك، وحال جثته، فإنه متوسط بين الصغر والكبر، فلا صغير جدًّا ولا كبير مفرطًا؛ فهكذا حال بقائه، فلا هو طويل العمر في الدنيا، ولا قصير المدة فيها؛ وهكذا حال وجوده، فلا هو متقدم الوجود على الأشياء، ولا متأخر عنها … وهكذا حال رتبته في الشرف والدماثة متوسط؛ لأن من الموجودات ما هو أشرف منه كالملائكة المقربين، ومنها ما هو أدون منه كالبهائم؛ وهكذا حاله في القوة والضعف متوسط، فلا هو قوي متين ولا ضعيف مهين … وهكذا حال قوة حواسه على إدراك المحسوسات، فلا يحس منها إلا المتوسطات بين الطرفين. وذلك أن القوة الباصرة لا تقوى على إدراك الألوان في الظلمة الظلماء، ولا على إدراكها في النور الباهر … وهكذا قوة السمع لا تطيق استماع الصاعقة لشدتها وجلالتها، ولا تقوى أيضًا على إدراك دبيب النملة …
وهكذا قوة عقل الإنسان متوسطة، [فهو] لا يقوى على تصور الأشياء المعقولة إلا ما كان متوسطًا بين الطرفين من الجلالة والخفاء. وذلك أن من الأشياء المعقولة ما لا يمكن عقل الإنسان إدراكه وإحاطة العلم به لجلالته وشدة ظهوره وبيانه ووضوحه مثل جلالة الباري عز وجل، فإنه لا يقوى عقل الإنسان على إدراكه وإحاطة العلم بماهية ذات جلالته، وذلك لشدة ظهوره ووضوح بيانه، لا لخفاء ذاته وشدة كتمانه؛ و[أيضًا] مثل عجز الإنسان عن تصور صورة العالم بكليته، لشدة كبره وظهوره لا لصغره وخفائه؛ ومثل عجزه أيضًا عن إدراك الصور المجردة عن الهيولى لشدة صفائها ولطافتها ونفوذها في الأشياء …
ثم اعلم أنه ليس إلى معرفة علل هذه الأشياء وصولٌ إلا أن تؤخذ من الأنبياء، عليهم السلام، تقليدًا كما أخذوها عن الملائكة تسليمًا.
ثم اعلم أن نسبة علم البشر إلى علم الملائكة ومعرفتهم، كنسبة علم حيوان البحر إلى حيوان البر ومعرفتها بأمورها، وكعلم حيوان البر إلى علم البشر ومعرفته بأمورها. وذلك أن حيوان الماء لها حس وحركة وتمييز تتصرف بها من طلب غذائها ومصالحها ومنافعها والهرب من عدوها وعرفانها ذكرانها وإناثها وأبناء جنسها؛ فأما إحساسها بأحوال حيوان البر ومعرفتها بأمورها، فليس لها إلى معرفة ذلك إلا شيء يسير. وهكذا علم حيوان البر بأحوال البشر ومعرفتها بأمور الناس، فليس لها إلا شيء يسير. وهكذا علم البشر بأحوال الملائكة، ومعرفتهم بأمور الذين في فضاء الأفلاك وطبقات السماوات، فليس لهم بها علم إلا شيء يسير. وهكذا أحوال الملائكة في مراتبها ومقاماتها، متفاوتة متباينة، الأول فالأول والأشرف فالأشرف. وفوق كل ذي علم عليم وإلى ربك المنتهى …
أخيرًا نعيد القول بأن معرفة النفس ليست غاية مقصودة لذاتها، بل لغاية أكثر سموًّا ورفعة، وهي الارتقاء بهذه النفس من عالم المادة إلى ملكوت الروح. وذلك بأنَّ:
«النفوس الجزئية إنما رُبطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية، كيما تكْمُل فضائلها وتُخرج كل ما في القوَّة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات، ولم يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها، كما أن الباري، جل ثناؤه، لم يكن إظهار جوده وفيض إحسانه وأفضاله وإنعامه إلا بإيجاده هذا الهيكل العظيم المبني بالحكمة، المصنوع بالقدرة، أعني الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الكائنات، وتدبيره لها وسياسته إياها» (٩: ١، ٣١٨).
فالغاية القصوى لحياة النفس في الجسد وفي هذا العالم هو الارتقاء بها من الحالة الدنيا إلى حالة الكمال التي تؤهلها للانعتاق والنجاة من أسر الطبيعة. والإخوان في سياق تعليمهم الخاص بارتقاء النفس قد وضعوا الأسس الأولى لنظرية ارتقاء الأنواع مما قالت به الداروينية بعدهم بنحو ألف عام. وهذا ما يقودنا إلى الفصل التالي.